العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الأديان والفرق |
تصوروا رجلا يقاد للقضاء لأنه زرع دخانا أو حشيشا، فيقول القاضي له: لم زرعت الدخان أو الحشيش؟ فيقول: أنا زرعت؟ أبدا، إن الله هو الزارع. ألم يقل في سورة الواقعة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة:63-64]. هذا موقف الأمة الإسلامية من قضية القدر، تريد أن تصنع، وأن يتحمل الله عنها كل شيء!.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن جمهورا كبيرا من المسلمين تسيطر عليه عقيدة الجبر، وعقيدة الجبر هذه تعنى أن يتصور الإنسان نفسه لا قدرة له ولا إرادة، لا حرية له ولا اختيار، وأنه في هذا الكون أشبه بالريشة المعلقة في الريح، تهبط بها أو ترتفع، أو كما قال بعض الناس:
ألقَاهُ في اليَمِّ مَكْتُوفَاً وَقَالَ لَهُ | إيَّاكَ إياَّكَ أنْ تَبْتَلَّ بِالماءِ! |
وهؤلاء الذين تسيطر عليهم عقيدة الجبر، وهم للأسف جمهور كبير جدا من المسلمين، يرون أن قيمة العمل صفر، فربما اشتغل أحدهم بالعبادة، ثم كان من أهل النار، أو اشتغل بالفسق والفجور، ثم كان من أهل الجنة. لماذا؟ لأنهم تصوروا أن الأمر جبر، قدر، شيء مكتوب لا دخل للناس فيه!.
رمى الله بفريق من الناس في الجنة، ورمى بفريق من الناس في النار؛ ولعل بعضهم يتصور أن هذا باب من التقوى، أو لون من التسليم لله، فلو رأيت أحدا على معصية ثم حاولت أن تزجره لقال لك: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) [الأنعام:112]، لا يقع في ملكه إلا ما يريد، أقام العباد فيما أراد، لعل الله يهديه!.
هذا الكلام الذي انتشر في الأمة الإسلامية أوهن قواها، وأسقط مكانتها، وأذل جانبها، وجعلها في دنيا الناس أمة متبلدة متحجرة، ينطلق أهل الأرض في فجاج الأرض ليملؤوها نشاطا أو حركة، وأولئك الناس كسالى واهنون لأنهم يرون أنهم مسيرون، وأنهم لا عزم لهم ولا إرادة، وهم في دين الله كذلك ما ينشطون إلى طاعة، وما يجتهدون في خدمة الإسلام أو خدمة أنفسهم بشيء طائل؛ لأنهم تصوروا أنفسهم آلات في يد القدر الأعلى، وأنهم يخطون ما سبق أزلا أن كتب عليهم.
وعلى هذا النحو عاش المسلمون في نوع من الإحساس الغامض بأنهم أشياء مسخرة، وقد قلت: إن هذا الإحساس كان من أسباب ضياع المسلمين، وسقوط دولتهم، وانهيار حضارتهم.
هل هذا الكلام صحيح من الناحية الإسلامية؟ هذا الكلام باطل كُلا وجزءا، من الناحية الإسلامية ليس له سند من دين الله في قليل أو كثير، ولكن سبب شيوعه أن الأمة الإسلامية استولى على مقاليدها الثقافية نفر من أهل العلم لا يفقهون القرآن، ولا يعرفون السنة، ولا يدرسون التاريخ، ولا يدركون شيئا من سنن الله في كونه. القصور العلمي عند كثير من الناس الذين اشتغلوا بالتوجيه سبب هذا التخريب العقلي للأمة الإسلامية.
شيء آخر، رغبة كثير من الناس في أن يجد فتوى لسقوطه، أوعذرا لهبوطه، أو مسوغا لانحرافه، هذا جعله ينفض الأمور من بين يديه أو من على كتفيه ليقول: وأنا مالي؟! هذا شيء كُتب عليَّ وغُلبت على أمري!. رغبة الإنسان في الخلاص من المسئولية تجعله يكذب على الله وعلى الناس، هذا هو السبب في انتشار عقيدة الجبر، وهى عقيدة قال علماء المسلمين الأصلاء الفقهاء: إنها كفر بالله!.
