البحث

عبارات مقترحة:

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

البارئ

(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...

الوارث

كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...

والآخرة خير وأبقى

العربية

المؤلف عبد الملك البحري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الزهد - الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
  1. قيمة الحياة الدنيا .
  2. خبر شريكي بني إسرائيل المؤمن والكافر وعاقبتهما .
  3. مقارنة بين نعيم الجنة وعذاب النار وزقُّومها .
  4. وجوب الفرار إلى الله وحمْل همِّ الآخرة .
  5. صفات أصحاب هَمّ الدنيا وأصحاب هَمّ الآخرة .

اقتباس

الحياة تمضي، والأيام تسرع، والمراحل تطوى، والأعمار تقل؛ ولا غنيمة إلا بالإيمان والعمل الصالح، ذلك وربي هو المتجر الرابح، والطريق الأقوم، والسبيل الواضح، والاختيار الأسلم، والخيار الناجح.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

عباد الله،  دقاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ لهُ إنّ الحياةَ دقائقٌ وثوانِ

الحياة تمضي، والأيام تسرع، والمراحل تطوى، والأعمار تقل؛ ولا غنيمة إلا بالإيمان والعمل الصالح، ذلك وربي هو المتجر الرابح، والطريق الأقوم، والسبيل الواضح، والاختيار الأسلم، والخيار الناجح.

بسم الله الرحمن الرحيم: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر].

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر:29].  

(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف:46].

ولي وقفة مع هذه الآية بالذات أقول فيها: يا أصحاب الآمال والأحلام، يا من تركضون وراء الدنيا ركض الوحوش في البرية، تارة تأخذونها من حلال وتارة من حرام.

يا من تسعون -كما تزعمون- لتأمين المستقبل، يا من تعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وأنتم عن الآخرة وأعمالها غافلون، أدعوكم إلى سماع هذه الآية وترديدها مرة بعد مرة: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا).

... والله والله يا عباد الله! لَتسبيحة واحدة خير من دارٍ وعقار وزوجة وولد واستثمار! والله والله! لشهود صلاة من أولها مع الجماعة خير من مركب وطيء، ومطعم شهي، ومشرب هني! والله والله! لَتعلُّم آية من كتاب الله خير من حديقة غناء، وامرأة حسناء! والله والله! لَرَكعتان في جوف الليل أو بين أذان الفجر وإقامته خير من قناطير مقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث؛ أتدرون ما السبب؟ (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران:14].  

وفي الخبر الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها".

وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا اله إلا الله، والله أكبر؛ أحب إلي مما طلعت عليه الشمس".

عباد الله: يذكر ابن كثير نقلاً عن ابن أبي حاتم بسنده عن السدي -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [الصافات:51-59].

كان شريكان في بني إسرائيل أحدهما مؤمن والاَخر كافر فافترقا على ستة آلاف دينار، لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، ثم افترقا فمكثا ما شاء الله -تعالى- أن يمكثا, ثم التقيا، فقال الكافر للمؤمن: ما صنعت في مالك؟ أضربت به شيئاً؟ أتجرت في شيء؟ فقال له المؤمن: لا؛ فما صنعت أنت؟ فقال اشتريت به أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً بألف دينار. قال: فقال له المؤمن: أوَفَعَلْتَ؟ قال نعم.

قال: فرجع المؤمن، حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله -تعالى- أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال: اللهم إن فلاناً -يعني شريكه الكافر- اشترى أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً بألف دينار ثم يموت غداً ويتركها، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً في الجنة.  قال: ثم أصبح فقسمها في المساكين. 

قال: ثم مكثا ما شاء الله -تعالى- أن يمكثا، ثم التقيا، فقال الكافر للمؤمن: ما صنعت في مالك؟ أضربت به في شيء؟ أتجرت به في شيء؟ قال لا. قال: فما صنعت أنت؟ قال: كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها فاشتريت رقيقاً بألف دينار يقومون لي فيها ويعملون لي فيها. فقال له المؤمن: أوَفَعَلْتَ؟ قال: نعم.

قال: فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله -تعالى- أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال: اللهم إن فلاناً -يعني شريكه الكافر- اشترى رقيقاً من رقيق الدنيا بألف دينار يموت غداً فيتركهم أو يموتون فيتركونه, اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف الدينار رقيقاً في الجنة. قال: ثم أصبح فقسمها في المساكين.

قال: ثم مكثا ما شاء الله -تعالى- أن يمكثا، ثم التقيا، فقال الكافر للمؤمن: ما صنعت في مالك؟ أضربت به في شيء؟ أتّجرت به في شيء؟ قال: لا؛ فما صنعت أنت؟ قال: كان أمري كله قد تم إلا شيئاً واحداً: فلانة قد مات عنها زوجها فأصدقتها ألف دينار فجاءتني بها ومثلها معها. فقال له المؤمن: أوَفَعَلْتَ؟ قال: نعم.

