الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
وَمَعَ أَنَّ مِن خَصَائِصِ رَمَضَانَ أَنَّهُ تُصَفَّدُ فِيهِ الشَّيَاطِينُ وتُغَلُّ وَتُسَلسَلُ، إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ نُفُوسًا شِرِّيرَةً قَد تَشَرَّبَتِ البَاطِلَ وَتَأَصَّلَ فِيهَا الشَّرُّ، وَاستَمرَأَتِ الفَسَادَ وَأَسلَمَت لِلشَّيطَانِ القِيَادَ، فَأَبعَدَهَا عَن كُلِّ فَضِيلَةٍ وَخَيرٍ، وَحَرَمَهَا مَن كُلِّ إِحسَانٍ وَبِرٍّ، وَسَاقَهَا إِلى كُلِّ رَذِيلَةٍ وَشَرٍّ، فَلَم تَعرِفْ لِهَذَا الشَّهرِ حُرمَةً وَلا فَضَلاً، وَلم تُقَدِّرَ لَهُ مَكَانَةً وَلا رَوحَانِيَّةً، وَلم تُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ ولم تَرجُ للهِ وَقَارًا! بَلْ وَصَلَ الحَالُ بِبَعضِهِم إِلى أَن صَارَ أَسبَقَ مِنَ الشَّيطَانِ إِلى الشَّرِّ وَالإِفسَادِ..
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَو أَنَّ لأَحَدِنَا قَرِيبًا غَالِيًا أَو رَحِمًا عَزِيزًا أَو صَدِيقًا حَمِيمًا أَو صَاحِبًا كَرِيمًا غَابَ عَنهُ مُدَّةً طَوِيلَةً ثم وَعَدَهُ بِالمَجِيءِ إِلَيهِ عَمَّا قَرِيبٍ فَمَاذَا عَسَاهُ صَانِعًا لِمُلاقَاةِ هَذَا المُكرَمِ وَاستِضَافَتِهِ؟ إِنَّكَ سَتَرَى مَجَالِسَ تُعَدُّ وَفُرُشًا تُجَهَّزُ، وَمَشرُوبَاتٍ سَائِغَةً وَمَأكُولاتٍ مُنَوَّعَةً، وَنَظَافَةً وَعُطُورَاتٍ وَحَلْوَيَاتٍ، وَغَيرَهَا مِن أَنوَاعِ التَّهيِئَةِ وَالاستِعدَادَاتِ.
وَفي هَذِهِ الأَيَّامِ التي لَن تَزِيدَ عَنِ السَّبعَةِ لِمَن أَحيَاهُ اللهُ وَأَبقَاهُ يَنتَظِرُ المُسلِمُونَ ضَيفًا عَزِيزًا، وَيَستَقبِلُونَ مَوسِمًا كَرِيمًا، ضَيفٌ طَالَمَا أَكرَمَهُ مُوَفَّقُونَ فَرَبِحُوا وَفَازُوا، وَمَوسِمٌ طالَمَا أَسَاءَ فِيهِ آخَرُونَ فَخَسِرُوا وَخَابُوا.