هل هذه العقيدة نشأت بين المسلمين من فرط التدين؟ لا؛ لأن هذا الكلام في الحقيقة كلام المشركين قديما، فإن بعضهم جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يعلِّم الناس، أو ينصح للأمة، ويأخذ بيدها إلى الخير، جاء إليه بعض هؤلاء "الشطار" وقالوا له: لم تتعب نفسك؟ الله قادر على أن يهديهم، الله قادر على أن يصلح أحوالهم، الله لو شاء لجعلهم صالحين؛ يحرمون ما حرم، ويحلون ما أحل. ونزل قوله تعالى يحكي هذه الأكذوبة، فجاء في سورة الأنعام قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام:148].
وفى سورة أخرى، اعتذر المشركون عن شركهم: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) [الزخرف:20-21].
أين هذا الكلام؟ لا أصل له، وفى سورة النحل: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [النحل:35]..
إن هذا الاعتذار بالجبر، أو بإرادة الله، كلام في غاية السقوط والضلال، وربما ذهب البعض إلى دين الله ليأخذ منه كلاما لا يفهمه يريد أن يفسد به الدين، ربما يقرأ قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) [هود:118] أو يقرأ قوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا....) [السجدة:13]. يقرأ هذه الآيات، فكيف يفسر هذه الآيات؟
يجيء للآية: (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا....) فيفسرها بدماغه على هذا النحو، كنا قادرين أن نجعل الناس جميعا مهتدين ولكننا قسمنا بعضهم للجنة وبعضهم للنار، وسقنا هذا إلى مصيره، وسقنا هذا إلى مصيره، ونحن لا نسأل عما نفعل!. هذا هو التفسير السمج السخيف الذي يتطاول به على القرآن الكريم بعض من لا عقل له، ومن لا دين له، ليفسد به الإسلام، وليشغب به على آيات القرآن. وسنرى من عشرات الآيات أن هذا كذب؛ لأن معنى الآية: (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا....) أو (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً)، معناه -كما قال العلماء- أن الله عز وجل بيقين كان قادرا على أن يخلق البشر ملائكة، ومعنى أنه يخلقهم ملائكة أنهم لا يستطيعون معصية، (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
ولو شاء لجعلهم حيوانات جميعا فيسقط عنهم التكليف، ولا يختلفون في شيء، ولكن الله شاء غير هذا، فما خلق البشر ملائكة، ولا خلقهم حيوانات، ولكن خلقهم جنسا يستطيع أن يرقى وأن يهبط، يستطيع أن يستقيم وأن يعوج، يستطيع أن يذهب يمينا بحريته وإرادته، وأن يذهب يسارا بحريته وإرادته، هكذا شاء أن يخلق البشر صالحين للأمرين من رفعة وضعة، من طاعة ومعصية، هكذا شاء أن يخلقهم، وبين في كتابه أنه خلق البشر هكذا، إن الله خلق خلقا كثيرين، خلق الجماد لا يحس، خلق الحيوان يحس ويتحرك ولكن لا عقل له، خلق الإنسان يحس ويتحرك وله عقل وشهوة، خلق الملائكة تحس وتتحرك ولها عقل وليست لها شهوة، وهكذا.
والقول بأن جميع مخلوقات الله متحدة الخصائص والصفات غباوة وجهل، خالف الله بين صفات المخلوقين وكلف بقدْر ما خالف، ولهذا يقول موضحا الحقائق: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46]. ويقول مبينا الحرية الإنسانية: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:7-10]. ويؤكد حرية الإنسان وإرادته في آيات كثيرة فيقول: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف:29]، ويقول: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) [الأنعام:104]، ويقول: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء:15].
