الوارث
كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...
العربية
المؤلف | عقيل بن محمد المقطري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
الإسلام ليس محصوراً على المساجد، ولكنه يجب أن يسود في جميع مناحي الحياة في جانب التعليم، وفي جانب الاقتصاد والسياسة والإعلام، وفي كل باب من أبواب الحياة يجب أن يكون الإسلام هو السائد وهو الحاكم، فالإسلام إنما جاء من أجل أن يسود حياة المسلمين كلها في جميع الجوانب، لكن نتيجة لأفكار خاطئة حصر بعض الناس أنفسهم في زوايا المسجد، وتركوا الأمور الأخرى لغيرهم وإذا انشغل غيرهم بتلك المجالات، رموهم عن قوس واحدة ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فلربما ضاق صدر المؤمن لما يراه ويسمعه من الهجمة الشرسة على الإسلام، ليس من قبل أعدائه اليهود والنصارى، ولكن ما يحدث أحياناً ممن هم من أبناء جلدتنا ويتكلون بألسنتنا، هذا هو الأمر المؤلم المحزن، وهذا الأمر ليس وليد اليوم، هذه العداوة لهذا الدين ليس وليد اليوم، ولكنه منذ أمر الله تعالى الأنبياء بتبليغ دينه ظهرت وبرزت هذه العداوة للإسلام ودين الله تعالى هو الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لأهل الأرض والسماء (… إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ …) [آل عمران: 19].
هذا هو دين آدم ودين نوح ودين إبراهيم وإسماعيل وجميع الأنبياء جاءوا بدين الإسلام، ولما أمر الله تعالى نبينا صلى الله علي وآله وسلم بتبليغ هذا الدين، واختاره الله تعالى بعد أن كانت النبوة تدور في اليهود والنصارى لما لم يقوموا بما أمرهم الله تعالى به، ولما وقفوا في وجه الأنبياء ولما كذبوا على الله تعالى، وحرّفوا كتبه انتزع الله تعالى منهم النبوة انتزاعاً، وجعلها في هذا النبي الخاتم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هنا كاد اليهود والنصارى لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم كونه جاء ليصحح المسار، كونه جاء ليوضح ما فعله اليهود والنصارى بأنبيائهم، ما حرّفوه في كتبهم، ما افتروا على الله عز وجل من الأكاذيب ما حرموا فيه من الحلال، وما أحلوا فيه من الحرام، وما فعلوه بهذا الدين الذي ارتضاه الله تعالى لجميع خلقه إن هذا الدين يُكاد له، ويُتهم بتهم شتى وليس من العدل.
أيها الإخوة: وليس من الإنصاف أنه إذا أخطأ شخص في طائفة ما أن تُتَّهَم هذه الطائفة كلها بما فعله ذلك الفرد، فليس من العدل أنه إذا أخطأت طائفة أو جماعة تنتسب للإسلام، أو شخص ينتسب للإسلام إذا أخطأ خطأ أن يتهم الدين كله بتلك الأخطاء التي وقع فيها هذا الفرد أو تلك الطائفة، هذا ليس من العدل وليس من الإنصاف، وتأباه النفوس السوية أن يحمل الإسلام جريرة ما ارتكبه شخص أو طائفة من الطوائف؛ نتيجة لانحراف في الفكر أو انحراف في السلوك، أو في الفهم، أن يُتهم الإسلام بتلك التهم التي تُكال اليوم ضد الإسلام من هذه التُّهم التي تروج في الداخل، فضلاً عن الخارج وأكثرها بالطبع صدرت من قِبَل أعداء الله تعالى، من اليهود والنصارى من أجل أن يكاد لهذا الدين، وخاصة ما يسمى اليوم بالإسلام السياسي، وكأنه لا يوجد في الإسلام شيء اسمه سياسة، فالسياسة في الإسلام جزء من هذا الدين. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن بني إسرائيل كانت تسوسهم أنبياؤهم، كلما هلك نبي خلفه نبي آخر». وأنا أتعجب من انطلاء مثل هذه العبارة التي كان منشؤها ومنطلقها من الكنائس، ومن القسس والرهبان؛ حيث قالوا: "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر".