رَمَضَانُ في قَلبِي هَمَاهِمُ نَشوَةٍ | مِن قَبلِ رُؤيَةِ وَجهِكَ الوَضَّاءِ |
وَعَلى فَمِي طَعْمٌ أُحِسُّ بِأَنَّهُ | مِن طَعمِ تِلك الْجَنَّةِ الْخَضرَاءِ |
بِأَنَّكَ قَادِمٌ فَتَهَلَّلَتْ | بِالبِشرِ أَوجُهُنَا وَبِالْخُيَلاءِ |
تَهفُو إِلَيهِ وَفي القُلُوبِ وَفي النُّهَى | شَوقٌ لِمَقدِمِهِ وَحُسنُ رَجَاءِ |
بِأَيِّ شَيءٍ نَستَقبِلُ رَمَضَانَ؟ وَبِأَيِّ عُدَّةٍ نَتَجَهَّزُ لِرَمَضَانَ؟ أَبِشِرَاءِ أَنوَاعِ العَصَائِرِ وَالمَشرُوبَاتِ؟! أَبِتَوفِيرِ أَصنَافِ المَأكُولاتِ وَالمُقَبِّلاتِ؟! أَبِتَجهِيزِ المَطَابِخِ وَصَالاتِ الطَّعَامِ؟! أَبِأَخذِ إِجَازَةٍ مِنَ العَمَلِ وَالتَّفَرُّغِ لِلنَّومِ؟! إِنْ كان كُلُّ هَذَا لِلتَّقوِّي عَلَى طَاعَةِ اللهِ فَحُبًّا وَكَرَامَةً، وَأَمَّا إِنْ كان المَقصُودُ مَلءَ البُطُونِ وَتَبرِيدَ حَرَارَةِ الجُوعِ أَو اتِّبَاعَ الشَّرَهِ وَإِطفَاءَ نَارِ الشَّهوَةِ وَالاستِسلامَ لِلكَسَلِ وَالرُّكُونَ لِلخُمُولِ فَبِئسَ الاستِعدَادُ وَلا حَبَّذَا ذَاكَ الاستِقبَالُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ اللهَ –تعالى- بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ قَد أَنعَمَ عَلَينَا بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ لا تُحصَى، إِلاَّ أَنَّ أَكبرَ تِلكَ النِّعَمِ وَأَجَلَّهَا وَأَشرَفَهَا أَنْ جَعَلَنَا عِبَادًا مُسلِمِينَ مِن أُمَّةِ خَيرِ المُرسَلِينَ، قُلْ بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ.
وَمِمَّا زَادَني شَرَفًا وَتِيهًا | وَكِدتُ بِأَخمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا |
دُخُولي تَحتَ قَولِكَ يَا عِبَادِي | وَأَنْ صَيَّرتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا |
ثم إِنَّ مِن تَمَامِ نِعمَتِهِ سُبحَانَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَّا أَن وَفَّقَهُم لِطَاعَتِهِ وَمَرضَاتِهِ، وَبَعَثَ نُفُوسَهُم لِحُبِّ الخَيرِ وَالتَّزَوُّدِ مِنَ التَّقوَى، فَنَسأَلُهُ بِرَحمَتِهِ أَن يَجعَلَنَا مِنهُم، وَأَن يُوَفِّقَنَا لِبُلُوغِ هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ وَالمَوسِمِ العَظِيمِ وَنَحنُ في صِحَّةٍ وَأَمنٍ وَإِيمَانٍ، فَكَم وَاللهِ مِن نَفسٍ سَتُختَرَمُ قَبلَ دُخُولِهِ! وَكَم مِن أُخرَى لَن تَقدِرَ فِيهِ عَلَى صِيَامٍ وَلا قِيَامٍ إِمَّا لِمَرَضٍ أَو عَدَمِ تَوفِيقٍ!
وَمِن هُنَا فَإِنَّهُ يَجِبُ على المُسلِمُ أَن يَسأَلَ اللهَ أَن يُثَبِّتَهُ على دِينِهِ وَيَزِيدَهُ شُكرًا لَهُ وَذِكرًا، وَأَن يُبَلِّغَهُ شَهرَ رَمَضَانَ سَلِيمًا مُعَافى، فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَحمَدِ اللهَ وَلْيَشكُرْهُ وَلْيُثنِ عَلَيهِ بِمَا هُوَ أَهلُهُ، فَهُوَ سُبحَانَهُ وَحدَهُ المُنعِمُ المُتَفَضِّلُ، وَهُوَ القَائِلُ: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53].