ربما خطر ببال بعض الناس أنني سقت بعض الآيات التي تقرر حرية الإرادة ومشيئة الإنسان واختياره، ولكنني تجاهلت الآيات التي تتحدث عن الإرادة العليا والمشيئة العليا، وهؤلاء يتصورون أن القرآن يضرب بعضه بعضا، أو يكذب بعضه بعضا، وهذا جهل فاضح، حقيقة هناك آيات كثيرة لعلي أقربها على الألسنة، قول الله في آيات كثيرة: (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ....) [النحل:93، فاطر:8]، (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ....) [الأعراف:186]... آيات كثيرة في القرآن الكريم من هذا النوع، تقول لى:كما ذكرت آيات حرية الإرادة لِم تنسى هذه الآيات التي تجعل الإرادة العليا هي التي تهدي وتضل؟ وهؤلاء لا يعرفون أولا معنى الإرادة العليا، ولا يعرفون ثانيا العلاقة بين الآيات بعضها والبعض الآخر، ولذلك نحن نشرح ذلك في أناة، وكل ما أرجوه أن يفتح المرء عقله دون تعصب لشيء سبق إلى ذهنه من الإشاعات التي تروج في المجتمع الإسلامي، أو من الخرافات التي تنطلق في الثقافة الإسلامية وليست لها بكتاب الله ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- صلة. الواقع أن مشيئة الله حتم، ولا يمكن أن يتم إيمان ولا كفر، ولا هدى ولا ضلال، ولا طاعة، ولا معصية، إلا بمشيئة الله.
هذا حق، لكن ما العلاقة بين مشيئة الله ومشيئتك التي قال الله فيها: (... فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)؟ ما العلاقة؟. العلاقة كشفتها آيات كثيرة، خذ مثلا قوله تعالى: (... فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ...) [الصف:5]، فأنت تتجه إلى حيث تريد، والقدر يكمل لك ما تريد، فإذا قال الله: (... يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ...) فليس معنى قوله: (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) أنه يجيء إلى طائع تائب، مُريدٍ وَجْهَ ربِّه، نشيط في طاعته؛ فيضله! لا. هذا جهل، لأنه يقول: (... وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ...) [البقرة:36-37] ويقول: (... وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:27] ويقول (...إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر:28]. فإذا قال: (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) فمن يضل؟ ومن يهدي؟ هذا هو الجواب، نفهم الجواب من القرآن، لا من أدمغة الجهَلة. إن القرآن يقول: (...إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ...) [الرعد:27].
هذا هو الذي يهدي، ويقول في آيات أخرى كثيرة، ما يقرر هذا المعنى: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) [مريم:75]، في الضلالة، ويقول: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) [مريم:76]، ويقول: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى...) [النساء:115]. فمن تصور أن: (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) أن الله يحدث في الكون فوضى تسوى بين الصالح والطالح، والفاسد والتقي، وأن الأمر لا ضابط له، فهو رجل كذوب على الإسلام؛ والله جل شأنه يقول: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ؟ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [ الجاثية:21].
ليس من الدين أن يجىء أحد إلى آية من الآيات ليلعب بها، ومن قديم حدث هذا، فإن بعض الناس لعب بالطلاق، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- غضبا شديدا، حتى قال بعض الناس له: نقتل من فعل هذا؟ وهو يقول: "أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!" إن ناسا كثيرين من المسلمين يريدون أن يلعبوا بدين الله، ومعنى اللعب بدين الله أن يجيء الواحد منهم إلى آية لا يفهمها، ويتصور أنها تخدم معصيته، أو تخدم كسله، ويريد أن يفسرها وفق هواه، وبذلك يجعل القرآن متناقضا يضرب بعضه بعضا، وهذا لا يجوز.
