الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
إنَّ العصيان والعدوان قد يقعانِ في كلِّ مجتمعٍ من الأشرار المفسدين والمنحرفين، فالأرضُ لا تخلو من الشرِّ، والمجتمعُ لا يخلو من الشذوذِ، ولكن طبيعةَ المجتمعِ الصالح لا تسمحُ للشرِ والمنكرِ أن يصبحا عُرفاً مصطلحاً عليه، وأن يصبح سهلاً يجترئُ عليه كل من يهمُ به، وعندما يصبحُ فعل الشرِّ أصعب من فعلِ الخير في مجتمعٍ ما، ويصبحُ الجزاءُ على الشر رادعاً وجماعياً، تقفُ الجماعة كلها دونهُ، وتوقعُ العقوبةَ الرادعة عليه، عندئذٍ ينزوي الشرُ وتنحسرُ دوافعه، وعندئذٍ يتماسكُ المجتمعُ فلا تنحلُ عُراه ..
الحمد لله الذي أعزنا بالدين وجعلنا خير أمة أخرجت للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولي المؤمنين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الدعاة المجاهدين وسلم تسليمًا، أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون- فاتقوا الله طريق الفرج وسبب الرزق ورفع الحرج، والأمة تغلي حنقًا على الساخرين بخالقها مُولي النعم ومسديها، والمستهزئين بقدوتها وحبيبها وهاديها، وأمة في الشام تحترق وتموت بأيدي طغاتها وأعاديها، وفئة صالحة مصلحة تحترق غيرة من رقص وغناء واختلاط في مهرجانات على أراضيها..
في وسط هذا الركام من المآسي يأتي الحديث عن الشعيرة المستهدفة وعن السفينة المحاصرة، إن سفينة المجتمع ستجري في أمنٍ وأمان، تصارعُ الأمواجَ والطوفان فلا خوف عليها ما دامت تحرك أشرعة شريعة الرحمن..
لا خوف على راكبيها ما دام شعارهم (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)، لكنَّ فئةً من راكبيها قد امتطوا صهوةَ الحريةِ الشخصيةِ، فأرادوا أن ينقروا في زواياها، بمعول التبرج والاختلاط، وفؤوس السخرية والاستهزاء، ومطارق الزنا والغناء والربا، فإن تركهم الباقون وما أرادوا هلكوا جميعاً.. وإن أخذوا على أيديهم، وحالوا بينهم وبين ما يشتهون، كانت النجاةُ للجميع.
إنَّ العصيانَ والعدوان قد يقعانِ في كلِّ مجتمعٍ من الأشرار المفسدين والمنحرفين، فالأرضُ لا تخلو من الشرِّ، والمجتمعُ لا يخلو من الشذوذِ، ولكن طبيعةَ المجتمعِ الصالح لا تسمحُ للشرِ والمنكرِ أن يصبحا عُرفاً مصطلحاً عليه، وأن يصبح سهلاً يجترئُ عليه كل من يهمُ به، وعندما يصبحُ فعل الشرِّ أصعب من فعلِ الخير في مجتمعٍ ما، ويصبحُ الجزاءُ على الشر رادعاً وجماعياً، تقفُ الجماعة كلها دونهُ، وتوقعُ العقوبةَ الرادعة عليه، عندئذٍ ينزوي الشرُ وتنحسرُ دوافعه، وعندئذٍ يتماسكُ المجتمعُ فلا تنحلُ عُراه، وعندئذٍ ينحصرُ الفسادُ في أفرادٍ أو مجموعات، يطاردها المجتمعُ ولا يسمحُ لها بالسيطرة، وعندئذٍ لا تشيعُ الفاحشةُ ولا يفشو المنكر.
إنَّ الاحتساب والأمرَ بالمعروفِ والنهي عن المنكر، هو القطبُ الأعظمُ في الدين، وهو المهمةُ التي بعث الله لهُ النبيين أجمعين، ولو طُوي بساطهُ، وأهملَ علمهُ وعمله، لتعطلتِ النبوةُ واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفسادُ واتسعَ الخرق، وخربت البلادُ، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاكِ إلاَّ يوم التناد.. حمايةُ العقيدة وصيانةُ الفضيلة، وعزُّ الأمةِ، وفلاحُ المؤمنين، منوطٌ بالقيامِ بهذا الواجب.
الاحتساب من أخصِّ صفاتِ نبي الأمة (.. الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ..)