أتعجب ربما أحياناً من حُكّام يقولون: إنهم مسلمون، ومع هذا يتكلمون بمثل هذا الكلام، ويخوضون في الدين وفي السياسة معاً، ويا ليتهم طبقوا هذه المقولة، ولكنهم يتكلمون بكل شيء، وإذا تكلم العالم في السياسة قالوا: هذا ليس من شأنك، ولربما شجّع على هذا أناس حصروا أنفسهم على المساجد فقط، وتركوا السياسة لغيرهم، وهذا أمر في غاية من الفداحة، وفي غاية من الخطر على الإسلام وعلى المسلمين، فالإسلام ليس محصوراً على المساجد، ولكنه يجب أن يسود في جميع مناحي الحياة في جانب التعليم، وفي جانب الاقتصاد والسياسة والإعلام، وفي كل باب من أبواب الحياة يجب أن يكون الإسلام هو السائد وهو الحاكم، فالإسلام إنما جاء من أجل أن يسود حياة المسلمين كلها في جميع الجوانب، لكن نتيجة لأفكار خاطئة حصر بعض الناس أنفسهم في زوايا المسجد، وتركوا الأمور الأخرى لغيرهم وإذا انشغل غيرهم بتلك المجالات، رموهم عن قوس واحدة، واتهموهم بالتهم التي ربما يعلم بعضهم أنه كان من الواجب عليهم أن يسدوا هذه الأبواب التي لم تشغل وهذه القضايا التي يجب أن يحكم فيها الإسلام ولا أظن أن أحداً لم يتمعر وجهه حينما يرى الإعلام وفساد الإعلام، وأكاذيب الإعلام، وأضاليل الإعلام وفساد الأخلاق في الإعلام، وما شاكل ذلك.
لا أظن أن أحداً لا يتمعر وجهه ولا ينفطر كبده حينما يرى الربا سائدًا في بلاد المسلمين من خلال المصارف الربوية، لا أظن أن أحداً لا يتمعر وجهه حينما يرى التعليم كيف أفسد في بلاد المسلمين لا أظن أن أحداً ينكر مثل هذه القضايا إطلاقاً.
الإسلام -أيها الإخوة- يُتهم بأنه ضد الآخر بمعنى أنه لا يقبل الآخر، وهذه فرية عظيمة على هذا الدين، الإسلام بالعكس هو الذي علّم الآخرين كيف يتعاملون مع الآخر، الإسلام فتح الصدور وفتح الأبواب للتعامل مع الآخر، للتعامل مع اليهود، للتعامل مع النصارى، فضلاً عن الأفكار التي ربما تنشأ في داخل المسلمين، إنه يتعامل معها تعامل في غاية الرحابة، الإسلام إذا كان شرع من جملة ما شرع أنه لا إكراه في الدين، فانظروا كيف كان يتحاور مع عباد الأوثان والأصنام؟! وكيف كان يتحاور مع اليهود والنصارى؟! وكيف تعايش الإسلام والمسلمون مع اليهود والنصارى ؟! وكيف كان يتعامل المسلمون في حال الانتصار على اليهود والنصارى؟! انظروا كيف يتعامل مع أسرى الحرب؟! انظروا كيف حرم قتل الشيوخ والأطفال وحرم قتل النساء؟! إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرت به جنازة، فقام لها، فقيل له: إنها جنازة يهودي. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أليست نفسًا»، وأمر هذه الأمة أن تفعل ما كان يفعل صلى الله عليه وآله وسلم.
