البحث

عبارات مقترحة:

الإله

(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...

التواب

التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...

البصير

(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...

دروس وعبر الحج

العربية

المؤلف عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحج
عناصر الخطبة
  1. الحج وتحقُّق العبودية .
  2. الحج وإقامة الذكر .
  3. الحج والتوبة لله .
  4. الحج والتذكير بالآخرة .

اقتباس

ودروس الحج -عباد الله- لا يمكن إحصاؤها، ولا يتيسر استقصاؤها، ففي الحج عباد الله تحقيق للعبودية وتكميل لها، وذلك لما فيه من تذلل لله وخضوع، وانكسار بين يديه، فالحاج -عباد الله- يخرج من ملاذ الدنيا مهاجرا إلى ربه، تاركا ماله وأهله ووطنه، متجردا من ثيابه، لابسا إحرامه، حاسرا عن رأسه، متواضعا لربه، تاركا الطيب والنساء، متنقلا بين المشاعر بقلب خاشع، وعين دامعة، ولسان ذاكر، يرجو رحمة ربه ويخشى عذابه، وشعاره في ذلك كله ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: أيها المؤمنون عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، ومراقبته في السر والعلانية؛ فإن تقوى الله -جل وعلا- هي سبيل الفلاح، وسبب الفوز والغنيمة في الدنيا والآخرة.

ثم اعلموا -معاشر المؤمنين- أن الحج شعيرة عظيمة من شعائر هذا الدين، بل هي ركن عظيم من أركان الإسلام، فيه من الفوائد العظام والمنافع الغزار ما لا يمكن الإحاطة به أو إحصاؤه، ولقد أكرم الله -جل وعلا- مَن أكرم من عباده المؤمنين بأداء هذه الطاعة العظيمة، والقيام بهذه العبادة الجليلة في هذه الأيام القليلة الماضية.

فنسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يتقبل من حجاج بيت الله حجهم، وأن يغفر ذنبهم، وأن يعين الجميع على طاعة الله -تبارك وتعالى- على الوجه الذي يحبه ويرضاه.

عباد الله: ينبغي علينا جميعا أن نعلم أن الحج مدرسة عظيمة يتربى فيها المؤمنون، ويتلقى فيها المتقون الدروس العظيمة، والعبر البليغة، والحجج المؤثرة؛ مما يكون سببا لزيادة الإيمان، وقوة اليقين، وعظم الارتباط بهذا الدين.

ودروس الحج -عباد الله- لا يمكن إحصاؤها، ولا يتيسر استقصاؤها، ففي الحج عباد الله تحقيق للعبودية وتكميل لها، وذلك لما فيه من تذلل لله وخضوع، وانكسار بين يديه، فالحاج -عباد الله- يخرج من ملاذ الدنيا مهاجرا إلى ربه، تاركا ماله وأهله ووطنه، متجردا من ثيابه، لابسا إحرامه، حاسرا عن رأسه، متواضعا لربه، تاركا الطيب والنساء، متنقلا بين المشاعر بقلب خاشع، وعين دامعة، ولسان ذاكر، يرجو رحمة ربه ويخشى عذابه، وشعاره في ذلك كله: لبيك اللهم لبيك، ومعنى ذلك: إني خاضع لك يا الله، منقاد لأمرك، مستعد لما حملتني من الأمانة؛ طاعة لك، واستسلاما لك، دونما إباء أو تردد.

وفي الحج -عباد الله- إقامة لذكر الله، فالذكر هو المقصود الأعظم للعبادات كلها، فما شرعت العبادات إلا لأجله، وما تقرب المتقربون إلى الله بمثله، والحج كله ذكر لله، قال الله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ) [الحج:28]، (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [البقرة:198].

وما شرع الطواف بالبيت، ولا السعي بين الصفا والمروة، ولا رمي الجمار، ولا غير ذلك من أعمال، الحج إلا لإقامة ذكر الله، وفي هذا -عباد الله- بيان لعلو شأن الذكر، ورفعة منزلته، وجلالة قدره وأنه مقصود العبادات ولبها.

والحج -عباد الله- باب رحب للتوبة إلى الله والإنابة إليه، وحط الأوزار، ورفع الدرجات، وإقالة العثرات، والعتق من النار، روى مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعمرو بن العاص -رضي الله عنه- عند إسلامه: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله".

وفي الحج -عباد الله- تهييج لذكريات جميلة عزيزة على قلب كل مسلم، تتردد على الذهن، وتتوارد على الخاطر أثناء الحج وفترة التنقل بين تلك المشاعر العظيمة.