وَمِمَّا يُستَقبَلُ بِهِ رَمَضَانُ أَن نَعرِفَ مَا هُوَ وَمَا فَضلُهُ، ثم نَحرِصَ على أَن لاَّ يَفُوتَنَا بَابٌ مِن أَبوَابِ الخَيرِ فِيهِ إِلاَّ وَقَد وَلَجنَاهُ وَأَخَذنَا مِنهُ بِنَصِيبٍ وَلَو كَانَ قَلِيلاً، فَفِي رَمَضَانَ أَبوَابُ الجِنَانِ مُفَتَّحَةٌ، وَأَبوَابُ النِّيرَانِ مُغَلَّقَةٌ، وَالشَّيَاطِينُ مُصَفَّدَةٌ، وَالمَرَدَةُ مُسَلسَلَةٌ، وَفِيهِ صَومٌ وَتَرَاوِيحٌ وَقِيَامٌ، وَصَدَقَةٌ وَإِحسَانٌ وَإِطعَامُ، وَتِلاوَةٌ وَعُمرَةٌ وَتَفطِيرٌ، وَتَسبِيحٌ وَتَهلِيلٌ وَتَكبِيرٌ، وَذِكرٌ وَشُكرٌ وَدُعَاءٌ، وَابتِهَالٌ وَمُنَاجَاةٌ وَدَعوَةٌ، وَبِالجُملَةِ فَهُوَ شَهرُ مُرِيدِي الخَيرِ، حَيثُ وَرَدَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ "يُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيرِ أَقبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقصِرْ".
وَلِهَذَا فَإِنَّ عَلَى المُسلِمِ أَن يَنوِيَ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ لِعَمَلِ الخَيرِ فِيهِ قَبلَ دُخُولِهِ، وَأَن يَحذَرَ مِن حَالِ بَعضِ المُتَمَلمِلِينَ فِيهِ، ممَّن إِذَا أَقبَلَ رَمَضَانُ أَقبَلَ غَمُّ أَحَدِهِم وَزَادَ هَمُّهُ؛ لأَنَّهُ لا يَرَى فِيهِ أَكثَرَ مِن كَونِهِ حِرمَانًا لَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَحَائِلاً بَينَهُ وَبَينَ الشَّهَوَاتِ وَالرَّغَبَاتِ، فَهُوَ يَنتَظِرُ خُرُوجَهُ بِفَارِغِ الصَّبرِ لِيَنطَلِقَ بِلا رَادِعٍ وَلا قَيدٍ؛ وَلِذَا لا يُوَفَّقُ فِيهِ إِلى كَثِيرِ خَيرٍ وَلا إِلى مَزِيدِ طَاعَةٍ.
أَمَّا مَن نَوَى فِيهِ الخَيرَ وَعَزَمَ عَلَيهِ قَبلَ دُخُولِهِ فَإِنَّ اللهَ لا يُخَيِّبُهُ وَلا يَتَخَلَّى عَنهُ، بَل هُوَ حَرِيٌّ بِالتَّوفِيقِ وَالتَّسدِيدِ وَتَيسِيرِ أُمُورِهِ وَتَسهِيلِ الطَّاعَاتِ عَلَيهِ، وَاقرَؤُوا إِن شِئتُم قَولَهُ سُبحَانَهُ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسْرَى) [الليل: 5- 10].
أَلا فَمَا أَحسَنَ عَاقِبَةَ الصِّدقِ مَعَ اللهِ! وَوَاللهِ، مَا مِن عَبدٍ يَطًَّلِعُ اللهُ عَلى قَلبِهِ فَيَرَى أَنَّهُ يُرِيدُ الفَوزَ في رَمَضَانَ بِصِدقٍ إِلاَّ أَعطَاهُ اللهُ مُرَادَهُ، فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلا أَكرَمُ مِن أَن يَرُدَّ مَن أَقبَلَ عَلَيهِ، وَهُوَ القَائِلُ كَمَا في الحَدِيثِ القُدسِيِّ: "إِذَا تَقَرَّبَ العَبدُ إِليَّ شِبرًا تَقَرَّبتُ إِلَيهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ إِليَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبتُ مِنهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَاني يَمشِي أَتَيتُهُ هَروَلَةً".