الاحتساب من أخصِّ صفقات من اصطفاهم الله من سائرِ البشرِ، ليكونوا أتباعاً لرسلهِ وأنبيائه، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
وضدهُ من صفاتِ أضدادهم في المنهجِ والمعتقدِ والمصير، (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ).
الأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكر، هو مناطُ خيريةِ هذهِ الأمة، ومن اتصفَ من هذهِ الأمة بهذه الصفاتِ دخلٌ معهم في هذا المدح.
قال عُمر بن الخطاب- رضي الله عنه: "من سرهُ أن يكونَ من هذهِ الأمةِ فليؤد شرط الله فيها".
الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر صيانةً للأمة، من أن يعبثَ بها كلُّ ذي هوى، وكلُّ ذي شهوةٍ، وكلُّ ذي مصلحةٍ يقولُ برأيهِ وتصوره، هو سببٌ للنصرِ والعزِّ والتمكينِ في الأرض.
صاحبُ هذا الوصفِ العظيم، يحصلُ لهُ من الثوابِ والأجرِ الشيءَ الكثير، وإنَّ مما يُحفزُ الهممَ إلى القيامِ بهذا العمل العظيم، ويستشرفُ الأعناقَ والأنظار إليه، أنَّ صاحبهُ يكونُ لهُ من الأجرِ مثل أجرِ الأوائلِ من هذه الأمة.
فقد صحَّ عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ قال: «إنَّ من أمتي قوماً يعطونَ مثل أجورِ أولهم، ينكرون المنكر».
إنَّ سمةَ المجتمع الخيّر الفاضل، الحيِّ القوي المتماسك، أنَّ يسودَ فيه الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يوجدَ فيه من يأمرُ بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يوجدَ فيه من يستمعَ إلى الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكونَ عُرفَ المجتمعِ من القوةِ، بحيث لا يجرؤُ المنحرفون فيه على التنكرِ لهذا الأمر والنهي، ولا على إيذاءِ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر..
في الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكرِ والاحتساب إقامةٌ للملةِ والشريعة، وحفظٌ للعقيدة والدين، لتكون كلمةُ اللهِ هي العليا.
والإنسانُ لا بد لهُ من أمرٍ ونهيٍ ودعوة، فمن لم يأمر بالخيرِ ويدع إليهِ أمرَ بالشر، بل لو أرادَ الإنسانُ ألاَّ يأمرَ ولا ينهى لا بخيرٍ ولا بشر، فإنَّهُ لا بُدَّ لهُ وأن يؤمرَ وينهى، فمن لا يزحفُ بمبادئهِ، زُحفَ عليه بكلِّ مبدأٍ وفكرة، والنفسُ تتلقى وتتشربُ من الأخلاقِ والمبادئِ الأخرى.
الأمرُ بالمعروف والاحتساب يُغذّي الأمة أفراداً وجماعات بالمثلِ والقيم، والأخلاقِ والعقائدِ السليمة، فلا يحتاجُ أحدٌ منهم إلى استيرادِ مبدأ أو خُلقٍ أجنبي على هذا الدين.
الاحتساب سببٌ لرفع العقوباتِ العامة (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) .
وبهذا يُعلم أنَّ دُعاة الإصلاحِ المناهضين للفساد والطغيان، هم صمامُ الأمانِ للأممِ والشعوب، إنَّهم لا يُؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنَّما هُم يحولُون بهذا دون أممهمٍ وغضبَ الله عليهم، واستحقاق النكال والضياع.
في الاحتساب شدٌّ لظهرِ المؤمن ورفعٌ لعزيمته، وإرغامٌ لأنفِ المنافقِ.
في الاحتساب استقامةُ الموازين، واتزانُ المفاهيم، فيجلو أمرَ المنكرِ أمامَ الناس، ويعلمون أنَّهُ منكر كما يعلمون أنَّ هذا الأمرُ المعينُ من المعروف، ومن ثمَّ يقبلون على هذا ويعرضون عن ذاك.
يا أيُّها المسلمون: إنَّ في تركِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإهمال شريعة الاحتساب، والتساهلَ فيه تعريض للنفسِ والمجتمعِ لعقوباتٍ عاجلةٍ وآجلة، وفي الحديثِ الحسن : «إنَّ اللهَ عز وجل لا يُعذّبُ العامةَ بعملِ الخاصة، حتى يروا المنكرَ بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروهُ، فإذا فعلوا ذلك عذَّبَ اللهُ الخاصة والعامة».