فالحاج على -سبيل المثال- يتذكر في حجه أبانا إبراهيم الخليل -عليه السلام-، فيتذكر توحيده لربه ومهاجره في سبيله، وكمال عبوديته له، وتقديمه محاب ربه على محاب نفسه، ويتذكر ما جرى له عليه السلام من الابتلاءات العظيمة، وما حصل له من الكرامات والمقامات العالية الرفيعة، ويتذكر أذانه عليه السلام في الحج، ودعاءه لمكة المكرمة: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدَاً آمِنَاً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة:126]، ويتذكر بركات تلك الدعوات التي تُرى آثارُها إلى يومنا الحاضر.

ويتذكر الحاج ما كان من أمر أمنا هاجر، يتذكر ما كان من سعيها بين الصفا والمروة بحثا عن ماء لتشربه؛ لتدر لبنا على وليدها إسماعيل، ذلك السعي الذي أصبح سنة ماضية وركنا من أركان الحج.

ويتذكر الحاج أبانا إسماعيل -عليه السلام-، فيمر بخاطره مشاركة إسماعيل لأبيه إبراهيم في بناء الكعبة: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:127].

ويتذكر الحاج ما كان من برّ إسماعيل بأبيه حيث أطاعه حين أخبره أن الله يأمره بذبحه، فما كان من إسماعيل إلا أن استجاب للنداء، وامتثل الأمر وانقاد طائعا، وذلك من كمال بره وطاعته: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات:102-112].

ويتذكر الحاج أن مكة هي موطن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففيها ولد وشب، وفيها تنزل عليه الوحي، وفيها شع نور الإسلام الذي بدد دياجير الظلمات.

ويتذكر من سار على تلك البطاح المباركة من أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين، فيشعر بذلك وأنه امتداد لتلك السلسلة المباركة، وذلك الركب الميمون.

ويتذكر الصحابة -رضي الله عنهم- حماة هذا الدين وأنصاره، وما لاقوه من البلاء في سبيل نشره، ويتذكر أن هذا البيت -أعني الكعبة- هو أول بيت وضع للناس، وأنه مبارك وهدى للعالمين، (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) [آل عمران:97].

ومن خلال هذه الذكريات الجليلة العظيمة يرتبط المؤمن بأكرم ارتباط، وتنبعث نفسه إلى حب أسلافه الكرام، والحرص على اتباع آثارهم، والسير على نهجهم ومنوالهم؛ وبذلك -عباد الله- يربح الحاج في حجه أرباحا عظيمة، ويعود منه بأكبر كسب، وأفضل غنيمة

.
فالحج -عباد الله- مدرسة تربوية إيمانية عظيمة، يتخرج فيها المؤمنون المتقون بعد أن شهدوا في حجهم المنافع العظيمة، والدروس المتنوعة، والعظات المؤثرة، فتحيى بذلك القلوب، ويتقوى الإيمان ويزداد اليقين، يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج:27-29].

اللهم انفعنا بهدي كتابك، ووفقنا لاتّباع سنة نبيك -صلى الله عليه وسلم-، وتقبل يا ذا الجلال والإكرام من حجاج بيتك حجهم، اللهم واعمر قلوبنا جميعا بطاعتك، وأوقاتنا بذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: يا أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى؛ فإن تقوى الله هي خير زاد يبلغ إلى رضوان الله، ثم اعلموا -رحمكم الله- أن مما يذكر به الحج، ولاسيما يوم اجتماع الحجاج على صعيد عرفة، البعث والحساب، ووقوف الناس يوم الحشر في صعيد واحد بين يدي ربهم -عزّ وجل-، ينظرون حسابهم، ويتحرون مصيرهم إلى سعادة أو إلى شقاء، إلى الجنة أو إلى النار.

فإذا رأى الحاج ازدحام الناس يوم عرفة، ورأى بعضهم يموج في بعض وهم في صعيد واحد، وبلباس واحد، وقد حسروا عن رؤوسهم، وتجردوا من ثيابهم، ولبسوا الأردية والأزر، وتجردوا من ملذات الدنيا ومتاعها، تذكر اليوم العظيم، يوم يعود الناس لرب العالمين، يوم يحشرون بين يديه سبحانه، حافية أقدامهم، عارية أجسامهم، شاخصة أبصارهم، ينتظرون ماذا يفعل بهم؛ فيبعثه ذلك للاستعداد ليوم الآخرة، والتزود ليوم المعاد، ويقوده ذلك إلى استصغار متاع الحياة الدنيا، ويرفعه عن الاستغراق فيها.

وقد قال الله تعالى في أثناء آيات الحج: (وَتَزوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة:197]؛ فالكيِّس -عباد الله- مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

واعلموا -رحمكم الله- أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ وعليكم -عباد الله- بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.

وصلوا وسلموا...