أريد أن أضرب لكم بعض الأمثلة التي تبين العلاقة بين إرادة الله وإرادتنا، أو بين مشيئة الله ومشيئتنا، فإنني أعجب كيف يتصور الناس أن الله يرمي بحفنة من الخلق في النار، وبحفنة من الخلق في الجنة! ثم يقول بعد ذلك لعباده: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ...) [النساء:40]،كيف تتصور هذا وذاك؟ هذا عجب من العجب!.
لكن، ما معنى إرادة الله حتى نفهمها جيدا؟ إن إرادة الله ترجمتها أو تفسيرها أو توضيح معناها أنها: ما يحكم هذا العالم من قوانين، وما يسرى في مادته من خصائص، بمعنى أن الله عز وجل خلق الهواء، وخلق في الهواء مادة الأكسوجين التي تعين على الاحتراق، فلولاها ما احترق شيء، هل لو جاء رجل مجرم وأوقد النار في بيت من البيوت، هل يقبل منه عذر أن يقول: أنا غير مذنب لأن الهواء هو الذي أعان على الحريق؟ أو هو الذي جعل الحريق يلتهم البيت أو "الغيط"؟ لا، بداهة.
الإنسان مكلف بشيء في يده، ومشيئة الله تتمم بيقين ما يبدأ هو به، لنضرب الأمثلة: هذا المسجد مُدت فيه سلوك الكهرباء، كان في الساعة السابعة مطفأ النور، ساكت الصوت، لا شيء فيه، الأسلاك ممدودة، والكهرباء واصلة، لكن كي ننتفع بالكهرباء و المكبرات أو في الإضاءة لا بد أن نحرك بأيدينا مفتاح النور، أو لابد أن نفتح أزرار المكبرات لكي تشتغل، لا يمكن أن يضاء المسجد إلا بأمرين معا، أن أحرك أنا المفتاح، وأن يكون في السلك تيار، فلو حركت المفتاح ألف مرة وليس في السلك تيار ما أضيء المسجد، ولا تحرك المكبر، وإذا كان التيار موجودا، وأنا لم أحرك مفتاحا، فلن يضاء المسجد، ولن يتحرك المكبر! كذلك ما تفعله أنت من خير أو شر.
إنك تنوى أن تصلي، هذه النية حريتك، إرادتك، لكن من الذي يستبقيك حيا حتى تذهب لكي تصلى؟ من الذي يجعل قلبك يدق فلا يتوقف، حتى تتم الصلاة؟ من الذي يستبقي الأرض تحت قدميك فلا تنخسف؟ إنه الله، فأنت تنوي، ولكن لكي يتم ما نويت، فلا بد وأن يتمم الله لك ما نويت وأن يقدرك، خذ مثلا من الحقول، إن الزارع يذهب إلى الغيط ويضع البذر، هل ينتظر أن ينضج القمح أو القطن دون أن يضع الفلاح بذرا للقمح أو القطن؟ لا، لابد أن يضع البذور وأن يتعهدها، لكن هل يتم الزرع بوضع البذر؟ لا، إن وضع البذر سبب، هذا مفتاح للقدرة العليا، ثم تبدأ القدرة العليا تتمم لك ما أنت بذرته.
أضرب لكم الأمثلة لموقف المسلمين من هذه القوانين، موقف المسلمين من هذه القوانين يشبه موقف موظف الكهرباء عندما يذهب بالإيصال ويقول للمشترك: أعط المقدار المطلوب منك، فيقول المشترك أنا لم أصنع شيئا، أنتم الذين أرسلتم التيار في الأسلاك. هذا موقف المسلم الذي يريد أن يعصى ثم يقول لله: أنا لم أعص، أنت السبب! هذا رجل لا يريد أن يدفع ثمن النور الذي استهلكه، بحجة أنه ما كان يمكن أن يستهلك النور لولا أن التيار في الأسلاك!.