وفي الحديث الآخر : «ما من قومٍ يُعمل فيهم بالمعاصي ثُمَّ يقدرون أن يغيّروا ولا يغيرون إلاَّ يوشك أن يعمهم الله بعقاب».
والعقوبات تتنوعُ وتتعدد وبهذا تعلم أنَّ العاصي لا يضرُ نفسهُ فحسب، وإنَّما يضرُ مجتمعهُ بأكمله..
في تركِ هذه الشعيرةِ تجرئة للعصاة والفسَّاق على أهلِ الحقِّ والخير، فينالون منهم، ويتطاولونَ عليهم، واللهُ المستعان.
في تركِ هذه الشعيرةِ تزيينٌ للمعاصي عند الناس وفي نفوسهم، وانتشارٌ للجهلِ، وفشوا الفسادِ، وترك هذه الشعيرةِ سببٌ لعدمِ إجابةِ الدعاء «مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يُستجابُ لكم».
ترك هذه الشعيرةِ سببٌ لظهورِ غُربةِ الدين، واختفاءِ معالمه، وتفشي المنكرات والظلم، حتى يصبحُ المتمسكُ بدينهِ غريبًا بين الناس؟
قالَ الإمام الخلال: أخبرني عمر بن صالح، قال : قال لي أبو عبد الله: يا أبا حفص: يأتي على الناس زمانٌ يكونُ فيهم المؤمن بينهم مثل الجيفة، ويكونُ المنافقُ يشارُ إليهِ بالأصابع، فقلتُ يا أبا عبد الله: وكيف يشارُ إلى المنافق بالأصابع؟! فقال: يا أبا حفص صيَّروا أمرَ اللهِ فضولاً، ثُمَّ قال: المؤمنُ إذا رأى أمراً بالمعروف أو نهيًا عن المنكر، لم يصبر حتى يأمر وينهى، فيقولون عنه: هذا فضول، والمنافقُ كلُّ شيءٍ يراهُ يقولُ بيدهِ على فمه، فيقولون: نعمَ الرجل، وليس بينهُ وبين الفضول عمل.
إنَّ الحسبةَ التي تعد واحدةً من قنواتِ الدفاع عن الدين والمجتمع، هي الحصنُ بعد اللهِ تعالى في مواجهةِ العديد من الأعداءِ والحاقدين، وما يقومُ به رجالُها من تضحياتٍ حقيق بكلِّ تقديرٍ وإكبار، بل هم الأحقُّ قبل غيرهِم بدعوات الأسحار، وضمان الإجابة؛ لأنَّ العمل المنوطُ بهم مهمٌّ لكلِّ أسرةٍ وكل فرد، تكفل لهم الحسبةُ المناعة ضدَّ ذئابٍ تعطشت لهتكِ أعراضٍ وحرمات.
إنَّ وقفةً مخلصةً للهِ وحدهُ ثُمَّ لهؤلاءِ العظماء من الرجال بالدعاءِ والنصرةِ كفيلٌ بأن يحمي لنا مجتمعنا، وبراءاتهِ التي بدأ يفقدُ الكثير منها، وتستشري فيه الظواهرُ المزعجةِ للعينِ والقلب، مما لم نعهد مثلهُ قبلَ السنواتِ الأخيرةِ، مما ينذرُ بخللٍ خطيرٍ في تركيبةِ المجتمع، وكيف كان وإلى أين يؤول؟ إبراءً للذمم، وكفًّا لشرٍ أعتى وأمَرّ، وأملاً في الله تعالى وحده ثُمَّ برجالِ الحسبةِ في مستقبلٍ أنقى برجاله ونسائه، وأطهرُ بمبادئِ أهلية، وهي النموذجية المطلب والمنتظر، ألا هل بلغت، اللهمَّ فأشهد.
واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على حبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه، وفداه أمي وأبي وكل خلق الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.. أما بعد:
أيها المسلمون:
في زمننا خفَّت نورُ الأمرِ بالمعروفِ وضعفَ رجاله، وقلّ أنصارهُ وحينها استنمر البغاة، واستنوق الجمل، واسترجلت النساء وجرفَ أمتنا سيلُ العرم من المنكرات والضلالات.
حينما تقلص الاحتساب في مجتمعنا انبعثُت روائحُ الغشّ والخداع في أسواقنا، وزُكمت الأنوثة بنتن التبرج والسفور والمشاهد المحزنة للباس نسائنا ومشيتهن وكلامهن.
