البحث

عبارات مقترحة:

الحيي

كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...

البر

البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...

الخبير

كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...

الحسبة والمحتسبون (1) احتساب الأنبياء عليهم السلام

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. الأنبياء أكثر الناس احتسابا .
  2. مهمة الأنبياء هي الاحتساب على الناس .
  3. شمول موضوعات احتساب الأنبياء .
  4. صور من احتساب الأنبياء .
  5. استمرار احتساب الأنبياء حتى موتهم .
  6. رفض الأنبياء المساومة على دينهم .
  7. المحتسبون أنصح الناس للناس .
  8. احتجاج المفسدين بطلب الحرية .
  9. مجالات المنكر التي احتسب عليها الأنبياء .
  10. جريمة ترويج الشائعات على المحتسبين . .
اهداف الخطبة
  1. التعريف بما بذله الأنبياء في احتسابهم
  2. بيان مجالات الاحتساب وطرائقه
  3. الرد على شبه المفسدين حول الاحتساب

اقتباس

ليعلم من احتسب على الناس مرة أو مرتين، أو سنة أو سنتين ثم كف عن ذلك أن الرسل عليهم السلام ما توقفوا عن الاحتساب على الناس حتى فارقوا الدنيا.

الحمد لله العليم الخبير؛ أمر بالإصلاح وأثنى على المصلحين، ونهى عن الفساد وذم المفسدين، نحمده على نعمه وإحسانه، ونشكره على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛أرسل الرسل مبشرين بدينه سبحانه وبرحمته وثوابه، ومنذرين عن مخالفة أمره، والوقوع في نهيه، ومحذرين من شدة انتقامه، وأليم عقابه (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) [النساء: من الآية165] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فاتقوه حق التقوى، واستمسكوا بالعروة الوثقى؛ فتلك وصية الرسل عليهم السلام إليكم (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة:132].

أيها الناس: لما خلق الله تعالى البشر قسمهم إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [التغابن:2] ولا وجود لفريق آخر غير هذين الفريقين.

وفريق الجنة هم الأنبياء وأتباعهم المؤمنون، وفريق السعير هم الشيطان وأتباعه الكافرون، وفريق الجنة يسعى في الأرض بالصلاح والإصلاح، وفريق السعير يسعى فيها بالفساد والإفساد؛ ولذا كان أكثر الناس صلاحا وإصلاحا الرسل عليهم السلام؛ لأنهم أفنوا أعمارهم في السعي بالصلاح، ومقاومة الفساد, وقد قال الله تعالى عن الصالحين من آل إبراهيم عليه السلام (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) [الأنبياء: من الآية73] وقال شعيب وهو يحتسب على قومه (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) [هود: من الآية88] وهؤلاء الصالحون من البشر الذين يحتسبون على الناس بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وفضح المفسدين، وبيان فسادهم؛ قد أُمرنا بالنظر في سيرتهم، واتباع هديهم، واقتفاء أثرهم في الاحتساب على الناس، والسعي بالإصلاح، والأخذ على أيدي المفسدين والمفسدات؛ وذلك حين ذكرهم الله تعالى مبينا فضلهم وصلاحهم، وما اختصوا به من النبوة والرسالة ثم ذيَّل سبحانه ذلك بقوله عز وجل (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: من الآية90].

ومن قرأ القرآن بتدبر، واستقرأ أحوال الأنبياء فيه؛ علم أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا للاحتساب على الناس، ومراقبة أحوالهم، وتقويم سلوكهم وأخلاقهم، والأخذ بأيديهم إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال، وردهم عما يضرهم في الدنيا والآخرة.

والموضوعات التي احتسب فيها الرسل عليهم السلام على أقوامهم شاملة لما يصلح الدين والدنيا، ابتداء بتوحيد الله تعالى ونبذ الشرك، وانتهاء بتقويم سلوك الناس، وتصحيح معاملاتهم وأخلاقهم.