أو تصوروا رجلا يقاد للقضاء لأنه زرع دخانا أو حشيشا، فيقول القاضي له: لم زرعت الدخان أو الحشيش؟ فيقول: أنا زرعت؟ أبدا، إن الله هو الزارع. ألم يقل في سورة الواقعة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة:63-64]. هذا موقف الأمة الإسلامية من قضية القدر، تريد أن تصنع، وأن يتحمل الله عنها كل شيء، فتنسب إليه ما هي مسؤولة عنه، وما هي مكلفة به، وما هي مؤاخذة عليه يقينا، وهذا شيء من الانتكاس في الفطرة، ومن العبث بالدين، والغريب أن هذا اللون من التصرفات لا يزال يملك عددا كبيرا من الناس، تقول للواحد منهم: أطع الله، ودع ما أنت فيه؛ فيقول لك ببلادة: الله يتوب علي!.
أين إرادتك؟ لا، لا إرادة، أين حركتك؟ لا، لا حركة، ولو قيل له إن بعض مواد التموين توزع بنصف سعرها في مكان كذا، نشط وسار إليها بسرعة البرق! وما ذكر قدرا ولا جبرا، ولا إرادة ولا مشيئة، ولا شيئا من هذا كله.
إن الأمة تريد أن تعبث بدينها، وأن تأخذ فتوى من الدين على أن عبثها قدر وجبر، وهذا كذب على الإسلام!.
لاحظت وأنا أقرأ القرآن الكريم في سور كثيرة، أن العصاة يوم القيامة يتمنون لو يعادون إلى الدنيا لتكون لهم حياة أرشد، ومنهج أسلم، وتقوى أظهر؛ ولكن ما يقبل منهم هذا، قلت: لو كان هؤلاء أحسوا أدنى إحساس بأنهم غلبوا على إرادتهم، ودفعوا إلى المعصية برغم أنوفهم؛ لقالوا لله: إنك أنت السبب!. ولكنهم ما يجرؤون على هذا مع جرأتهم على الكثير، تأملوا معي قول الله في سورة الأنعام: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام:27] يا ليتنا، تمنٍّ، هل التمني يجاب؟ لا.. (..وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام:28]، ويمكن أن يقول هؤلاء: إن الله هو الذي سبَّب لنا ما وقعنا فيه؟ لا. في سورة الحجر تقرأ قوله تعالى: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر:2]..
فى سورة إبراهيم قبلها: (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ...) [إبراهيم: 44]. والجواب: (..أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ) [إبراهيم:44]. في سورة المؤمنون: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100].
وفي سورة فاطر: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)؛ يكون الجواب: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر:37-38]. في سورة السجدة: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة:12]؛ الجواب: لا، (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة:13].
وكيف تملأ جهنم من الجنة والناس؟ تملأ هكذا ممن يفعل الخير، أو ممن يريد الهدى، أو ممن يرفض معصية ربه ويريد أن يرضيه ويبلغ مثوبته؟!!! لا، هذا الكلام من تخاريف الأمة عندما أرادت أن تعصى بفتوى، وأن تضل بمعذرة، وهيهات!.
ولذلك في سورة الزمر نقرأ قول الله تعالى وهو يلفت نظر الناس إلى أنه لا عذر، لا شبهة، يقول: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [الزمر:53-59].
لا عذر، إن الاحتجاج بالأقدار على ما منح الإنسان فيه حق التصرف والاختيار أكذوبة قديمة. إن الكلام في الأقدار يكون مقبولا ويكون حسنا وجيدا يوم يكون في أمر لا علاقة لنا به، ولا حركة لنا فيه، عندئذ يكون ما يصيب الإنسان مما يحزن أو يفرح، ما يصيب الإنسان من حياة أو موت، من شدة أو رخاء، يكون ذلك قدرا يساق فيه قوله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:51].
وبعض الناس يفسر الحسنات والسيئات تفسيرا بدماغه فيفكر أن الله عز وجل، عندما يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا..) [الأعراف:94-95]، المقصود بالحسنة والسيئة هنا الخير والشر، لكن بعض الناس يجيء للآية: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء:79]، فيتصور أن الحسنة والسيئة هنا هما العبادة والطاعة، هذا كلام ما قاله عالم، ولا عرفه مفسر؛ لأن الحسنات والسيئات هنا هي الأحوال التي تنتاب الأمم من شدة ورخاء، من خير وشر: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:42-43].