هكذا الإسلام يقبل ويتعامل مع الآخر؛ لأنه لا إكراه في الدين، ولأنه لا يتصور -أيها الإخوة- أن الإسلام يدخل إلى كل فلب إنسان، هذا أمر غير متصور إطلاقاًً، لكن هنالك بعض الأفكار المنحرفة التي يريد أن تدخل الإسلام إلى كل قلب، سواء كان بالقهر أو بغيره، وهذا أمرٌ لا يمكن أن يتحقق إطلاقاً، وبالتالي لا بد من التعايش في ظل ما يُطلق عليه بمصالح مشتركة مع الحفاظ على الثوابت التي لا يمكن للمسلم أن يتنازل عنها بحالٍ من الأحوال، فالإسلام له خصوصيات وله ثوابت، وله أساس، لا يجوز أن تتزعزع بحال من الأحوال، فالإسلام وفي طريقه لتغيير هذا الواقع لا يمكن أن يتطرف إطلاقاً، فإما أن يكون قابعاً في المساجد فحسب، وإما أن يترك السياسة، ويترك دفع الباطل، ويترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو أنه ينتقل إلى الطرف الآخر مباشرة، وهو طرف القتل وإراقة الدماء، هذان في طرفان، لكن هنالك طرف آخر وهو الإصلاح التدريجي في إصلاح النفوس، وفي إصلاح الأوضاع، هذا أمر يجب على المسلمين أن يسلكوا هذا الباب، وأن ينخرطوا فيه والله تعالى غالب على أمره، السيادة في النهاية لهذا الدين ولهذا الإسلام، وإن تصور الحاقدون لهذا الإسلام بأنهم يمكنهم أن يطفئوا نور الله، فلا يمكن أن يطفئوا نور الله، ولا يمكن أيضاً أن يجتث هذا الدين من جذوره أو من أسسه، وسيبقى العلماء والمخلصون والدعاة والمتوسطون يعملون في جميع المجالات وفي جميع الأصعدة، وسوف ينتصر هذا الدين بإذن الله تعالى، إن عاجلاً وإن آجلاً، إنه موعود الله تعالى، وموعود رسوله صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا الإسلام -أيها الإخوة- ليس مبتور النسب، وإنما هو متسلل النسب من لدن آدم عليه السلام مروراً بنوح وبموسى وعيسى وإبراهيم إلى أن وصل إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هذا الدين دين يتسم بالعدالة والسماحة، دين يتسم بالرفق والرحمة، دين يتسم بالربانية، دين يتسم بالتكامل والشمول في جوانب الدنيا، والدين دين يتسم بالتمييز والمفاصلة، يتسم بالتوازن والاعتدال، إن الدين عند الله الإسلام.
أيها الإخوة: لماذا يحل للأمريكان ولليهود أن يدخلوا إلى بلاد المسلمون عبر وسائل شتى يدعون إلى نصرانيتهم، ويفرضون على المسلمين مذاهبهم، لماذا يحل لهم ولا يحل للمسلم أن يدعو في بلده؟! أو أن يجوب الآفاق في بلاد العرب للدعوة إلى دين الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، لماذا يحل لهؤلاء أن يتجسسوا علينا؟! لماذا يحل لهم أن ينتهكوا سيادة بلاد المسلمين، ولا يجوز للمسلمين أن يفعلوا أقل مما يفعل هؤلاء هذه مدارسهم وهذه معاهدهم في كل مكان وفي كل شارع في بلاد المسلمين، يعملون على تنصير المسلمين، وعلى هدم السلوكيات والأخلاقيات في بلاد المسلمين، ونجد أن المسلمين ربما في بعض البلدان لا يجوز لهم أن يدعو إلى الله في بلدانهم، ومع أبناء جلدتهم من المسلمين، ولذلك كان من جملة ما جعل الشوارع تثور وتهب هذا التكميم للأفواه، وهذا الضغط على المسلمين، مثل ما كان يحصل على سبيل المثال في تونس على وجه الخصوص، لكن أعداؤنا يحق لهم أن يفعلوا ما يريدون. أما المسلم فلا يحل له أن يدعوا إلى الله تعالى، بحجة أن هذا إرهاب، وأن هذا تطرف، وأن هذا تزمت، وبالمقابل تجد العلمانيين والمتفسخين يدعون إلى الانحلال، ويدعون إلى فساد الأخلاق، ويدعون إلى كل رذيلة بكل صفاقة وجه، وبكل حرية، ولا تجد من يكبح جماحهم، أو يمنعهم عن مثل هذه القبائح.
إن الله تعالى -أيها الإخوة الكرام- لو شاء لآمن الناس كلهم، قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس: 99]، لكنه سبحانه أراد أن يظهر الحق على بأهله، وأراد أن يظهر الباطل بأهله، فالإسلام لا يكره أحداً أن يدخل في الدين أبداً، لكن لا يحل أيضاً منع العالم والداعية والمسلم أن يدعو الناس إلى هذا الدين بالرفق والحكمة والموعظة الحسنة، إن المسلم في يده نور يهتدي به في ظلمات الطريق، ويهدي به أيضاً من يريد أن يمشي وراءه، فلا يحل للطرف الآخر أن يأتي ويكسر هذا النور بحال من الأحوال، إن هذا الدين كما ذكرت آنفاً إنه أحسن من يتعامل مع الآخر، أحسن من يتحاور مع الآخر، وهو الذي وضع أسس الحوار، وهو الذي وضع أسس التعامل مع الطرف الآخر يهودياً كان أو نصرانياً، أو غير ذلك.
هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يأتي إلى ملك التتار قاطلوشاه، ويريد منه أن يفك أسارى المسلمين، فيقول له ذلك الملك: أنا أفك أسرى المسلمين، لكن أسارى أهل الذمة الذين كانوا معكم. فيقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: أهل ذمتنا قبل أهل ملتنا، يعني يجب عليك أن تفك أسارى اليهود والنصارى الذين هم في ذمتنا قبل أسارى المسلمين، فالدولة في الإسلام عندها أهل ذمة تتعامل معهم بعدل وبإنصاف، وتحميهم، وتسعى من أجل حقوقهم، خاصة البلدان التي لا يزال فيها ربما أحياناً يهود ونصارى، كيف سيتعايش المسلمون مع هؤلاء النصارى؟ يجب أن تكون هنالك قواعد مشتركة للتعايش في بينهم، وبالتالي الإسلام يقبل هذه الأطراف جميعاً، ويجب أن يفرق المسلمون بين أمرين وبين فقهين: فقه الممكن وفقه التمكين، أما فقه الممكن: فكيف تتعامل مع الواقع بجدية وبإيجابية.
وأما فقه التمكين، فهذا فقه آخر يأتي حينما يكون الحكم للمسلمين ربما يكون هنالك إرجاء وسكوت وتريث في كثير من القضايا في حال عدم التمكين، وهذا فقهه يندر أن يفقه هذا رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان في مكة كان يرى الكفار يعبدون الأصنام، ما هدمها، هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم في عرضه، ويقيم الحد على المسلمين ممن خاض في عرضه، ولم يقم الحد على المنافقين؛ لأن هؤلاء سيشوشون على الإسلام، ولأن هؤلاء سيتكلمون في الإسلام، وسيتكلم أعداء الإسلام، وسيقولون: إن محمداً يجلد أصحابه، إن محمداً يقتل أصحابه، هذا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يريد أن يبني البيت الحرام على قواعد إبراهيم عليه السلام، لكنه لم يفعل هذا، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجر أمن البيت هو؟ قال: «نعم». قلت فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟ قال: «إن قومك قصرت بهم النفقة». قلت فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال: «فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض». لكنه لم يفعل ذلك صلى الله عليه وآله وسلم، إذاً هناك قضايا يجوز أن يرجئها الإنسان، يجوز أن يسكت عليها الإنسان، هذا عمر رضي الله عنه في عام الرمادة لم يُقم الحد على من سرق طعاماً؛ لأن الحفاظ على النفس مقدم على الحفاظ على الأموال، وإن كانت هذه الأموال أُخذت ونُهبت، لكن الحفاظ على النفس المؤمنة حية أولى من المال في أيدي الأغنياء أو في أيدي الموسرين. أسأل الله تعالى أن يفقّهنا في الدين، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
يُتهم الإسلام بأنه دين دموي، بمعنى أنه يسعى لإراقة الدماء، لقطع أيدي الناس، ولقطع رقاب الناس، وما شاكل ذلك، وهذه ربما أحياناً تسمعها من أبناء جلدتنا وممن يتكلم بألسنتنا..