وَفي المُقَابِلِ فَإِنَّهُ مَا مِن عَبدٍ يَطَّلِعُ اللهُ عَلَى قَلبِهِ فَيَرَى أَنَّهُ يُرِيدُ في رَمَضَانَ عَبَّ الشَّهَوَاتِ وَاقتِرَافَ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ لم يُبَالِ اللهُ بِهِ في أَيِّ وَادٍ هَلَكَ.
فَالصِّدقَ الصِّدقَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، فَعَلَى قَدرِ الصِّدقِ يَكُونُ الفَوزُ، قال سُبحَانَهُ: (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) [محمد: 21]، وَمَا الصِّدقُ -وَرَبِّي -هَمٌّ دُونَ عَمَلٍ، وَلا هُوَ تَمَنٍّ دُونَ فِعلٍ، وَإِنما هُوَ نِيَّةٌ جَازِمَةٌ وَقَصدٌ وَرَغبَةٌ، وَحِرصٌ عَلَى أَخذِ الأُهبَةِ وَالعُدَّةِ، وَقَولٌ سَدِيدٌ وَعَمَلٌ صَالحٌ، قال تعالى: وَلَو أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً.
وَلِقَائِلٍ أَن يَقُولَ: وَمَا عِدَّةُ رَمَضَانَ؟! فَنَقُولُ: إِنها تَكُونُ قَبلَ كُلِّ شَيءٍ بِتَخلِيَةِ النَّفسِ مِنَ الشُّرُورِ وَتَنقِيَةِ القَلبِ مِنَ الآفَاتِ، وَالتَّطَهُّرِ مِنَ المَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَالحَذَرِ مِنَ المَوَانِعِ وَالقَوَاطِعِ، وَدَفعِ الصَّوَارِفِ وَالشَّوَاغِلِ التي تَحُولُ بَينَ العَبدِ وَبَينَ رَحمَةِ اللهِ، وَتَمنَعُهُ مِنَ السَّعيِ في طَاعَةِ اللهِ، وَتُثَبِّطُهُ عَن طَلَبِ مَا عِندَ اللهِ.
وَمِن أَعظَمِ تِلكَ الآفَاتِ الشِّركُ كَبِيرُهُ وَصَغِيرُهُ، وَالرِّيَاءُ وَطَلَبُ السُّمعَةِ، وَابتِغَاءُ غَيرِ اللهِ في العَمَلِ وَالطَّاعَةِ، قال سُبحَانَهُ: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وقال جَلَّ وَعَلا: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحبَْطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وقال تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا. وَإِنَّ مِنَ الشِّركِ التَّوَكُّلَ عَلَى غَيرِ اللهِ أَوِ اللُّجُوءَ إِلى سِوَاهُ في جَلبِ نَفعٍ أَو دَفعِ ضُرٍّ، وَمِن ذَلِكَ في وَقتِنَا الحَاضِرِ الذَّهَابُ إِلى السَّحَرَةِ وَالمُشَعوِذِينَ وَالكَهَنَةِ طَلَبًا لِلعِلاجِ، أَو لِبسُ التَّمَائِمِ وَالحُرُوزِ دَفعًا لِلعَينِ وَالحَسَدِ.