لقد أمروهم بكل معروف فيه صلاح أحوالهم في الدارين، ونهوهم عن كل منكر يضرهم في الدنيا والآخرة
لقد احتسب الرسل على أقوامهم في مسألة التوحيد، وهي أعظم مسألة وأجلها، وحذروهم من الشرك وعاقبته، وهو أخطر معصية وأكبرها، وما من رسول منهم إلا قال لقومه (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: من الآية59] وكان احتسابهم شاملا لكبراء القوم وملئهم، كما شمل عامة الناس وضعفتهم؛ لأنهم يريدون صلاح الناس كلهم، ومثال ذلك من سيرتهم: إنكار إبراهيم عليه السلام على النمرود بن كنعان، ومناظرته إياه في الربوبية والألوهية، وإنكار موسى عليه السلام على فرعون ظلمه وتعبيده الناس له من دون الله تعالى .

وتحمل هذان النبيان الكريمان عليهما السلام في سبيل إنكارهما على الطاغيتين ما تحملا من الأذى في سبيل الله تعالى مما قصه الله تعالى في كتابه العزيز.

وأنكر موسى عليه السلام على قوم فرعون تزويرهم للحقائق، وتزويق الباطل، والدجل على الناس، وإضلال العامة فقال لهم: (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) [يونس: من الآية77]، وفي الآية الأخرى (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) [طـه:61] فكان موسى عليه السلام قدوة لمن يتصدون لعلماء السوء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه لإرضاء البشر من دون الله تعالى، كما كان قدوة صالحة لمن يفضحون الكتاب والمفكرين والإعلاميين الذين يفترون الكذب، وينشرون الضلال، ويبثون الشبهات، ويدعون إلى الشهوات!! وكم يفترى في هذا العصر على الإسلام، وتؤول نصوصه لا لشيء إلا لموافقة مناهج المنحرفين المستكبرين!! وكم يفترى على المصلحين المحتسبين من أكاذيب كما افتري على الأنبياء من قبل؟!

وكما احتسب الرسل على كبراء الناس ورؤوسهم فإنهم قد احتسبوا على أهل بيوتهم وقرابتهم، فأمروهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، وما كانوا عليهم السلام ليحتسبوا على الناس ويتركوا المقربين منهم!!
هذا نوح عليه السلام يخاطب ابنه وقد بدت بوادر العذاب لينقذه من الكفر إلى الإيمان فيقول له ( يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) [هود: من الآية42] واحتسب إبراهيم عليه السلام على أبيه فخصه بالخطاب، وأكثر القول عليه، حتى غضب أبوه منه وهمَّ برجمه، وأمر بهجره (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً) [مريم:41-46] واحتسب إسماعيل عليه السلام على أهل بيته كما ذكر الله تعالى عنه ذلك بقوله (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ) [مريم: من الآية55].

واحتسب الرسل كذلك على عامة الناس، وأنكروا عليهم ما ساد فيهم من الشرك والمعاصي؛ فنوح عليه السلام أنكر على قومه شركهم، وإبراهيم عليه السلام أنكر على قومه اعتقادهم في النجوم وفي أصنامهم، وناظرهم في ذلك، فأبطل حجتهم، وبين ضلالهم وضلال آبائهم، وأتبع الإنكار بالقول الإنكار بالفعل، فكسر أصنامهم، وسفه أحلامهم، وهدم مذاهبهم (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) [الأنبياء:58] ولما جادلوه في ذلك أغلظ في الإنكار عليهم وقال لهم (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء:67] وهود عليه السلام احتسب على قومه، فأنكر عليهم الشرك، كما أنكر عليهم اغترارهم بقوتهم، ومفاخرتهم بعمرانهم، وتباهيهم بأموالهم، وهم القائلون (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) [فصلت: من الآية15] فبين لهم عليه السلام أن الله تعالى أقوى منهم، وحذرهم من مغبة عبثهم، وقال منكرا عليهم (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء:128-131].

واحتسب صالح عليه السلام على قومه فأنكر عليهم شركهم، وسرفهم في العمران على سبيل الأشر والبطر والرفاهية والمفاخرة، فقال عليه السلام لهم: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء:149-150] كما أنكر عليهم طاعة أهل الفساد والانحراف، فقال لهم: (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) [الشعراء:151-152] وأما قوم لوط عليه السلام فانتشرت فيهم الفواحش، وأعلنوا بها في الناس، وأظهروها في مجالسهم ونواديهم، مع شركهم بالله تعالى؛ فاحتسب لوط عليهم، وأنكر شركهم، وما يأتونه من الفواحش (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [النمل:54-55] وكانوا يقطعون الطريق على الناس لنهبهم، ولفعل الفاحشة بهم، فأنكر لوط عليهم ذلك بقوله عليه السلام (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ َإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت: من الآية28-29].

وأما شعيب عليه السلام فمع إنكاره لشرك قومه أنكر عليهم كذلك غشهم في البيع والشراء، وبخس الناس حقوقهم، فقال عليه السلام لهم: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الشعراء:181-183] كما أنكر عليهم قطع الطريق لأخذ أموال المسافرين بالقوة فقال عليه السلام لهم (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [العنكبوت: من الآية36] وفي الآية الأخرى (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ) [الأعراف: من الآية86] وكما احتسبت الرسل عليهم السلام على أقوامهم فنهوهم عن هذه الموبقات؛ فإنهم احتسبوا عليهم في المعروف فأمروهم بكل ما يرضي الله تعالى، ويوصل إلى جنته..أمروهم بشكر الله تعالى على نعمه، والإقرار بفضله، وإخلاص الدين له، فهذا هود وصالح عليهما السلام يقولان لأقوامهما (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ) [الأعراف: من الآية74].

وموسى عليه السلام قال ذلك أيضا (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) [إبراهيم: من الآية6] وأمروا أقوامهم بالتوبة والاستغفار؛ فهود وصالح عليهما السلام قالا لأقوامهما : (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [هود: من الآية61] وقال شعيب عليه السلام لقومه: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [هود: من الآية90].

ومن احتساب الرسل على أقوامهم أنهم نهوهم عن متابعة المفسدين في فسادهم ( وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف: من الآية142] وما أشد غضب الرسل عليهم السلام حين تنتهك حرمات الله تعالى..يغضبون غيرة على دين الله تعالى ولا يغضبون لأنفسهم أو دنياهم، فكم عذبوا وأوذوا فلم يغضبوا، فإذا رأوا المنكر في أقوامهم ظهرت غيرتهم على حرمات الله تعالى، واشتد غضبهم له سبحانه.

ولما أوحى الله تعالى إلى نوح عليه السلام أنه لن يؤمن من قومه إلا القليل الذي آمن معه دعا عليهم بالهلاك غيرة لله تعالى، وانتصارا لدينه (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح:26] ولم يكن دعاؤه عليهم بالهلاك انتصارا لنفسه، أو انتقاما منهم لما لم يستجيبوا له، بدليل أنه علل دعاءه عليهم بقوله عليه السلام (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً) [نوح:27] ولما عاد موسى عليه السلام من ميقات ربه، وتكليمه إياه وجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل، فاحتملته الغيرة على التوحيد حتى رمى بالألواح وفيها كلام الله تعالى؛ غضبا لله تعالى أن يخلفه هذا المنكر العظيم في قومه (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ)[الأعراف: من الآية150] هكذا غضب كليم الرحمن لما رأى المنكر في قومه، وكم من منكرات في بلاد المسلمين لا تحرك قلوب أكثر الناس!! فالله المستعان.

والرسل عليهم السلام قضوا أعمارهم كلها في وظيفة الاحتساب والإصلاح، ومقاومة الفساد والإفساد، حتى مكث نوح عليه السلام محتسبا على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ولما أهلك الله تعالى المكذبين مكث محتسبا على المؤمنين ما شاء الله تعالى.

وليعلم من احتسب على الناس مرة أو مرتين، أو سنة أو سنتين ثم كف عن ذلك أن الرسل عليهم السلام ما توقفوا عن الاحتساب على الناس حتى فارقوا الدنيا.

ولقي الرسل عليهم السلام في سبيل احتسابهم أنواع الصدود والأذى؛ فنوح عليه السلام سخر منه قومه، ونبذوا أتباعه، وإبراهيم عليه السلام أُلقي في النار، ورمي هود عليه السلام بالجنون، واتهم موسى عليه السلام بالسحر، وطارده فرعون وجنده، وكاد شعيب عليه السلام أن يرجم لولا منعة رهطه، وقتل زكريا ويحيى عليهما السلام، وطورد الرسل وأتباعهم بسبب احتسابهم على أقوامهم، فتلك سنة الله تعالى في المحتسبين أن ينالهم من الأذى على أيدي المفسدين والمستكبرين ما ينالهم.

ومن عادة المستكبرين والمفسدين محاولة إغراء المحتسبين بدنيا يبذلونها لهم مقابل إيقاف احتسابهم عليهم، وإخراس أصواتهم، وشراء أقلامهم، وما كان الرسل عليهم السلام ليقبلوا المساومة في دينهم، ولا تركوا الاحتساب لكمال دنياهم بنقص دينهم، وكان سليمان بن داود عليهما السلام قدوة للمحتسبين في ذلك؛ إذ رفض مصانعة ملكة سبأ له بالهدية مقابل الكف عن الاحتساب عليها وقومها (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) [النمل:36-37] جعلنا الله تعالى من أتباع الرسل عليهم السلام ، ووفقنا للصلاح والإصلاح،ورزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله تعالى لي ولكم....

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281] أيها المسلمون: أنصح الناس للناس هم أهل الحسبة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأخذون على أيدي السفهاء؛ لأنهم يحفظون المجتمعات من الضلال والانحراف، ويمنعون تنزل العذاب والعقوبات.

ومن نظر في سير الأنبياء عليهم السلام ظهرت له تلك الحقيقة؛ إذ إن الأنبياء عليهم السلام وهم يحتسبون على أقوامهم كانوا يعلنون فيهم أن الدافع إلى احتسابهم عليهم هو النصح لهم ليس غير.

قال نوح عليه السلام وهو يدعو قومه: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ ) [الأعراف: من الآية62] (نَاصِحٌ أَمِينٌ) [الأعراف: من الآية68] وقال هود عليه السلام: ( وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) [الأعراف: من الآية68] وقال صالح وشعيب عليهما السلام: (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) [الأعراف: من الآية79].

وأغش الناس للناس، وأخطرهم عليهم، هم من يقفون في وجه أهل الحسبة، ويحبون نشر الفاحشة؛ لأنهم سبب انحراف الناس وضلالهم، وبسببهم تتنزل العقوبات من السماء، وكل الأمم السالفة التي أهلكت من قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام إنما أهلكوا بسبب إصرار المفسدين على إفسادهم، والحيلولة بين الرسل وبين الناس، وتضييق منافذ الإصلاح وإغلاقها، مع فتح أبواب الفساد على مصارعها.

والحجة التي يحتج بها أهل الفساد والإفساد على أفعالهم القبيحة في هذا العصر هي توسيع دائرة الحريات، واحترام خصوصيات الناس، وزعمهم أن الحسبة تدخل فيما لا يعني، سبحان الله!! ما أضعف عقولهم ، وما أشد ضلالهم وانحرافهم؛ إذ كيف تكون الحسبة تدخلا فيما لا يعني وبسببها يحفظ المجتمع، وبزوالها يهلك الناس؟!

والحريات التي يريدها المفسدون هي الحريات التي تضمن لهم إلغاء الشريعة، وتعطيل أحكامها، والتسلط على عقول الناس وقلوبهم بأنواع الشبهات والشهوات؛ لنقلهم من الإيمان إلى الإلحاد، ومن الطهر والعفاف إلى الخنا والانحراف والشهوات، ومن درجات الخير والإحسان، إلى دركات الشر والإثم والعدوان.

وتلك الحجة السَّمِجَة التي يحتج بها المفسدون في هذا العصر قد احتج بها قبلهم المعذبون من الأمم السالفة، فزعموا أن الرسل عليهم السلام يتدخلون فيما لا يعنيهم، وأنهم يحدون من حرياتهم، وينتهكون خصوصياتهم، فقال قوم شعيب له (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) [هود: من الآية87] أي: نريد أن نفعل في أموالنا ما نشاء، ونحن أحرار فيها، فلماذا تأمرنا وتنهانا؟ والمفسدون في هذا العصر يكررون تلك المقولة بهذه الصورة أو بأخرى، ويريدون أن يفعل الناس ما يشاءون دون قيود أو ضوابط دينية أو أخلاقية!!

إنها نفس الحجة التي احتج بها الأقدمون فكانت سببا في هلاكهم، وهلاك الناس معهم.