إن الإسلام -أيها الإخوة- حرص كل الحرص على الدماء وخاصة دماء المسلمين. قال تعالى: (… وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً…) [البقرة: 32]، وقال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً…) [البقرة: 32]، فقتل نفس بغير حق كأنما يتجاوز هذا الإنسان فيقتل الناس جميعاً. حدثنا علي حدثنا إسحق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا»، دماء المسلمين محرمة في ما بينهم، حدثنا مسدد قال حدثنا بشر قال حدثنا ابن عون عن ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره، وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه، قال: «أي يوم هذا»؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه قال: «أليس يوم النحر؟» قلنا: بلى، قال: «فأي شهر هذا»؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: «أليس بذي الحجة». قلنا: بلى، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه» وأول ما يُقضى به يوم القيامة الدماء.
مما يُتَّهم به الإسلام قضية تغيير المنكر، وأن الإسلاميين خاصة ما يطلقون عليه الإسلام السياسي أنه إذا تمكن أنه اليوم الثاني سيكون في الشوارع بيده العصي والكرابيج والأصوات، ويضرب الناس، ويجلد الناس، ويقطع أيدي الناس، ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، لا يترك رجلاً يمشي مع امرأة في الشارع إلا حققوا معه من أين هذه المرأة، ومن هذه المرأة، ومن يشهد لك أنها زوجتك أو أختك.. وهذه كلها دعايات من أجل أن ينفر الناس ليس من الإسلاميين، ولكن من الإسلام؛ لأن هذه هي طريقة أعداء الإسلام، أنهم لا يتهمون الإسلام مباشرة إلا من بلغ غاية في الحقد على هذا الدين، وإلا فطريقهم التشكيك والطعن في حَمَلة هذا الدين؛ ليتوصل بعد ذلك الناس للطعن في دين الله عز وجل، وهذه مزاعم يزعمونها فإذا ذُكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انبروا بأقلامهم وخرجوا بوسائل إعلامهم في مشارق الأرض ومغاربها للقول بأن هؤلاء غداً سيضربونكم وسيجلدونكم وسيقطعون أيديكم وأرجلكم، وسوف يمنعونكم من الخروج إلى الشوارع، وسيمنعون المرأة من الخروج، ومن العمل إلى آخر ذلك .
هذه كلها أكاذيب وأراجيف، لكن هذه الأمة معلوم أن الله لم يمتدحها إلا لأنها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، (كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر). والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له ضوابط منها: ألا يؤدي هذا المنكر إلى منكر أكبر منه، وإلا صار محرماً. فتبين لنا من خلال الكلام الماضي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعل كثيراً من القضايا؛ لأن فعلها قد يؤدي إلى منكر أعظم، فامتنع عن إقامة الحد على المنافقين، حتى لا يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، وامتنع عن إعادة بناء الكعبة حتى لا يرتد الناس عن دين الله عز وجل، فأبقاها كما هي صلى الله عليه وآله وسلم من جملة التهم قضية الحدود في الإسلام، وهذا الكلام يُسمع غالباً من العلمانيين من الماركسيين، يُسمع منهم وهكذا أيضاً من اليهود ومن النصارى يُسمع منهم مثل هذا الكلام، أن الإسلام إذا حكم سيقطع الرقاب، وسيقطع الأيدي والأرجل من خلاف إلى آخره. وهذا الكلام مسموع، وليس وليد اليوم، بل كلما حقق المسلمون انتصارات وإنجازات انبروا لمثل هذا، كي ينفّروا الناس عن دين الله عز وجل.
إن الإسلام -أيها الإخوة- لا يتجسس على أحد، فكل إنسان له خصوصيته، والإسلام لا يقيم الحد إلا على من وصل إليه أو أوصل إليه هذا الإنسان كونه عمل منكراً شاع بين الناس أو أعلنه، وجهر به بين الناس، بل إن الإسلام يحرص أشد الحرص على ستر الناس، وحث على أنه من رأى إنساناً يرتكب معصية أن يأمره بأن يتوب وأن يستر نفسه، وألا يعود لمثل هذا العمل لا أن يجره بيده إلى الحاكم أو المحكمة أو إلى قسم الشرطة ويقول هذا فعل بل حتى الحاكم يرجع من وصل إليه كونه فعل معصية يحاول أن يرجعه وأن يثنيه من أن يفضح نفسه، وحدثنا محمد بن العلاء الهمذاني حدثنا يحيى بن يعلى (وهو ابن الحارث المحاربي) عن غيلان (وهو ابن جامع المحاربي) عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله طهرني فقال: «ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه " قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه»، قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيم أطهرك؟»، فقال: من الزنا، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَبِهِ جنون؟»، فأُخبر أنه ليس بمجنون فقال: «أشرب خمرًا؟»، فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أزنيت؟» فقال: نعم، فأمر به فرُجم، فكان الناس فيه فرقتين، قائل يقول: لقد هلك لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة، قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال: «استغفروا لماعز بن مالك»، قال: فقالوا غفر الله لماعز بن مالك، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد تاب توبة لو قُسِّمت بين أمة لوسعتهم».
لكن هنا قضية، وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنكر عليهم كونهم لم يتركوه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «هلا تركتموه؟» يعني حينما أراد أن يهرب، قال: «هلا تركتموه؟» يعني ليتهم تركوه ولم يجهزوا عليه؛ ذلك لأن الإسلام يحب الستر المرأة التي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت: يا رسول الله! إني زنيت، وها أنا حامل، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «اذهبي حتى تضعيه»، كان بإمكانها ألا تعود جاءت به بعدما وضعت: «اذهبي حتى ترضعيه»، جاءت به: «اذهبي حتى تفطميه» سنتين كاملتين وقبل سنة، فكان بإمكانها ألا تعود، ولكنها جاءت وجادت بنفسها فأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها الحد. الحاصل أن الإسلام يرغّب في الستر: «من ستر مسلماً ستره الله تعالى»، رجل من الصحابة يجد آخر مخموراً، وأراد أن يأخذه إلى الحاكم، فقال: لا، إني سأستره وسأنصحه عسى الله تعالى أن يسترني. هذه على كل حال فرية المقصود منها تنفير الناس عن الإسلام.
أخيراً -أيها الإخوة- مما يُتَّهم به الإسلام أنه ظلم المرأة، وجعلها حبيسة بين أربع جدران، وجعلها سجينة مع زوجها حتى يتوفاها الله عز وجل، لكن هذه فرية ليست حديثة، وليست جديدة، ويريدون بهذا أن يلزموا المسلمين باتفاقيه السيداو التابعة للأمم المتحدة، هذه الاتفاقية التي فيها عشرات المخالفات لدين الإسلام، يريدون أن يسووا المرأة بالرجل، وهيهات هيهات، لا يمكن أن يسووا بين الرجل والمرأة لا في الخلقة ولا بالطبيعة، ولا في الأحاسيس ولا بالمشاعر، ولا بشيء من هذا، لكن هؤلاء أصحاب قلوب مريضة أصحاب شهوات يريدون أن ينتهكوا حرمات الناس، يريدون أن يعبثوا بهذه المرأة فإذا نضب جمالها وقضوا غرضهم منها، رموا بها في الزبالة، ولم يلتفتوا إليها إطلاقاً، لكن الإسلام كرَّم هذه المرأة كرَّمها أماً وبنتاً وأختاً وزوجة، ليتهم قرءوا التاريخ كيف تعامل اليهود مع المرأة، كيف يتعامل الهندوس مع المرأة، كيف يتعامل الغرب اليوم مع المرأة؟! إن المرأة اليوم في العالم الغربي قد ضجرت من تلك الحياة التي كانت تنادي بها بالمساواة بين الرجل والمرأة، ثم ها هي اليوم تتمنى أن تعود إلى بيتها إلى أولادها بل كثير منهن حرمت نفسها من نعمة الولد بحجة الحرية، ويا ليتها استفادت شيئاً لم تستفد مالاً ولم تستفد راحة، ولم تستفد هدوء بال، ولم تستفد حتى مساواة مع الرجل، فلا زالت المرأة في بلاد الغرب تعاني من التمييز، واستخدمت سلعة للبيع والشراء وللدعايات، وما شاكل ذلك.
أيها الإخوة: إن على المرأة إذا كانت تؤمن بالله، وتحب الله تعالى، أن تصرخ في وجه هؤلاء وتنادي وتقول: سمعنا وأطعنا لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب: 36].
والحمد لله رب العالمين.