وحينما حُورب الاحتساب تحولت الحدائق والمتنزهات والمهرجانات إلى معرض للتبرج والاختلاط واللقاءات التي يعقبها خطوات، ثم خطوات، ثم خطوات آخرها اللقاء.
والتقت الذئاب بالنعاج؛ لأنَّ أسود الغابة أسلموا للذئابِ القيادة، وانشغلوا بالسمرِ والسهر والسفر..
حينما فُقد الاحتساب في أفراحنا تحولت القصور إلى قصور، وصارت الأفراح معرضًا للعري والتفسخ، وعاد لأفراحنا مستنقع المعازف والغناء، هُناك وفي القصورِ تطبيقٌ عملي لتعاليم القنوات الهابطة، وإرشادات المجلات الساقطة.
حينما خفتت أنوار الاحتساب غاب صوت الحق عن نباح الكلاب، فتجرأت الجراء على النباح انتقاصًا لرب العالمين، وتهكمًا بسيد الأولين والآخرين، وسخرية بأحكام الدين، وصار الكفر فكرًا، والعبث بثوابت الدين حرية وثقافة، وتهوين أمر الشريعة والاستهزاء بعلماء الأمة وفتاوى العلماء صار فنًّا وإبداعًا..
وحينما تصدى الغيورون لنباح الجراء وتحركت دماء الغيرة في عروق المسلمين عادت الكلاب لنباحها دفاعًا عن جراءها، ولو أننا بسيف الاحتساب أتبعنا رأس الحية لانكسرت شوكة العابثين بالدين وسقطت راية التغريبيين ونتاجهم من الملحدين.
حينما تسقط راية الاحتساب تعيش الأمة مسلسلاً داميًّا من المنكرات في كل الميادين سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، منكرات ظهرت حينما ترسخ لدينا مفهوم جائر بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقصور على رجال الهيئات، وأن الأمر والنهي من غيرهم تدخُّل وفضول يحاسبون عليه.
منكرات ظهرت وانتشرت؛ لأن فئة من علمائنا ودعاتنا وخطبائنا ما زالوا في برجهم العاجي يرددون: يجب على الناس، وينبغي على الناس، دون أن ينزلوا هم إلى الميدان منكرين.
إنه لن يقف سيل الفساد ولن تصلح البلاد والعباد ولم تسلم سفينة المجتمع إلا عندما تشعر الأمة كلها رجالها ونساؤها شيبها وشبابها مستقيموها والمقصرون فيها، عندما يشعرون بمسئوليتهم عن حماية السفينة وتحصينها من الغرق.
إن الأمر بالمعروف والاحتساب ليس مسئولية المستقيمين وحدهم، بل هو أمانة في عنق كل مسلم ينتسب لهذا الدين ولو كان ظالمًا لنفسه.
فلو لم يعظ في الناسِ من هو مذنبٌ | فمن يعظُ العاصين بعد محمد |
وكم علمنا لعصاةٍ مقصرين من مواقفٍ في الغيرةِ على الدين ولحرمات المسلمين، يعجزُ عن بعضها بعضُ الملتحين والمتدينين، وماذا تغني المظاهرُ وحدها، وما قيمةُ اللحى إذا كانت تخفي وراءَها وجوهًا لا تتمعرُ غضباً لله، وغيرةً لدين اللهِ، وما قيمةُ الثيابِ القصيرةِ إذا كان تحتها قلبٌ لا يتحركُ ولا ينبضُ بالحميةِ لدين الله، ولا يتقدُ بالحماسِ والغيرةِ، وما قيمةُ شفتين لم تتلوثا بالدخان، لكن خلفهما لسان ساكت عن الحق، ورُبما كان ناطقاً بالباطل، مخذِّلاً عن الحقِّ، والساكتُ عن الحقِّ شيطانٌ أخرس.
الاحتساب بأحكامه وآدابه وشروطه فريضة شرعية فُرضت بأمر رباني (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وصدرت بقرار نبوي: «من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه».
فلا يملك بشر كائنًا من كان أن يأذن به لمن شاء ويمنعه عمن يشاء..
الاحتساب ليس قضية تافهة يُستفتَى فيها المراهقون والمراهقات على صفحات الصحف، بل هو أمر رباني يجب على الأمة أن تخضع له رضي من رضي، وسخط من سخط.