البأساء والضراء هي الحسنة والسيئة، كما ذكرت آيات كثيرة، لكن البعض -كما قلت- يريد أن يلعب بالنصوص، وأن يعبث بها، صحيح أن الله يعلم كل شيء ، ويعلم ما مضى بداهة، وما هو كائن بداهة، وما سيكون بداهة، لكن ما صلة علمه بعملك؟ أجمع العلماء على أن العلم كالمرآة تنكشف فيه الحقائق، ولكن لا سلطان له عليها، فلو وقفت أمام مرآة وابتسمت أو اكتأبت فليست المرآة مسئولة عن سرورك أو اكتئابك، لآن المرآة تسجل فقط، وليست لها القدرة على أن تصنع شيئا، والعلم الإلهي مرآة سجلت ما يكون، وليست للعمل خاصة التأثير بالسلب أو الإيجاب، بالإيجاد أو الإعدام في شيء من أحوال الناس.
الأمر يحتاج -كما قلت لكم- إلى أن ندرك كتاب ربنا وسنة نبينا إدراكا حقيقيا؛ حتى لا نعبث بديننا، وحتى لا نتأخر في دنيانا أكثر مما تأخرنا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن الأمة الإسلامية؛ لأنها عاشت في قوقعة من تفكير ضيق صنعه لها بعض القاصرين أو بعض الجُهال، أصبحت في دنيا الناس شيئا يستحق الرثاء حقيقة، لفت نظري البعض إلى أن فضائح في إنجلترا وقعت وجعلت وزيرين يستقيلان. قلت: ما فهمت من هذا؟ إن الصحافة في بلادنا تريد أن تجعل من هذه الأمور ذريعة إلى أن الدنيا مليئة بالفضائح، وأن الشرق والغرب والقارات كلها، وأن المسلمين وغير المسلمين، وأن الدنيا عموما، مليئة بالفضائح! هذا كلام سخيف، وتفكير مضلِّل.
إن المعصية تقع في كل مكان، ولكن المجتمع المحترم هو الذي ينظر إلى المعصية فيحتقرها، ويحتقر صاحبها، ويسقطه من مكانه مهما كان منصبه، ويحاسبه حساب الملكين مهما كانت وظيفته!.
والمجتمعات الغربية بلغت هذا المستوى الناضج، فهم يحاسبون رجالهم حسابا شديدا على ما يرتكبون من أخطاء، والحرية المكفولة هناك جعلت أي صحافي يحاكم أكبر رجل في المجتمع، وينزله على حكم الحق، هذه شعوب ارتقت كثيرا؛ أما الأمة الإسلامية التي تقوقعت داخل أفكار ضيقة، وعفن في مسالكها وتصرفاتها، فهي لا تدرى، وليت العرب والمسلمين، ليت الحكام المسلمين في أمة امتدادها بين المحيطين حوالي ثمانمائة مليون من البشر، ليت الحكام المسلمين كحكام إنجلترا وأمريكا! وليت الشعوب هنا، وفى العالم الإسلامي من الرجولة والقدرة و الهيمنة بحيث تقول لأي رجل في منصبه: اذهب إلى بيتك فقد توسخت!.
لكن نظرت إلى الذين يتحدثون في الموضوع، قلت سبحان الله! كأن جماعة من المرضى في مستعمرة الجذام يتناولون بالتنكيت بعض الذين سقطوا في مباريات كمال الأجسام! ما لكم وللتعليق على المباريات؟ التفتوا إلى تصحيح جذامكم، والنجاة من عللكم!.
إن أمتنا معتلة مختلة، وهى كأنما تمشى بلا وعي، بلا قيادة، وتلمح الواحد منهم -بشيء غير قليل من السخف- يسألك: أنا مسير أم مخير؟.
طبعا هذا الذي لا يعرف أن له عقلا، وأن له إرادة، وأن له قدرة، وأن له اختيارا، بديهي هذا الإنسان مسير! ولكن من سيَّره؟ الجنس الأبيض الحاكم في العالم، الجنس الذي اخترع واكتشف، هذا الجنس الذي شعر بأن له إرادة، طبعا هو الذي يحكم هذا الغبي البليد الذي يتساءل: أنا مسير أم مخير؟.
يجىء الإنجليزى من "لندن" كي يشق طريقا على ساحل البحر الأحمر، ويستخرج البترول من رأس غارب ومن الغردقة؛ لأنه مخير، لأنه عاقل متحرك. بينما يجلس المتسكعون من أهل مصر ليسأل الواحد منهم نفسه: أنا مسير أم مخير؟ طبعا مسير، وحاكمك هذا الذي جاء من بلده ليستخرج الخيرات من تحت قدمك وأنت بليد لا تتحرك، تسأل ألي عقل أم ليس لي عقل؟ ألي قدرة أم ليست لي قدرة؟ ابق على هذا السؤال حتى يجعلك العالم كله قطيعا من الدواب تمتطى وتركب لينتفع بها أهل القدرة والذكاء!.
لا أدرى ما الذي وقع للأمة الإسلامية؟ ما أسير في بلد حتى أفاجأ بهذا السؤال، نحن مسيرون أم مخيرون؟، وأنظر إلى هؤلاء الناس، وكأنما أنظر إلى بعض الحشاشين المخدرين! وأقول: لم أجيب هؤلاء؟ بم أجيبهم؟ أفسدوا دنياهم، وأفسدوا دينهم، ومكنوا العالم من أن يرتقي كثيرا جدا، ويبقوا هم متخلفين، لأن غبيا تطاول على القرآن ودخل في آياته، وأمسك بآية أراد أن يفسرها تفسيرا يريح معصيته، ويطمئنه على قصوره وتخلفه، ما هذا؟ لا ينبغي أن نظلم ديننا على هذا النحو.
الدنيا كلها تقدمت، تحركت، البلد الذي نعتبره ظالما لنا قتل فيه "كيندي" رئيسه، وقاتِله لا يزال حيا؛ لأن المحاكمات تمشى وفق قوانين سنها المجتمع، واحترمها، واحتكم إليها؛ أنا ساخط على الأمريكيين، غاضب عليهم؛ لأنهم ضدي، وضد ديني وبلدي! لكن يوم أرى المسلمين لا يحسنون الارتفاع إلى مستوى خصومهم يغلبني القهر، وأكاد أبكي!.
ما الذي يجعلنا على هذا النحو من فساد التصور للأمور؟ إنني أريد أن نفهم ديننا بوضوح، وأن نتصرف في دنيانا بوضوح، إن ديننا هذا دين سهل، إنه دين الفطرة: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) [الروم:30].
وبالله! ما معنى أن تسيء الظن بربك، وتتصور أن ما يحدث ما هو إلا رواية تمثيلية مكذوبة صنعها الله، وأرسل الأنبياء كذبا في كذب، وأرسل الناصحين والشهداء كذبا في كذب، وقال للناس افعلوا ولا تفعلوا، وهو يسيرهم على وجوههم بقهره وقدره؟ أي إهانة تلصقها بالله عند ما تتهمه بالظلم والكذب؟ وهو الذي أرسل الأنبياء وقال لنا: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ...) [النساء:165].
بالله! لو أنه أرغمني على معصيته؛ أما تكون لي الحجة عليه؟ أقول له لم تعذبني وأنت أرغمتني؟ وتسقط حجته، لكن المسلمين أفسدوا الفهم لكتابهم، لا أدرى عن عمد أو عن غباء! هذا ما حدث، ولا يزالون إلى الآن يترنحون في بلادهم، وسوف يبقون كذلك حتى تصح أفهامهم في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].