المتكبر
كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
إن ذلكم الشهر العظيم، والموسم الكريم، موسم مبارك، يتلقى فيه المؤمنون دروسا عظيمة، وعِبَراً جليلةً، وعظاتٍ بالغةً؛ ولهذا -عباد الله- ينبغي على عبد الله المؤمن، الحريص على سعادة نفسه وفوزها في الدنيا والآخرة، أن يستفيد حقا من ذلك الموسم الكريم، وأن يستفيد من عِبَرِهِ ودروسه، وعظاته التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، وأن لا يكون حظه من ذلك الشهر بما أدَّاه فيه من طاعة، وقام فيه من عبادة، بل ينبغي عليه أن يكون متلقياً لتلك الدروس العظيمة ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، ومبلغ الناس شرعه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها المؤمنونَ عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
عباد الله: لقد ودعت أمة الإسلام موسما عظيما، وشهرا كريما، يتسابق فيه المؤمنون إلى طاعة الله، وينشطون فيه إلى أنواعٍ من القربات، وكثير من الطاعات.
عباد الله: إن ذلكم الشهر العظيم والموسم الكريم، موسم مبارك، يتلقى فيه المؤمنون دروسا عظيمة، وعبراً جليلة، وعظات بالغة؛ ولهذا -عباد الله- ينبغي على عبد الله المؤمن الحريص على سعادة نفسه وفوزها في الدنيا والآخرة، أن يستفيد حقا من ذلك الموسم الكريم، وأن يستفيد من عبره ودروسه، وعظاته التي لا تعد ولا تحصى، وأن لا يكون حظه من ذلك الشهر بما أداه فيه من طاعة، وقام فيه من عبادة، بل ينبغي عليه أن يكون متلقياً لتلك الدروس العظيمة، والعِبَر والعظات التي يتلقاها المؤمن المـُجِدّ في موسم الخير وشهر الفضل؛ شهر رمضان المبارك.
عبادَ الله: إن شهر رمضان مدرسة تربوية جامعة للخير، يتلقى فيه المؤمن من العظات البالغة، والدروس النافعة، ما ينشط من خلالها في عامه كلِّه، جدَّاً واجتهادا ونشاطا في طاعة الله -جلَّ وعلا-.
ولعلّي أقف معكم مع بعض الدروس المهمة والعظات الجليلة التي ينبغي أن نستفيدها من شهرنا العظيم.
عباد الله: إن من دروس شهر رمضان العظيمة، أن يعلم المسلم أن وجوب الصيام عن الطعام والشراب، وسائر المفطرات، محلُّه شهر رمضان، وأما الصيام عن الحرام فمحله طيلة عمر الإنسان، فالمسلم يصوم في أيام شهر رمضان عن الحلال والحرام، ويصوم طيلة عمره وأيام حياته عن الحرام، وذلك -عباد الله- أن الصوم في اللغة الإمساك عن الشيء، فامتناع العين واللسان والأذن واليد والرجل والفرج عما منعت منه من الحرام، هو صيام من حيث اللغة، وهو واجب على المسلم مدّة حياته وطول عمره.
عباد الله: إن الله -جلَّ وعلا- لما تفضل على عباده بهذه النعم العظيمة: العين واللسان والأذن واليد والرجل والفرج؛ أوجب عليهم استعمالها فيما يرضيه، وحرم عليهم استعمالها فيما يسقطه، ومن أعظم شكر الله على هذه النعم أن يكون المسلم مستعملا لها حيث أمر أن يستعملها فيه، ممتنعا عن استعمالها في معصية من تفضَّل بها، وهو الله -سبحانه وتعالى-.
فالعين شُرع استعمالها في النظر إلى ما أحل الله، ومنع من استعمالها في النظر إلى الحرام، وامتناعها عن ذلك صيامها، وحُكمه مستمر دائم؛ والأذن شُرع استعمالها في استماع ما أبيح لها، وحرِّم على العبد استعمالها في سماع ما لا يجوز سماعه، وامتناعها عن ذلك صيامها، وحكمه مستمر دائم؛ واليد شُرع استعمالها في تعاطي ما هو مباح، ومُنع من استعمالها في كل حرام، وامتناعها عن ذلك صيامها، وحكمه مستمر دائم؛ والرِّجل شُرع استعمالها في المشي في كل خير، ومنع من المشي فيها إلى الحرام، وامتناعها من ذلك صيامها، وحكمه مستمر دائم؛ والفرج أبيح استعماله في الحلال، ومنع من استعماله في الحرام، وامتناعه من ذلك صيامه، وحكمه مستمر دائم.
عباد الله: لقد وعد الله -جلَّ وعلا- مَن أدّى شكر هذه النعم واستعملها حيث أمر الله أن تستعمل، وعده بالثواب الجزيل، والأجر العظيم، والخير الكبير في الدنيا والآخرة، وتوعَّد -سبحانه- من لم يحافظ عليها ولم يراع ما أريد استعمالها فيه، بل أطلقها فيما يسخط الله ولا يرضيه، توعّده بعقابه، وأخبر -جلَّ وعلا- أن هذه الجوارح مسؤولة يوم القيامة عنه، وهو مسؤول عنها، قال الله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء:36].
س
وقال تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس:65]، وقال تعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [فصلت:19-21].
وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- بعد أن أمره بحفظ لسانه، وقال له معاذ: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بم نتكلم به؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: "ثكلتك أمُّك يا معاذ! وهل يَكبُّ الناس على وجوههم، -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم" رواه الترمذي.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة" رواه البخاري، لفظ الترمذي: "مَن وقاه الله شَرَّ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة"، وفي الصّحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرا أو ليصمت"، وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- مرفوعاً: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".
وروى مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن تقضي ما عليه؛ أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار".
عباد الله: لقد دلّت هذه النصوص وما جاء في معناها على أن الواجب على العبد أن يصون لسانه وفرجه وسمعه وبصره ويده ورجله، أن يصونها عن الحرام، وهو صيام من حيث اللغة، وهذا الصيام لا يختص بوقت دون آخَر، بل يجب الاستمرار عليه حتى الممات؛ طاعة لله، ليفوز برضا الله -جلَّ وعلا- وثوابِه، ويسلم من سخطه وعقابه.
فإذا أدرك المسلم أنه في شهر الصيام، امتنع عما أحلَّ الله له؛ لأن الله حرَّم عليه تعاطي ذلك في أيام رمضان، فالعبرة من ذلك والعظة أن يدرك أن الله قد حرّم عليه الحرام مدة حياته، وعليه الكفُّ عن ذلك، والامتناع عنه دائما؛ خوفا من عقاب الله -جلَّ وعلا- الذي أعدَّه لمن خالف أمره، وفعل ما نهى عنه.
عباد الله: لقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي عن ربه -سبحانه وتعالى- أن للصائم فرحتين؛ فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، فالصّائم يفرح عند فطره؛ لأن النّفس عند الفطر تتناول ما مُنعت منه، وهو محبوبٌ لها؛ ولأنه قد وُفِّق لإنهاء صيامه، الذي جزاؤه عند الله عظيم، ويفرح الفرحةَ الكبرى عند لقاء ربِّه حيث يجازيه على صيامه الجزاء الأوفى.
ومَن حفِظ لسانه عن الفحش وقول الزّور، وفرجه عما حرم الله عليه، ويده عن تعاطي عما لا يحل تعاطيه، وسمعه عن سماع ما يحرم سماعه، وبصره عما حرَّم الله النظر إليه، واستعمل هذه الجوارح فيما أحلَّ الله، مَن حَفِظها وحافظ عليها حتى توفاه الله، فإنه يفطر بعد صيامه هذا على ما أعده الله لمن أطاعه من النّعيم المقيم، والفضل العظيم، مما لا يخطر على بال، ولا يحيط به مقال.
وأول ما يلاقيه من ذلك ما بيَّنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما يجري للمؤمن عند الانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة، حيث يأتيه في آخر لحظاته في الدنيا ملائكة كأنّ على وجوههم الشمس، معهم كفن من الجنة، وحنوط من الجنة، يتقدمهم ملَك الموت، فيقول: يا أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها منه، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض.
قال: فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله -عز وجل-: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى.
قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: مَن ربك؟ فيقول ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيقولان: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنتُ به وصدَّقْتُ، فينادي منادٍ من السماء: أنْ صَدَقَ عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة.
قال: فيأتيه من رَوْحِهَا وطيبها، ويُفسح له في قبره مدَّ بصره، قال: ويأتيه رجل حسَن الوجه، حسن الثياب، طيِّب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك! هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: مَن أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربّ أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
عباد الله، فهذا ثواب الصائمين عما حرَّم الله، الملازمين لطاعة الله، المحافظين على أوامر الله، المجتنبين لنواهيه مدة حياتهم وطيلة عمرهم، جعلنا الله وإياكم منهم، وهدانا وهداكم لسلوك سبيلهم.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وأعِنا على البر والتقوى، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، واجعلنا من عبادك المتقين، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعدُ: عبادَ الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، والتزود بالأعمال الصالحة المقربة إلى الله -جلَّ وعلا-.
ثم اعلموا -رحمكم الله- أنّ من فوائد الصيام العظيمة أنه يهذِّب النفوس، ويسمو بالأخلاق، ويعين على كبح الهوى، وكبح جماع الشهوة، ويقوِّي الإرادة، ويشحذ العزيمة، ويعين على ترك الحرام، وهجر الباطل.
إن الصيام -عباد الله- سر بين العبد وبين ربه، لا يطّلع على حقيقته إلا الله -سبحانه وتعالى-، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: يقول الله تعالى: "كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي".
وذلك أن بإمكان العبد أن يختفي عن الناس ويغلق على نفسه الأبواب ويأكل ويشرب ثم يخرج إلى الناس ويقول إنه صائم، ولا يعلم ذلك إلا الله تبارك وتعالى، ولكن يمنعه من ذلك اطلاع الله عليه ورؤيته له، وهذا شيء يُحمد عليه الإنسان.
والعبرة من ذلك -عباد الله- أن يدرك المسلم أن الذي يُخشَى إذا أخلَّ الإنسان بصيامه هو الذي يخشى إذا أخلَّ بصلاته وزكاته وحجه، وغير ذلك مما أوجب الله على عباده، فإذا وجد المسلم أن إخلاله بالصيام كبير وعظيم، فيجب عليه أن يجدّ ويدرك أن حصول ذلك منه في الفرائض الأخرى عظيم وكبير، والكيِّس -عباد الله- مَن جاهد نفسه في هذه الحياة، من جاهدها على طاعة الله، وألزمها فعل أوامره واجتناب نواهيه، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
وصلوا وسلموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...