أيها الأخ المسلم: لا بد لك من المساهمة في وضع السياج على المجتمع؛ لحمايته من ولوج الأعداء واللصوص إليه لكن هذا وحده لا يكفي؛ إذ لا بُدَّ من التعبئة لهذا المجتمع بالأفكارِ الصحيحةِ والمعاني الحميدة، وإشعالهِ بالطاعاتِ وفعل الخيرات؛ لئلاَّ يشتغل أهلهُ بالمعاصي والمنكرات.
إنَّ هذه الشعيرةِ هي مسئوليتنا جميعاً، فالخطيبُ والمحاضرُ، والداعيةُ والمعلمُ والمعلمة، والآباءُ والأمهاتُ، والمسئولون والقضاة، ورجالَ الحسبةِ والكاتب والصحفي، وكلُّ فردٍ في هذا المجتمعِ، يتحملُ مسؤوليةً سيُسألُ عنها يوم القيامة، فليتحمل كلٌّ منَّا مسؤوليتهُ وليؤدِّ أمانته.
أيُّها الأخ المسلم: إنَّ الوسائلَ في الاحتساب لا تنحصرُ في مجالٍ أو نمطٍ معين، ومتى كان في قلبِ المرءِ اهتمامٌ بأمر الدين، وحرقة للإسلام، وحرصٌ على مستوى الأمة، فإنَّ هذا الشعورُ يدفعهُ إلى ابتكارِ وسائلَ مختلفة، يستعينُ بها على إقامة هذه الشعيرة، احتسب بلسانك بالكلمة الطيبة بالمداخلة الهادفة بمحاضرة أو درس أو موعظة.
احتسب بنشر الكتاب وتوزيع الشريط الهادف، كن محتسبًا بقلمك أو برسالة جوال أو برسالة مسطرة أو بكتابة صحفية أو بتسطير برقية، كن محتسبًا بالهاتف، فكم كانت الاتصالات الهاتفية سببًا في إيقاف منكر، احتسب بالزيارةِ الشخصيةِ لصاحبِ المنكر، مستخدمًا وسائل الترغيبِ..
كن محتسبًا بسلاح المقاطعة مقاطعةِ أصحابِ المنكرات ومواقعهم ومهرجاناتهم، ومؤسساتِ الفسادِ والانحراف إنَّما كفل لها الذيوعُ والبقاء إقبالُ الناسِ عليها ودعمهم لها بأموالهم وتشجيعًا لهم بحضورهم من حيثُ يشعرون ولا يشعرون.
كن محتسبًا بمقاطعة منتجات الدول التي تحارب الدين وتعين الطغاة على إخواننا المسلمين..
كن محتسبًا بالتشهيرِ على من يستحقُّ من أهلِ المنكرات، وفضح باطلهم، وكشف مؤامراتهم.
كن محتسبًا بزيارةِ العلماء واطلاعهم على المنكر، وحفّزهم للقيامِ بدورهم والاتصال بهم، وأقل الأحوالِ وأضعفُ الإيمان أن يتمعرَ وجهكَ ويغضب قلبك للمنكر، فليس وراءَ ذلك من الإيمان حبة خردل.
كن محتسبًا بالدعاء لمن يستحق الدعاء وعلى من يستحق الدعاء من الطغاة والمجرمين، فكم دعوة هزت عروشًا وأسقطت دولاً.
كن محتسبًا بمالك بالإنفاق لكل مشروع خيري أو دعوي أو إغاثي..
يا جيل المصاحف يا أهل الإسلام يا غرس الشهادة أنت الذي سيُبدلُ الأوزان والأحزان، يزرعُ في العيونِ نخيلها، فلكم تباطؤ في الرحيلِ عن القرى عام الرماد.
يا أهل الإسلام: قبل أن تغرقَ السفينةُ، اطردوا عنكم داء الخجل، وارفعوا عنكم حاجز الخوفِ، واقطعوا حبلَ الترددِ، وانزلوا إلى الميدان، وقولوا لأهل الباطلِ لا وألفِ لا، إنَّ سفينتنا غاليةٌ وستجري بأمانٍ يحميها أهلُ الإيمان، من رجالٍ ونساء، وشبابٍ وشابات، يدفعون عنها فئرانِ الفساد، وجرذانِ الانحلال، واللهُ غالبٌ على أمره، ولكن أكثرَ الناسِ لا يعلمون.
اللهم اجعلنا من الدعاة في سبيلك الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر لإعزاز دينك..
اللهم صل وسلم على من بلّغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده..