المتين
كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - صلاة العيدين |
فالأمة الإسلامية الآن تواجه مستقبلا أنضر، ولكن العوائق أمامها أكبر؛ لأن أعداءها لا ينامون! ولذلك فأنا أوجِّه النظر إلى ما لنا وما علينا، أوجه النظر إلى أن الجبهة الإسلامية -وهى جبهة تضم جماعاتٍ لا حصر لها- يجب أن يسودها الفقه، يجب أن يسودها العقل، يجب أن يسودها الإدراك السديد، يجب أن يسودها الوعي الراشد..
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى. الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، ومنع وأعطى. الحمد لله، له الملكوت الذي لا يبلى، وله الخزائن التي لا تفنى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) [الإسراء:111].
الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله اكبر. الله أكبر. الله أكبر ما قامت بربها الأشياء، وما سبحت بحمده الأرض والسماء. الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. خير الخالقين, وخير الرازقين, وخير الراحمين, وخير الغافرين: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:88].
وأشهد أن محمدا رسول الله, خير من عبد وسجد, خير من وعى و دعا, خير من بلَّغ رسالة وأدى أمانة, خير من جاهد فما أبطره نصر عندما انتصر, و لا أيأسه غلب عندما انهزم. صلوات الله عليه, أدى رسالة جمعت بين العقل و العاطفة, وبين المادة و الروح, وبين الدنيا و الآخرة, أساسها هذا القران الذي طالما تلوناه في رمضان، ولن نزال نتلوه ما بقى في صدورنا نفس يتردد، ننقل للناس وحي الله الخاتم، وهداياته الأخيرة إلى سكان المشارق والمغارب.
أما بعد:
أيها الإخوة: قرآننا هذا يجب أن نعرف قدره، إن الله سبحانه وتعإلى عندما أحب أن يذكر بركته النامية، ونعماءه الهامية على الناس أجمعين، اختار لذلك طريقين. قال تعإلى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الملك:1]، وقال: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان:1]، فكان الملكوت الرحب- وهو بيد الله- مضارعا أو مساويا للكتاب الخاتم المعجز الذي أنزله الله، كلاهما في الدلالة على بركات الله ونعمائه!.
ومثل ذلك في الحمد، وربنا المحمود آناء الليل وأطراف النهار، وبعد فناء الزمان والمكان. عندما حمد نفسه قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) [الأنعام:1]، ثم قال مرة أخرى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) [الكهف:1].
إن هذا القرآن عالم آخر من المعاني والمشاعر والهدايات والتوجيهات، يضارع أو يساوى العالم الكبير الذي تدور أفلاكه، ولا نعرف آماده ولا نهاياته؛ هذا هو القرآن الذي اعتمد عليه نبينا -صلى الله عليه وسلم- وهو يهدى الإنسانية. إن الله رباه ليريى به العرب، وربى العرب به لكي يربي بهم الناس جميعا.
فهل عرفتم رسالتكم؟ وهل وعيتم مكانتكم؟ وهل أدركتم خطورة تفريطكم في الكتاب الذي أنزل عليكم، وكُلفتم بتلاوته وتبليغ رسالته؟ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [الإسراء:9-10].
وصناعة القرآن للإنسان المسلم هي صناعته للمجتمع المسلم، وقد كنت -أنا شخصيا- متجاوبا مع القرآن الكريم التجاوب كله.
عندما جئت من "الجزائر" إلى أن انتهيت هنا، كنت في طائرة تحملني فوق السحاب بمسافة، ونظرت إلى السحب المتراكمة، ولفت نظري نتوء في جبل أشم من هذه السحب المتراكمة، ثم أخذت -كما علمني القرآن- أفكر في السحاب المسخر بين السماء والأرض، فكرت وأخذت أسأل: هذا النتوء من السحب من أين جاء؟ أمن البحر المتوسط الذي أطير فوقه؟ أم من المحيط الأطلسي الذي أقترب منه؟ قلت: الله أعلم. ثم مضى بي التفكير وأنا أقول: وهذا السحاب عندما يهمي ويتحول إلى مطر غزير، ترى هل سنشربه من آبار، أو من ينابيع، أو من أنهار جارية، أو من صنابير مفتوحة؟ قلت: الله يدرى؟ قلت مرة أخرى: أم يتحول هذا الماء في كيان الحبوب والفواكه والرياحين والأزهار التي ينطلق الماء خلالها مكونا أجسامها أو الجزء الأكبر منها؟ قلت: الله يدرى، ثم قلت: هل هذه أول مرة يتحول فيها الماء إلى ما ذكرت من نهايات أم أنه ذهب إلى البحار والأنهار والحدائق والنخيل وحبوب الحصيد، ثم عاد مرة أخرى من بطون الآكلين ومن أفواه الشاربين ليتحول إلى البحر ثم إلى سحب ثم إلى مطر. وهكذا؟!.
إن الله -سبحانه- يعلم، وهو بعلمه وقدرته وإبداعه وصنيعه العجيب يتابع هذا كله، ذرة ذرة، ومرحلة مرحلة؟! هكذا علمنا الإسلام أن نعرف ربنا معرفة صحيحة، نحن لسنا كذَبة على الله نقول: إن لله أولادا، أو ان له أسرة، أو إن له شركاء، أو إنه غير موجود، أو إنه موجود مفقود! لا. نحن نؤمن بالله الواحد، هكذا تعلمنا من نبينا -صلى الله عليه وسلم- كما تعلمنا منه أن نتبع هذا الإله الواحد في كل ما أمر به، ونهى عنه، وأقام بيننا وبين ظهرانينا هذا النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- يقول: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [الأنعام:161-164].
أيها الإخوة: إن الدين الذي تبعناه وفَّر علينا تجارب كثيرة، مثلا: ضمن حق الملكية، وأثقله بواجبات دينية كثيرة، لم؟ لأن ضمان حق الملكية هو أساس الإنتاج الغزير، والعطاء الواسع. ولم يعرف "الروس" هذا إلا بعد سبعين سنة من تقهقرهم الاقتصادي، وتخلفهم في الإنتاج العام! لكن ديننا أباح التملك، وأثقله بالحقوق التي لا يضيع معها فقير ولا بائس ولا محروم.
هل يكون الفرد ضائعا في كيان دولة مستبدة يتفرعن فيها من تفرعن؟ أو يكون إنسانا حرا تمتد حريته حتى تشبع غرائزه كلها وأهواءه كلها؟ لا هذا ولا ذاك، إن الإنسان في الإسلام حر، ولكنه محكوم بدين الله، إنه سلبي مع الله الذي أوجده، وإيجابي مع الكون الذي يعيش فيه؛ هكذا علمنا الإسلام، إن ديننا عظيم، ولكن يبقى التساؤل: إن الدين العظيم كون أمة عظيمة، كانت العالم الأول نحو: ألف سنة! أما الآن فهي العالم الثالث أو العالم الرابع إن كان هناك رابع! ما السبب؟ السبب لا يتجاوزنا نحن، نحن المسئولون عما لحق بنا وعما أصابنا.
أذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربى قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها؛ حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبى بعضهم بعضا".
وصدقت الأيام الحديث، ما خذلنا إلا من داخلنا، وما ضعنا إلا من تفريطنا، ولو أن المسلمين وفوا لرسالتهم ما استطاع أحد في الشرق أو في الغرب أن ينال منا قليلا ولا كثيرا، ولكننا فرطنا، حتى إنني أسأل نفسي كثيرا: هل نحن تخصصنا في أن نخرب بيوتنا بأيدينا وأيدي أعدائنا معا؟ إن اليهود يقتلوننا، ولكنهم لم يقتلوا منا مثل ما قتل بعضنا من بعض!.
ما هذا الذي يقع في الأمة الإسلامية؟ دماؤنا تسيل، ونحن الذين نسيلها، حقوقنا تهدر، ونحن الذين نهدرها! والغريب أن التاريخ يعاود نفسه، يقول التاريخ: إن بيت المقدس سقط أواخر القرن الرابع الهجري، لم؟ لم يكن هناك مسلمون يكونون وحدة إسلامية متماسكة! لم تتحرك بغداد ولا دمشق ولا القاهرة ولا مكة! ما تحرك أحد، تركوا بيت المقدس يلقى مصيره،كما قال أحد المؤرخين الأجانب "غوستاف لوبون": كان قومنا كاللبؤة التي قُتل ولدها، فهي تتحرك في كل مكان تبطش وتقتل. سبعون ألف مسلم بين عشية وضحاها هلكوا! والسبب فرقة الأمة العربية. نفس السبب قائم الآن، الأمة متفرقة، ما الذي فرقها؟ يجب أن نعرف.
أيها الإخوة: طبيعة الأمة العربية التمزق والتفرق ما لم يجمعها دين، أمتنا العربية لم يعرف لها حكم مركزي أبدا في جزيرة العرب، كانت قبائل، وستبقى إلى قيام الساعة قبائل ما لم يجمعها الإسلام، وما لم يوحدها الدين، وما لم يغسل أدرانها معتقد حق، وما لم تجتمع كلمة التوحيد في ربوعها لتتوحد الكلمة على أساسها.
هذه حقيقة يجب أن نعرفها، وكلما ابتعدنا عن الإسلام لم نزدد إلا ذلا، ولم نزدد إلا ضياعا، ولم يزدد أعداؤنا علينا إلا جراءة، وهذا ما يعرفه أعداء الإسلام، ولذلك نراهم يحاربون الانتماء الإسلامي في كل ميدان، الانتماء الإسلامي جريمة عند المستعمرين من شرق وغرب، وقد رأينا جهود الجبابرة تبذل حتى تجعل الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة انتفاضة عادية قومية، مع أن الشباب كان يسميها انتفاضة المساجد، ومع أن الذين صنعوها -وأنا أتصل ببعضهم- ما يعرفون إلا كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهم إلى الآن يقدمون الشهداء..
هؤلاء سميت ثورتهم ثورة الحجارة، لأن كلمة المساجد بغيضة إلى نفوس وسائل الإعلام في كل بلد، كانت ثورة المساجد، فسميت ثورة الحجارة، ثم لماذا تجتهد أقلام شتى، وعقليات شتى، كي تلقى طابعا قوميا على هذه الانتفاضة، وهى انتفاضة إسلامية لحما ودما؟ قلت: يا عجبا! اليهودية وهى تهجم تعلن عن ثوراتها، وعن تاريخها، وعن شعائرها، أما نحن فمحرم على الإسلام أن يكون دفاعا، وأن يكون سلاحا للدفاع!.
أيها الإخوة: بقى أن تعرفوا شيئا من سنن الله في الكون وفي الحضارة، هذا شيء لا ينبغي أن يفوتنا؟ لماذا؟ لأنها حقيقة ينبغي أن تعرف، هذه الحقيقة التي ينبغي أن تعرف هي أن فلسفة الألم في الإسلام يراد منها تذكير الناس بالله، إن الله إذا أوجع الأمم، أو أوجع الشعوب إنما يريد بذلك أن يقول الناس: يا رب اصرف عنا الأذى، يا رب اصرف عنا البلاء. هكذا علمنا الله، يقول لنا: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) [الأنعام:42-43]، هلا تضرع الناس عندما تألموا؟ هلا علموا أن لهم ربَّاً يُعطى ويمنع، ويخفض ويرفع، ويجيع ويشبع، هل علموا هذا؟ لا: (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:43].
إن الآلام تنزل بالأمة الإسلامية الآن سيلا منهمرا، جئت من " المغرب" والمغرب مهدد بأقطاره كلها بـ "الجراد" و بـ "الجفاف"، ومع ذلك أتساءل: أين أصوات الضارعين؟ أين أصوات المستغيثين برب العالمين؟ لا تجد! وادي النيل مهدد بأن النيل لا يجيء، ومع ذلك تجد هذا يضحك، وهذا ينطلق في طريقه يمرح، وهذا لا يبالي، أهذه آلام تنزل ببشر أم تنزل بجماد؟! ألا نعرف ربنا حتى نضرع له؟ ونستغيث به؟ ونقول له: (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) [الدخان:12]، هلا فهمنا قوله تعالى: (... اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح:10-12].
ما الذي قطع علاقات الناس بالله؟ أنا أعلم أنني أعيش وغيري يعيش في ظل حضارة كافرة مجنونة تعبد المادة وحدها، شرق أوربا وغيرها سواء في الجري وراء اللذات، والانطلاق وراء الشهوات، إنهم لا يفكرون لا في إله ولا في يوم آخر!.
فإذا كانت هذه الحضارة النجسة تريد أن تفرض نفسها على المسلمين، فما تعلقنا بديننا إذا كنا سيطوينا الغمار ونمشى وراء القوم دون وعى؟ يومئذ نتساءل: ما الذي ينزل بنا؟ وما الآلام التي تحيط بنا؟ والجواب: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون:75-76].
وليس الاستغفار لحظة ضعف كالتي تعتريني أو تعتري غيري، ولكن الاستغفار الحق أن نعرف أخطاءنا ونتوب منها، هذا كتابنا ينطق علينا بالحق. القرآن الذي صنع أمة شرَّقَتْ حضارتها وغربت ما الذي صرفنا عنه؟ إنه ليس كتاب الموتى، إنه كتاب الأحياء، إن آياته لا تتلى التماس غفران لذنب عند ميت ذهب إلى ربه، ويعلم الله ما يثقل ظهره من أوزار، أو ما يبيض وجهه من استغفار، إن القران جاء لينظم قوافل الأحياء، وكما تنظِّمُ الإشاراتُ الحمراء والخضراء قوافل المرور عبر الشوارع والميادين فإن هذا القرآن ينظم للإنسانية طريقها، ويضبط غرائزها، وكما قلنا: إنه يجمع الدنيا والآخرة، الجسم والروح، العقل والعاطفة، إنه كما قال منزله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل:89]. ما أحوجنا إلى هذا الهدى! وما أحوجنا إلى تلك الرحمة!.
أيها الإخوة: إنكم تقتربون من الإسلام، ولست يائسا، ولست ممن يوهنون الأمل الكبير، والجهد الكبير الذي يبذل، ولا أقول هذا من باب فتح الآفاق أمام مَن يعمل وليس لي سناد إلا الأوهام، لا. مِن سبعين سنة دخل الروس تركستان، وكانت قد تحررت، واستمات أهل تركستان؟ تحدث بذلك طاغية الشيوعية "لينين" كان "لينين" يقول للجيش الأحمر: تعلم من التركستانيين الحماس والتضحية والفداء!.
ولكن تركستان- وهى جزء من أرض الإسلام- سقطت، وضاعت بلاد "البخاري" في أيدي الاتحاد السوفيتي، وحاول الروس مرة أخرى من عشر سنين أن يكرروا الدور نفسه في "أفغانستان" ولكن، والله الذي لا إله إلا هو، لقد تركت في "الجزائر" زوجين كلاهما جاء يطلب منى فتوى بأن يتركا الجزائر للجهاد في أفغانستان!.
إن الذي حدث أن الوحدة الإسلامية استيقظت، وأن الجماعة الإسلامية امتدت، وأن مشاعرها أحيت ما كان هامدا، ورأيت البطاطين والثياب والأموال والأسلحة تذهب إلى المجاهدين في أفغانستان فشدت أزرهم، وقوت جانبهم، واستطاعوا -وهم جند قليل من العمال والفلاحين- أن يهزموا جبابرة الأرض، وأن يرغموهم على الخروج من أفغانستان، وبقي بعض الخونة لا يزال يتعلق بهم ويتمسك بآثارهم.
أنا لا أستطيع أن أنكر أن صيحات رجال عظام مثل: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، مثل حسن البنا وحسن الهضيبي، صيحات كثيرة لناس من أهل الخير والتقوى والمجاهدة والمجالدة التفت حولها الشعوب التي استيقظت من نومها، ورددت الصدى المنبعث من قادتها الكبار؛ فالأمة الإسلامية الآن تواجه مستقبلا أنضر، ولكن العوائق أمامها أكبر؛ لأن أعداءها لا ينامون! ولذلك فأنا أوجِّه النظر إلى ما لنا وما علينا، أوجه النظر إلى أن الجبهة الإسلامية -وهى جبهة تضم جماعاتٍ لا حصر لها- يجب أن يسودها الفقه، يجب أن يسودها العقل، يجب أن يسودها الإدراك السديد، يجب أن يسودها الوعي الراشد.
إنه لَأَمْرٌ يُبكي أن تتحول معركة الإسلام التي يشتغل لها دهاقين الغرب والشرق في غرف خفية، ووراء أسوار من الدراسة الواعية، والصمت الماكر، يبذلون جهودهم كي يميتوا عقيدة التوحيد،كما قال الله تعإلى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة:32]. فإذا الجادون من أصحاب اليقظة الراشدة، والوعي السليم، يجدون من حولهم من يقاتل في معركة غناء، في معركة حانات. معارك "الحواري" لا يصلح بها دين.
ما كان هذا هو الفقه، إن صاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم- هاجم الأصنام يوم بدأ يدعو إلى الله، وسبها وذمها وأهانها وحقرها، لكنه اكتفى بهذا، ما فكر أن يكسر صنما، ما فكر أن يجعل جهاد الفم جهاد يد، حتى بعد عشرين سنة من بدء الدعوة الإسلامية، ففي "عمرة القضاء" بعد "غزوة الحديبية" بسنة، وقبل "فتح مكة" بسنة صلَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين، وطافوا حول الكعبة، وحول الكعبة أكثر من ثلاثمائة وستين صنما، ما فكروا في كسر صنم واحد!.
إن الذين يفهمون "الصبيانية" تقود أمة، وأن "قلة الفقه" تنصر رسالة هؤلاء بُلْهٌ! الإسلام يحتاج إلى الفقه، وإلى العقل، وإلى الإدراك السديد، أما أن يدخل مريض مصاب بـ "حمى شوكية" أو مصاب بـ "سرطان " فيكون كل ما يشد انتباه الطبيب أن المريض يلبس "جوربا" مثقوبا! قبحك الله من طبيب! أهذا كل ما يعنيك من معالجة المريض؟!.
الأمة الإسلامية يجب أن تعقل مالها وما عليها، هذه واحدة، وشيء آخر أوجه النظر إليه، ولكن في الخطبة الثانية إن شاء الله. إنني بفكر المذنب، وأمل التائب، أدعو الله لي ولكم بالمغفرة، وأن يجعلنا وإياكم جندا للإسلام.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام النبيين، وسيد المصلحين. للهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فأمتكم -معشر المسلمين- ليست متعصبة لجنس ولا لون، ليست متعصبة إلا للحق، والحقيقة الأولى في الوجود أن الله واحد، وأنه أكبر، ولذلك فإن صيحاتنا في جهادنا عندما كانت جيوشنا تقاتل حماة الضلال وأعداء الحق، كانت: الله أكبر.
أيها الإخوة: إن الانتماء إلى الإسلام هو ما نريده، والعمل للإسلام هو ما نبتغيه. ونحن لا ندَّعى العصمة، أنا أخطيء، وغيري يخطيء، ولكن عندما نصلح خطأ فيجب أن يكون لنا منهج، هو كما قال ربنا: (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل:125]، إنني أستبشر بالوضع الذي أدافع عن نفسي فيه، وأكره التحدي والهجوم، وإن ظنني بعض الناس كذلك، إنني أطلب من أمتنا أن تعرف النقد البنَّاء، ونترك النقد الهدام، تسألني: ما النقد البناء؟ وما النقد الهدام؟ النقد البناء شرحه واحد من شعراء "المهجر" فقال:
لا تَقُل عَنْ عَمَلٍ: ذا ناقِصٌ *** جىءْ بأوفَى، ثُمَّ قُلْ: ذا أكْمَلُ
إذا رأيت مخطئا فلا تضربه على يده وعلى فمه، بل صور له الحق تصويرا حسنا، وقُده إليه قيادة رفيقة. هذا هو النقد البناء، لا تقل للمبطل: دع باطلك، دون أن تكون قد صورت نموذجا حسنا للحق الذي تدعو إليه. لكنني رأيت من ينقد لقصد الهدم، رأيت ذلك -للأسف!- في أحوالنا وفي شؤوننا.
وأضرب مثلا قد يكون تافها: إنني فرحت جدا لما علمت أن هناك صناعات عسكرية بدأنا نزاولها، لأن وجهي أسودَّ من أن الفتية المؤمنين يقابلون الدبابات بالحجارة، لماذا؟ دبابة تقابلها دبابة، دبابة عليها التوراة تقابلها دبابة عليها المصحف، هذا هو الذي يجب، أما أن يكون سلاحنا نحن هو الحجارة في وجه الدبابات فلا يجوز.
فرحت عندما كنت أسمع أن هناك صناعات عسكرية تجعل لأمتنا وجودا عسكريا، وفرحت كذلك عندما بدأت أشعر بأن أمتنا فيها وجود اقتصادي، وأن لها شركات تعمل بالمباديء الإسلامية.
لكنني استغربت عندما رأيت حرب حزازات، وحرب أحقاد، اللحية الإسلامية ظهرت في ميدان المال، يجب حرقها! لماذا؟! دعوا هذه اللحى تشتغل للإسلام.
أنا لا أدافع عن أحد. لها أخطاء؟ قل: الصواب كذا فتمسَّكوا به؛ لكن ما وجدتُّ صوابا عُرض، ولا وجدتُّ عيبا أخذ، وإنما وجدت بلاء ينزل بهؤلاء الذين يخدمون الإسلام في الميدان الاقتصادي! وفكرت وأدركت من قراءات لبعض الصحف الإنكليزية، وبعض المراجع الأمريكية، أن اسم الإسلام يجب أن يختفي في عالم الاقتصاد!.
وطبعا: يجب أن يخفى في عالم الأدب، وفي عالم السياسة، وفي عالم الجهاد، وفي كل عالم! هنا نستميت للانتماء الإسلامي، ونبقى على الإسلام بجهدنا وقدراتنا. للحكومة أن تضع القوانين التي تضبط تداول المال، وحماية أصحاب الودائع ورؤوس المال، ولكن ليس لأحد في المشرق أو المغرب أن يمنع الإسلاميين أن يؤسسوا جماعات وبنوكا وشركات؛ فوجودنا في عالم الاقتصاد لابد منه، وما ينبغي أن يهاجم أصحاب اللحى بهذه الضراوة.
إنني أعلم علم اليقين أن كلمة قالها "محمد محمود باشا" وهو رجل صعيدي، وكان رئيس وزراء قال: هناك رجال "قباقيب" يلبسون عند الخوض في المعارك القذرة! رأيت بعض أصحاب الأقلام، وبعض أصحاب الألسنة " قباقيب" يخاض بهم معركة قذرة يراد بها الإجهاز على الاقتصاد الإسلامي.
أي شيء هذا الذي يُصنع بأمتنا؟! إننا نريد أن تعرف الأمم كلها أننا رجعنا للإسلام، وأننا نتعامل بالإسلام، ونعيش في حدود الإسلام، وبهذا المنطق نريد أن نبقى.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].