قال: فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله -تعالى- أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية فوضعها بين يديه وقال: اللهم إن فلاناً -يعني شريكه الكافر- تزوج زوجة من أزواج الدنيا بألف دينار، فيموت غداً فيتركها أو تموت غداً فتتركه، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار حوراء عيناء في الجنة: قال: ثم أصبح فقسمها بين المساكين.

فلبس قميصاً من قطن وكساء من صوف، ثم أخذ مرا فجعله على رقبته يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته، ثم ذكر أنه أَجَّرَ نفسه لرجل مشاهرة؛ ولكن الرجل كان يسيء إليه، فقال: لآتِينَّ شريكي الكافر، فلأعملن في أرضه، فيطعمني هذه الكسرة يوما ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا.

فانطلق يريده، فلما انتهى إلى بابه وهو مُمْسٍ فإذا قصر مشيد في السماء، وإذا حوله البوابون، فقال لهم: استأذنوا لي صاحب هذا القصر، فإنكم  إذا فعلتم  سره ذلك، فقالوا له: انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية، فإذا أصبحت فتعرض له.

فخرج شريكه الكافر وهو راكب، فلما رآه عرفه، فوقف عليه وسلم عليه وصافحه، ثم قال له: ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت؟ قال: بلى، وهذه حالي وهذه حالك. قال: فأخبرني ما صنعت في مالك! قال: لا تسألني عنه.

قال: فما جاء بك؟ قال: جئت أعمل في أرضك هذه فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا.

قال: لا، ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا، ولكن؛ لا ترى مني خيرا حتى تخبرني: ما صنعت في مالك؟ قال: أقرضته. قال: مَن؟ قال: الملك الوافي. قال: مَن؟ قال: الله ربي... فانتزع يده من يده ثم قال: (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ؟). قال السدي: محاسبون.

فانطلق الكافر وتركه...

فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله -تعالى- المؤمن الجنة يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار، فيقول: لمن هذا؟ فيقال: هذا لك، فيقول: يا سبحان الله! أوَبَلَغَ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟.

قال: ثم يمر، فإذ هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول: لمن هذا؟ فيقال: هؤلاء لك, فيقول: يا سبحان الله! أوَبَلَغَ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟.

قال: ثم يمر، فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة فيها حوراء عيناء، فيقول: لمن هذه؟ فيقال: هذه لك. فيقول: يا سبحان الله! أَوَبَلَغَ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟.

قال: ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول: (إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)؟.

قال: فالجنة عالية، والنار هاوية، قال: فيريه الله -تعالى- شريكه في وسط الجحيم من بين أهل النار، فإذا رآه المؤمن عرفه فيقول: (تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات:56-61].

... قال السدي: فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة أشد عليه من الموت. اهـ.

في هذه القصة والحكاية يضع الله مقارنة بين عاقبة المؤمنين وعاقبة غيرهم من العصاة والمجرمين، فيقول: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) [الصافات:62]، فيكفي أن تقارن ما في الجنة من نعيم بعذاب واحد من عذاب أهل النار، إنها شجرة الزقوم التي لا أبشع منها، ولا أقبح من منظرها، مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع.

تخرج هذه الشجرة من قعر جهنم، (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) [الصافات:64-65]...

وقيل: هي شجر وليست شجرة واحدة، كما قال -تعالى-: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) [الواقعة:51-53].

روى الترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا هذه الآية وقال: "اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه؟".

يعذب أهل النار فيجوعون ويعطشون فيضطرون للأكل منها، وهي كما قال الله: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ *  كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ *  كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) [الدخان:43-46].

عند ذلك يزداد عطشهم، ويخلط لهم مع الزقوم ماء من حميم يبلغ من الحرارة منتهاه، فيشربون، فتذوب الجلود، ويتساقط اللحم، وتحترق الأمعاء وتتقطع حتى تخرج من أدبارهم.

ثم بعد هذه الوجبة الدسمة من الزقوم والحميم يعادون إلى النار والحميم، وهكذا، في رحلة مستمرة، وطواف متواصل بين الحميم والجحيم: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن:44]، فبئس الطواف! وبئس المستقر! وبئست وجبات أهل النار!.

إنها النار عباد الله، فيها كل الخدمات من طعام وشراب ولباس، فهم ما بين زقوم وحميم وضريع وغسلين وصديد، ثم مردهم بعد هذه النزهة الجحيمية -أجارنا الله منها- إلى نار تتأجج ، وجحيم تتوقد، وسعير تتوهج: (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ* ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) [الصافات:66-68].

أذلك خير -يا عباد الله- أم الجنان والحور، والنعمة والحبور، والفرحة والسرور، بجوار العزيز الغفور؟ (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا) [الفرقان:15-16].