وَمِن تِلكَ الآفَاتِ التي يَجِبُ الحَذرُ مِنهَا وَالاستِعدَادُ لِرَمَضَانَ بِالتَّخَلُّصِ مِنهَا الحَسَدُ وَالبَغضَاءُ وَالشَّحنَاءُ وَأَكلُ الحَرَامِ والتَّهَاوُنُ بالرِّبَا، وَالأَحَادِيثُ الوَارِدَةُ في ذَمِّ كُلِّ ذَلِكَ مَشهُورَةٌ مَعرُوفَةٌ، قَالَ : "تُفتَحُ أَبوَابُ الجَنَّةِ يَومَ الاثنَينِ وَيَومَ الخَمِيسِ، فَيُغفَرُ لِكُلِّ عَبدٍ لا يُشرِكُ بِاللهِ شَيئًا إِلاَّ رَجُلاً كَانَت بَينَهُ وَبَينَ أَخِيهِ شَحنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنظِرُوا هَذَينِ حتى يَصطَلِحَا، أَنظِرُوا هَذَينِ حتى يَصطَلِحَا، أَنظِرُوا هَذَينِ حتى يَصطَلِحَا"، وَالحَدِيثُ عَامٌّ في رَمَضَانَ وَغَيرِه.
وَقَالَ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "أَلا أُخبِرُكُم بِأَفضَلَ مِن دَرَجَةٍ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟" قَالُوا: بَلَى، قال: "إِصلاحُ ذَاتِ البَينِ، وَفَسَادُ ذَاتِ البَينِ هِيَ الحَالِقَةُ"، أَيْ: حَالِقَةُ الدِّينِ وَمُحبِطَةُ العَمَلِ، وَذَكَرَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشعَثَ أَغبَرَ يَمُدُّ يَدَيهِ إِلى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذيَ بِالحَرَامِ: "فَأَنَّى يُستَجَابُ لِذَلِكَ".
وَممَّا يَجِبُ الحَذَرُ مِنهُ الكَسَلُ وَالخُمُولُ وَالتَّسوِيفُ وَالتَّأجِيلُ، وَأَن يَستَحوِذَ الشَّيطَانُ عَلَى العَبدِ فَيُقعِدَهُ عَن شُهُودِ الجُمُعَةِ أَوِ الجَمَاعَةِ، أَو يُؤَخِّرَهُ وَيُفَوِّتَ عَلَيهِ تَكبِيرَةَ الإِحرَامِ مَعَ الإِمَامِ، أَو يَجعَلَهُ في حِزبِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِم: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُم ذِكْرَ اللهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المجادلة: 19]، وَقَد وَصَفَ اللهُ أَنبِيَاءَهُ بِقَولِهِ: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90]، وَوَصَفَ أَولِيَاءَهُ بأنَّهُم يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ بِالمُسَابَقَةِ وَالمُسَارَعَةِ وَاستِبَاقِ الخَيرَاتِ وَالتَّنَافُسِ.
وممَّا يُستَقبَلُ بِهِ شَهرُ رَمَضَانَ -أَيُّهَا الإِخوَةُ -التَّوبَةُ النَّصُوحُ إِلى اللهِ مِن جَمِيعِ الذُّنُوبِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، فَتِلكَ وَظِيفَةُ العُمُرِ، وَهِيَ قَبلَ مَوَاسِمِ الخَيرِ آكَدُ وَأَوجَبُ، قال سُبحَانَهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلِى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)[التحريم: 8]، وقال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 21].
وَأَمَّا مَن عَزَمَ عَلَى الإِصرَارِ عَلَى ذُنُوبِهِ في الشَّهرِ الكَرِيمِ وَرَكِبَ رَأسَهُ وَأَدبَرَ وَاستَكبَرَ فَلْيَحذَر مِن قَولِهِ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
فَيَا مَن عَصَى اللهَ وَأَسرَفَ وَأَغرَقَ، وَغَرَّبَ في المُخَالَفَاتِ وَشَرَّقَ، وَكُلُّنَا ذَاكَ الرَّجُلُ:
يَا ذَا الَّذِي مَا كَفَاهُ الذَّنبُ في رَجَبٍ | حَتَّى عَصَى رَبّهُ فِي شَهرِ شَعبَانِ |
لَقَد أَظَلَّكَ شَهرُ الصَّومِ بَعدَهُمَا | فَلا تُصَيِّرْهُ أَيضًا شَهرَ عِصيَانِ |
وَأَخِيرًا، أَيُّهَا الأَخُ الحَبِيبُ، اسأَلْ نَفسَكَ: كَيفَ كَانَ رَمَضَانُكَ المَاضِي؟ اِسأَلْ نَفسَكَ وَحَاسِبْهَا، وَتَفَكَّرْ في وَضعِكَ وَتَأَمَّلْ حَالَكَ، وَاجعَلْ إِجَابَتَكَ بِمُضَاعَفَةِ الجُهدِ وَالزِّيَادَةِ في صَالحِ العَمَلِ، وَبِالعَزمِ عَلَى أَن تَكُونَ في رَمَضَانَ هَذَا العَامَ إِن أَدرَكتَهُ خَيرًا ممَّا مَضَى، فَإِنَّ خَيرَ النَّاسِ مَنِ ازدَادَ بِطُولِ العُمُرِ حُسنًا في العَمَلِ، وَقَد سَأَلَ رَجُلٌ النَّبيَّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيرٌ؟ قَالَ: "مَن طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ"، قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: "مَن طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ".