إن من نظر في سير الأنبياء عليهم السلام ، والمعاصي التي احتسبوا على الناس فيها، ونهوهم عنها، يجد أنها معاص متنوعة، وإن كان الشرك موجودا في كل الأمم التي عذبت؛ ولذا أمر الرسل كلهم بالتوحيد ونهوا عن الشرك.وكل المعاصي التي سلفت في الأمم الغابرة قد اجتمعت في الحضارة المعاصرة، وهي حرية بالهلاك والعذاب، مما يجعل التبعات على أهل الإيمان كبيرة في إنكار هذه المنكرات المجتمعة؛ رفعا للعذاب، وإصلاحا للناس، وإلا لهلكوا ببعض هذه الموبقات، فكيف إذن بجميعها؟!

ونجد أن كل مجال من مجالات المنكرات قد انتشر في أمة من الأمم السالفة دون الأخرى، فتصدى له نبي من أنبياء الله تعالى منكرا له، ومحتسبا على قومه فيه: فَمَثَّلَ احتسابُ إبراهيم وموسى عليهما السلام على الطاغيتين المستكبرين مقاومة الفساد السياسي، ومكافحة الظلم والطغيان، والوقوف في وجوه الطغاة المتجبرين، سواء كانوا أفرادا أم دولا.

ومَثَّلَ احتسابُ هود وصالح عليهما السلام مقاومة الفساد العمراني والحضاري، والنهي عن الرفاهية والسرف في البنيان ، والتباهي بالقوة، والبطش بالناس.

ومَثَّلَ احتساب لوط عليه السلام مقاومة الفساد الأخلاقي والاجتماعي، والمحافظة على طهر الناس وعفافهم.

ومَثَّلَ احتساب شعيب عليه السلام مقاومة الفساد الاقتصادي، ومكافحة الغش في المعاملات، والسرقة بأي سبيل كان.

كما مَثَّلَ احتساب لوط وشعيب عليهما السلام مقاومة الفساد الأمني الذي هو سبب للخوف والجوع.

فمن قاوم في هذا العصر مجالات المفسدين كلها، فأنكر على الكفار كفرهم ودعاهم للإسلام، وأنكر على العاصين معصيتهم وأمرهم بالطاعة، وأنكر على الظلمة ظلمهم وأمرهم بالعدل، وأنكر على المسرفين إسرافهم، وعلى أهل الفساد المالي فسادهم، وعلى أصحاب الفواحش والمروجين لها فحشهم وفجورهم. وما من فساد إلا وله فيه إنكار بقول أو فعل فقد اقتدى بالأنبياء كلهم، وسار سيرتهم، وامتثل قول الله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: من الآية90] وكفى بذلك شرفا وفضلا.

ومن اختار مجالا من مجالات الفساد، واحتسب على الناس فيه، ووقف في وجه المفسدين، وتحمل السخرية والأذى في سبيل ذلك، فقد اقتدى برسول من رسل الله تعالى، وشارك في حفظ المجتمع من الانحراف والعذاب.

ومن لم يكن هذا ولا ذاك، وليس له في مقاومة الفساد والمفسدين أي نصيب، فقد حرم خيرا كثيرا، وسيسأل يوم القيامة عن تقصيره وخذلانه.

وأقبح منه من سلَّ قلمه، وأطال لسانه بالكذب والتجني، والافتراء والتشفي من أهل الاحتساب، واختلق القصص عليهم، أو سمعها ثم روجها في المجالس وهو لا يعلم صدقها، ولربما زاد عليها من نفسه للإثارة وشدِّ الناس إليه، وكم من فرية سوِّدت بها الصحف، وضجت بها القنوات والإذاعات، على أهل الخير والاحتساب، وعند التتبع والتحقيق بان أنها محض افتراء واختلاق، أراد منه المفسدون تأليب العامة على أهل الصلاح والإصلاح!!

ومن روج الشائعات على أهل الحسبة فليعلم أنه مشارك في نشر الفساد وإعانة المفسدين، وأنه قد سار من حيث يشعر أو لا يشعر سيرة المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وانحاز وهو يعلم أو لا يعلم إلى صف المنافقين والشهوانيين، ويخشى على دينه ولو كان في عداد المصلين.

فاعرفوا رحمكم الله تعالى مقام الحسبة من الدين، واعلموا أنها وظيفة المرسلين، فقوموا بها، وأعينوا أهلها، وخذوا على أيدي المفسدين؛ طاعة لله تعالى، وحفظا لمجتمعاتكم من البلاء والعقوبة.

وصلوا وسلموا