أذلك خير يا عباد الله أم المفاز للمتقين في جنات النعيم؟ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) [النبأ:31-36].

والمفاز -كما يقول ابن عباس- هو الْمُتَنَزَّه، وأنعِمْ بِه من متنزه! فيه الحدائق والأعناب، والكواعب الأتراب، والكأس المملوءة الدهاق، ولك أن تتخيل متنزه أهل الجنة فيما سمعت، ومتنزه أهل النار في الزقوم والحميم والجحيم.

فاعملوا -يا عباد الله- واجتهدوا في العمل الصالح، واصطحبوا الخوف من الله، "فَمن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية! ألا إن سلعة الله الجنة!".

اجعلوا الجنة والنار نصب أعينكم، تخيلوا ما في الدارين من عذاب وشقاء، أو نعيم وسراء.

مَن مِنَّا -يا عباد الله- لا ينام حتى يستحضر هذه المشاهد والصور في الجنة وفي النار؟ من منا يا أحباب رسول الله يصبح الصباح وأول ما يفكر فيه ويحمل همه الموت وما بعده؟ فقبل أن يفكر في العمل أوفي الدنيا ومتاعها تراه مشغولا بالآخرة وهمها! مَن منا من هذا الصنف يا أحبتي في الله؟

إن مَن يحمل هم الآخرة جاءته الدنيا والآخرة، ومن يحمل هم الدنيا شقي في الدنيا ولم ينج في الآخرة.

قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كانت الآخرةُ همَّه، جعل اللهُ غناه في قلبِه، وجمع له شملَه، وأتتْه الدُّنيا وهي راغمةٌ؛ ومن كانت الدنيا همَّه، جعل اللهُ فقرَه بين عينَيه، وفرَّق عليه شملَه، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له" رواه ابن ماجة وصححه الألباني.

لنعرف مَنْ هُمْ أصحاب هَمِّ الآخرة ومن هم أصحاب هم الدنيا، فقد ترى مصليا صائما يظن نفسه من أبناء الآخرة مع أنه في الحقيقة يحمل هم الدنيا ويتعلق بها؛ لذا سأحدثكم سريعا عن صفات هؤلاء وهؤلاء.

فأصحاب همّ الآخرة أول صفاتهم الحزن للآخرة، مع رجائهم لرحمة الله، يحزنون على كل تفريط وتقصير وكل ذنب، ويحزنون على ما يصيب المسلمين من ظلم وبلاء.

قال مالك بن دينار: "إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب، كما أن البيت إذا لم يسكن خرب".

أصحاب هم الآخرة من صفاتهم المحاسبة الدائمة، (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة:2]، جاء في تفسير القرطبي: "قال الحسن: هي والله نفس المؤمن، ما يُرى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلامي؟ ما أردت بأكلي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه".

أصحاب هم الآخرة تراهم في عمل دائب للآخرة فلا يكبلهم الحزن والخوف في البيوت أو زوايا المساجد دون عمل صالح وخدمة للدين: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) [النازعات:40]. فبعد الخوف نَهْيٌ عن الهوى.

وأخيرا: من صفات أصحاب هم الآخرة التأثر بمناظر الموت، كان بعض السلف إذا رأى جنازة لا ينتفع به أياما لكثرة بكائه وخوفه.

أما أصحاب هم الدنيا فلهم صفات:

أولا : طلب الدنيا والتكالب عليها: (إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا) [الإنسان:27].

ثانيا : عدم تذكر أهوال القيامة: كما يقول مالك بن دينار: "ما رأيت كالنار نام هاربها، ولا كالجنة نام طالبها".

ثالثا : الاغترار بالصحة والنعمة والرزق: كتب التابعي زر بن حبيش كتابا إلى الخليفة عبد الملك بن مروان فقال: "ولا يطمعنك يا أمير المؤمنين في طول الحياة ما يظهر من صحة بدنك، فأنت أعلم بنفسك، وأذكر لما تكلم به الأولون:

إذا الرجال ولدت أولادها

وبليت من كبر أجسادها

وجعلت أسقامها تعتادها

فذاك زرعٌ قد دنا حصادها

فقرأه وبكى حتى بل طرف ثوبه، وقال: صدق زر! ولو كتب إلينا بغير هذا كان أرخص.

أقول: أحبتي في الله: وليس الموت خاصاً بمن كبر جسده، ورأى أحفاده، بل كم من صحيح مات من غير علة! وكم شاب مات في ريعان الشباب!.

لا تغرنا هذه الحياة وما فيها من صحة وعافية ورزق، لا سيما إذا كنت مقصّراً، فربما كانت هذه النعم استدراجاً من الله وراءه عقوبة ماحقة إن لم تفرّ إلى ربك تائباً منيباً.

وفي الحديث: "إذا رأيتم الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فاعلموا أن ذلك استدراج"