وَإِنَّ ممَّا يُشَجِّعُ المُؤمِنَ عَلَى حُسنِ العَمَلِ أَن يَحرِصَ عَلَى تَعَلُّمِ العِلمِ الشَّرعِيِّ، وَأَن يَتَفَقَّهَ في أَحكَامِ عِبَادَاتِهِ، وَأَن يَنظُرَ في هَديِ النَّبيِّ وَحَالِ السَّلَفِ مِن بَعدِهِ، قَالَ سُبحَانَهُ: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد: 19]، وقال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُم لاَ تَعْلَمُونَ) [الأنبياء: 43]، وَقَالَ عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ".
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَمَعَ أَنَّ مِن خَصَائِصِ رَمَضَانَ أَنَّهُ تُصَفَّدُ فِيهِ الشَّيَاطِينُ وتُغَلُّ وَتُسَلسَلُ، إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ نُفُوسًا شِرِّيرَةً قَد تَشَرَّبَتِ البَاطِلَ وَتَأَصَّلَ فِيهَا الشَّرُّ، وَاستَمرَأَتِ الفَسَادَ وَأَسلَمَت لِلشَّيطَانِ القِيَادَ، فَأَبعَدَهَا عَن كُلِّ فَضِيلَةٍ وَخَيرٍ، وَحَرَمَهَا مَن كُلِّ إِحسَانٍ وَبِرٍّ، وَسَاقَهَا إِلى كُلِّ رَذِيلَةٍ وَشَرٍّ، فَلَم تَعرِفْ لِهَذَا الشَّهرِ حُرمَةً وَلا فَضَلاً، وَلم تُقَدِّرَ لَهُ مَكَانَةً وَلا رَوحَانِيَّةً، وَلم تُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ ولم تَرجُ للهِ وَقَارًا! بَلْ وَصَلَ الحَالُ بِبَعضِهِم إِلى أَن صَارَ أَسبَقَ مِنَ الشَّيطَانِ إِلى الشَّرِّ وَالإِفسَادِ، كَمَا قَالَ قَائِلُهُم:
وَكُنتُ امرَأً مِن جُندِ إِبلِيسَ فَارتَقَى | بِيَ الحَالُ حَتى صَارَ إِبلِيسُ مِن جُندِي |
وَفي هَؤُلاءِ وَأَمثَالِهِم يَقُولُ الحَقُّ تبارك وتعالى: (ذَرْهُم يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 3]، وَيَقُولُ تعالى: (فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 37- 39].
وَإِنَّ هَؤُلاءِ الشَّيَاطِينَ كَمَا يُرَى في إِعلانَاتِهِم وَدِعَايَاتِهِم في القَنَوَاتِ في هَذِهِ الأَيَّامِ يَعِدُونَ المُسلِمِينَ بِأَن يُحبِطُوا أَعمَالَهُم أَو يُنقِصُوا أَجرَهَا أَو يُذهِبُوا ثَوابَهَا، فَيَكُونُوا كَالتي نَقَضَت غَزلَهَا مِن بَعدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا، وَيَخرُجُوا مِن شَهرِهِم كَمَا دَخَلُوهُ بِلا زَادٍ لأُخرَاهُم وَلا استِعدَادٍ لِمَثوَاهُم، مُسَلسَلاتٌ فِيهَا الاستِهزاءُ بِشَعَائِرِ الدِّينِ، وَأُخرَى فِيهَا التَّهَكُّمُ بِالمُسلِمِينَ المُحَافِظِينَ، وَثَالِثَةٌ ظَاهِرُهَا الضَّحِكُ وَالهَزلُ وَهِيَ شَرٌّ وَبَلاءٌ وَفِتنَةٌ، وَدَعوَةٌ إِلى التَّبَرُّجِ وَالسُّفُورِ وَالاختِلاطِ، وَتَزيِينٌ لِلتَّحَرُّرِ مِن رِبقَةِ الدِّينِ وَالانفِكَاكِ مِن قُيُودِ الأَخلاقِ.
أَلا فَرَحِمَ اللهُ امرَأً استَقبَلَ شَهرَهُ بِالتَّوبَةِ النَّصوحِ إِلى اللهِ، وَعَزَمَ مِنَ الآنَ عَلَى إِخراجِ قَنَوَاتِ الشَّرِّ مِن بَيتِهِ، قَبلَ أَن يَفجَأَهُ هَاذِمُ اللَّذَّاتِ وَهُوَ لِرَبِّهِ عَاصٍ وَبِدِينِهِ مُتَهَاوُنٌ وَلِمَن يُحارِبُونَهُ مُسَالِمٌ.
يَا إِخوَةَ الإِيمَانِ، يَا مَن أَنتُم عَلَى تِلكَ القَنَوَاتِ عَاكِفُونَ وَعَلَى مُتَابَعَتِهَا عَازِمُونَ وَفي أَمرِ إِخرَاجِهَا مُتَرَدِّدُونَ، كَيفَ تُرِيدُونَ الفَوزَ وَالرِّبحَ في رَمَضَانَ وَأَنتُم تَجلِسُونَ مَعَ مَن بِآيَاتِ رَبِّكُم يَستَهزِئُونَ وَلِكَذِبِهِم تَستَمِعُونَ وَبِهِ تَستَمتِعُونَ؟! أَلَم تَسمَعُوا إِلى مَا نَزَّلَ رَبُّكُم عَلَيكُم؟! يَقُولَ سُبحَانَهُ: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيرِهِ إِنَّكُم إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [الأنعام: 140].
إِنَّ شَرَّ هَذِهِ القَنَوَاتِ وَأَثَرَهَا السَّيِّئَ لم يَعُدْ خَافِيًا وَلا مَجهُولاً، وَالاستِهزَاءَ فِيهَا بِالدِّينِ وَمُحَارَبَةَ أَهلِهِ وَأَتبَاعِهِ صَارَ عَلَنًا، وَمُضَادَّةَ الحَقِّ وَالتَّشكِيكَ فِيهِ لم يَعُدْ سِرًّا فَيُطوَى، فَمَنِ الذِي يُرِيدُ بَعدَ هَذَا أَن يَجتَمِعَ بِهَؤُلاءِ في النَّارِ؟! مَن هَذَا الَّذِي يَرضَى لِنَفسِهِ بِالهَلاكِ وَالخَسَارِ وَالبَوَارِ؟! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].
إِنَّ تَركَ هَذِهِ القَنَوَاتِ في البُيُوتِ وَالرِّضَا بِمُشَاهَدَةِ الأَهلِ وَالأَولادِ لها وَالحَالُ مَا ذُكِرَ يُعَدُّ مِن أَعظَمِ الغِشِّ لهم، وَالنَّبيُّ يَقُولُ: "مَا مِن عَبدٍ يَستَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَومَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ".