الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
إن فتح باب الفتنة يكون بالعين المحمْلِقة، والبصر الطامح، والإيمان أساس -هنا- في كبح الهوى؛ لأنه: مَن الذي يعلَم خائنة الأعين؟ مَن الذي يعرف كيف ترسل بصرك؟ وما النية الكامنة وراء هذه النظرة؟ إن الإيمان هو الأساس الذي لا بد أن يثبت في القلوب ..
سورة النور سورة تميزت بالحفاظ الشديد على كرامة الأسرة، وقيمة العرض، ودعمت جانب الشرف، وفصلت ما ينبغي أن يلزمه المجتمع كي يحافظ على حرمات الله، وحقوق الناس، ورسمت للتقاليد الجنسية والاجتماعية صورا دقيقة ألزمت المؤمنين بها.
ومع أن سور القرآن كلها منزلة من عند الله، إلا أن هذه السورة وحدها دون سور القرآن كلها تميزت بهذا البدء: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النور:1].
والسبب في ذلك أن السورة تدور حول مشكلات الغريزة الجنسية، وهي من أعتى الغرائز وأقواها. ولما كان ضبط هذه الغريزة في مسارها وانطلاقها لا بد منه لضمان نفس شريفة، وخُلق مستقيم، وعفة شاملة مستوعبة، ومجتمع نقي طهور؛ فإن السورة بدأت هكذا.
ولا بد أن نعلم ابتداء أن الإسلام دين الفطرة، أي: دين الطبيعة السوية المستقيمة؛ يرفض التكلف والافتعال، وما أنزل الله من تعاليمَ في هذا الدين القيم هو لضبط الفطرة، وضمان أن تسير سيرا حسنا؛ لهذا كان للغريزة الجنسية تعاليم واضحة في هذا الدين، وكان لانحرافاتها عقوبات محددة في هذا الدين.
وسورة النور تتحدث عن احترام الغريزة وضبطها حتى لا تنحرف يمنة أو يسرة، ثم التخويف لمن يدع حدود الله أو يترك العقوبات التي قُررت تقريرا حاسما في هذه السورة المباركة. القرآن الكريم لم يعتبر الغريزة الجنسية رجسا من عمل الشيطان، اعترف بها، وجعل المتنفس الوحيد لها الزواج: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون:29-31]، فاعتبر الزواجَ عبادة، بل جاء في السُّنة أنه نصف الدين: "إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف دينه، فليتق الله في النصف الباقي" رواه البيهقي في شعب الإيمان وصححه الألباني.
إذا، فالزواج فريضة اجتماعية لا بد أن تتواصى الأمة الإسلامية بتيسيرها، لكن ذلك متروك للوعي العام، وللضمير المؤمن؛ وقد جاءت آيات في هذه السورة تتحدث إلى أولياء الفتيات، وجاءت أيضا تتحدث إلى من يريد الزواج، أو من يقدر عليه ويطلبه، في الآيات الأولى نقرأ قوله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النور:32].
ويشرح النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا التوجيه فيقول: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم"، ووكل ذلك -بداهة- إلى تقدير ولي الفتاة، وإلى تصور الأسرة للنفقة وما يتصل بها؛ والواقع أن هذا التقدير لا يمكن أن يبت فيه قانون، إنما الذي يبت فيه مجتمع مؤمن، والذي يبت فيه رجال يتقون الله ويريدون أن يشيعوا العفة والقناعة في المجتمع.
وإلى أن يتزوج طالب الزواج، وإلى أن يستكمل دينه، يصنع بقول الله: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور:33]. فلا بد أن يستعفف، وعبارة الاستعفاف تعني أن المرء يتكلف أو يعاني أو يتعب نفسه، ولا بد من ذلك في كبح الهوى، وضبط الغريزة؛ فإن الغريزة العاتية تحتاج إلى إرادة حديدية، وهنا نجد أن الإسلام حارب الانحراف والجنس بمحاربة بوادره الأولى، أو المقدمات التي تغري به، وكان في هذا دينا عمليا.
في هذه السورة نقرأ قوله تعالى وهو يمنع الانحراف الجنسي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النور:27]، إذا سمعت الآية تقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) فأعرها سمعك؛ فإما خير تؤمر به، أو شر تُنهى عنه.
هذا النداء يستثير الإيمان؛ لماذا؟ لأن الإيمان هو الذي يخلق الضمير اليقظان الحي الذي يجعل الإنسان إذا قرع بيتا ولم يجد الرجل فيه يرجع من حيث جاء، لا يجوز بتة اقتحام بيت ليس فيه صاحبه، لا يجوز دينا ولا مروءة اقتحام البيت وفيه امرأة وحدها، فإن البيت حصنها، وينبغي أن تبقى في هذا الحصن مصونة، والإسلام يرفض كل تقليد اجتماعي يتواضع الناس عليه لجعل الخلوة بالمرأة ممكنة، يرفض الإسلام هذا لأنه بذلك -فعلا- يسد أبواب الفتنة.
ثم توجيه آخر لا بد منه وهو غض البصر، فإن الإنسان إذا أرسل عينه تتلصص على الأعراض من هنا أو من هنا فإنه يفتح أبواب الشر على نفسه، وقد قال شاعر قديما:
والمَرْءُ ما دامَ ذا عَيْنٍ يُقَلِّبُها | في أعْيُنِ الغِيدِ موْقوفٌ على الخَطَرِ |
يسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ | لا مَرْحَباً بسُرورٍ عادَ بالضَّرَرِ |
إن فتح باب الفتنة يكون بالعين المحَمْلِقة، والبصرِ الطامح، والإيمانُ أساس -هنا- في كبح الهوى؛ لأنه: مَن الذي يعلم خائنة الأعين؟ مَن الذي يعرف كيف ترسل بصرك؟ وما النية الكامنة وراء هذه النظرة؟ إن الإيمان هو الأساس الذي لا بد أن يثبت في القلوب: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [النور:30].
توجيه ثالث وهو منع المثيرات الحسية: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور:31]، ومعنى هذا أن جسد المرأة عورة ينبغي أن يُوارَى أو أن يُدارى، وما عدا الوجه والكفين ينبغي ستره، فلا يجوز أن تلبس ملابس تصف البدن، أو تشف عن مفاتنه، أو تغري العيون الجائعة باستدامة النظر إليه؛ فإن هذا كله فتح لباب الفتنة.
والإسلام عندما يأمر بالعفة، وعندما ينهى عن الفحش، فهو يسد الطريق ابتداء أمام المثيرات التي ينزلق بعدها القدم؛ لهذا كانت السورة -كما قلنا- سورة آداب جنسية؛ إلى جانب أنها ضمانات وحصانات للأعراض وللشرف وللقيم، من ذلك في أول السورة وآخرها أدب الاستئذان، ففي أول السورة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [النور:27-28].
وفي آخر السورة يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ. ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النور:58].
إن الأولاد في البيت ينبغي أن يعلموا آداب الدخول إلى الغرف، هذا المعنى، معنى أن الأسرة التي تسكن شقة وفيها غرف يُنبه على الأطفال في أوقات معينة ألا يدخلوا إلا بعد استئذانٍ واضح، أدب إسلامي ينبغي أن يعرفه المسلمون، وأن يلتزموه؛ هذا أدب إسلامي لا ينبغي أن نتجاهله أو نزدريه؛ لأنه من ضوابط العرض، وصيانات الشرف التي تُربى عليها الأسرة الإسلامية.
فإذا حدث بعد ذلك أن انحرف أحد فإن العقوبة الإسلامية هي الجلد، بإجماع المسلمين يُجلد الزاني الذي لم يُحصن، أي لم يتزوج، وجمهرة المسلمين على رجم المحصن، والآية في هذا واضحة: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور:2].
والجلد عقوبة للإنسان إذا هبط إلى درك الحيوان، وكما أن الحيوان يُضرب بالعصا حتى ينفذ الأمر الذي صدر إليه؛ لأنه لا عقل له، فكذلك إذا هبط إنسان عن منزلة العقل والضمير، وارتكس في حمأة الشهوة، وأصبح منقادا لغريزته الحيوانية، فإنه يتعرض للعقوبة التي يتعرض لها الحيوان، لأنه أصبح حيوانا، إذ يسطو على عرض كان ينبغي أن يصونه، إذ ينتهك حرمات لله كان ينبغي أن يحفظها وأن يرعاها.
فإذا هبط إلى مستوى الحيوان فهو مستحق لعقوبة الحيوان، على أن الرجم الذي جاءت به السنة إنما جاء إحياء لشريعة قديمة، فالإسلام لم يبتدع عقوبة الرجم للزاني أو الزانية إذا كانا محصنين، إنما هذه الشريعة شريعة التوراة ولا تزال برغم ما أصاب كتب اليهود من تحريف، لا تزال هذه الشريعة موجودة إلى الآن تنص على رجم الزاني والزانية ما داما محصنين.
يقول أحد الأدباء تعليلا طريفا لهذا الحكم: إن من هدم بيت الزوجية بزناه، أو من هدمت بيت الزوجية بزناها، ينبغي أن تنتقم أحجار البيوت كلها من جلده ومن بدنه، حتى يتعلم كيف يصون البيت! ولذلك قال القرآن: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) [النور:2].
وإلى جانب صيانة الأسر عن طريق منع العمل الرديء فإن الأسر يجب أن تصان عن طريق رفض أي اتهام لا يليق من هذا القبيل، والإسلام في هذا كان حاسما، فمن قذف إنسانا بالزنا أو قذف أصله أو قذف فرعه الذي يتصل به ويمت إليه بسبب وثيق ينبغي أن يُعاقب بالجلد ثمانين جلدة: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:4]
وهذا نوع من التأديب لا بد منه، وقد نُفذ هذا العقاب فيمن تطاول على مقام أم المؤمنين -رضي الله عنها-، فإن بعض الناس تسافه ووقع في شرَك أحد المنافقين الذين يكرهون النبي -صلى الله عليه وسلم- بدعوة الحق التي بُعث بها، وحاولوا في خبث وخسة أن ينالوا من مكانة البيت النبوي، فأشاعوا عن السيدة عائشة -رضوان الله عليها كلاما- هي منه بريئة، وهي فوقه بمراحل، وقد نزلت براءتها من عند ذي العرش -جل جلاله-, وبين أنها أعظم من أن تُلم بهذا، وأكبر من أن يُلاك عرضها على هذا النحو.
وقيل للمؤمنين في هذا كلام ينبغي أن يعرفوه ويحفظوه: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور:11]، ثم يؤدب الناس: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النور:12-13].
حتى لو رأيت بعينك وأنت واحد فلا يجوز أن تتكلم؛ لأن الله -جل شأنه- يريد أن يستر، يريد أن يعطي فرصة للتوبة، وفي الحديث: "من ستر على مؤمن عورة فكأنما أحيا موؤودة"، إن ناسا قد يخطؤون ولكن الله -جل شأنه- لا يعامل الناس بخطأ يرتكبونه، إنه يفتح لهم باب المتاب وفرصا لا حصر لها؛ حتى يثوبوا إلى رشدهم، ويستقيموا على الصراط المستقيم: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [فاطر:45]، تلك الأحكام التي تقررت فيما يتصل بالانحرافات الجنسية بالتهم التي لا ينبغي أن تجري على لسان مسلم يحافظ على الأعراض، هذه الأحكام ينبغي أن نرعاها وأن نحافظ عليها.
وسورة النور بينت أن رعاية هذه الأحكام تتطلب أمرين: الشعور بعظمة الله، والاحساس بوجوده؛ ولذلك بعد أحكام الانحرافات الجنسية وجدنا هذه الآية الجليلة: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [النور:35]، فإن الشعور بأن الوجود كله مشرق بنور الله، وأن أدلة الوجود الإلهي تزحم كل شبر في فضاء الكون، في فجاج الأرض، في آفاق السماء؛ وأن أدلة الوجود الإلهي تزدحم بها كل ذرة من تراب في أرضنا، وكل ما بين السماء والأرض من فضاء لا نعرف حقيقته ولا اتساعه، والسماوات وما عجت به من أملاك كل ذلك مملكة الله الواسعة؛ ولذلك بعد أن جاء بآية النور في سورة النور: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [النور:41-42].
هذا المعنى لابد أن يدرك، فإن الشعور بوجود الله ثم هذا الشعور ضرب له مثل : (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ) مثل نوره في قلب المؤمن؟ هذا رأي لبعض الناس، مثل نوره في آفاق الكون كله؟ هذا رأي لبعض المفسرين، على كل المثل خطير ويحتاج تفسيره إلى محاضرة مستقلة، لكن المهم أنه بعد ضرب هذا المثل، وبعد بيان أن الله في مملكته ينبغي أن يطاع، وأن كل شيء يسبح بحمده -جل شأنه- بعد هذا كله قيل للمؤمنين إنه لا يجوز أن تُهدروا أحكام الله، ولا أن تكابروا في جدواها، ولا أن تبتعدوا عن تطبيقها؛ لذلك قال جل شأنه: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النور:46].
ثم يقول في المنافقين: (وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ) [النور:47-50]، هذا التساؤل يعطي أن تنفيذ أحكام الله التي شرحت في السورة من آيات الإيمان، وأن ترك هذه الأحكام أو تعطيلها اتهام لله بالحيف، واتهام لدينه بالانحراف.
كذلك ربما كان في إقامة هذه الأحكام ما يتعب البعض، أو يضيق به البعض، أو يجزع منه البعض، لكن هذا لا يجول في خاطر مؤمن، قال جل شأنه: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [النور:53]، إن الذين لا يؤدون حق الله ليست لهم طاعة، بل ينبغي أن يكونوا منفذين لأحكام الله كلها، وهذا مالا بد منه؛ حتى نستقيم على أمر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين؛ وأشهد أن محمداً رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن هذه السورة بينت أن إقامة أحكام الله لابد منها، وأن الذين يدَّعون الطاعة لله، وفي الوقت نفسه لا يقيمون أحكامه، يكذبون على الله؛ ولكي يكونوا صادقين حقا يجب أن تكمل طاعتهم، وألا يكون هناك للانحراف والعصيان والجحود في تصرفهم وجود؛ ولذلك تقول السورة: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [النور:54].
هذا المعنى، معنى استكمال الدين، وجمع شعبه في سلوك واضح، ربما أتعب الناس في عصر من العصور، وقد أتعبهم أيام الدعوة الأولى، فقد كان المجتمع ضائق الصدر بدعوة التوحيد، وكان المجتمع ضائق الصدر بالصلوات والزكوات، والعفة، وقوانين الله في الأموال والدماء والأعراض، وما إلى ذلك مما قرره الإسلام، ولم يكتف أن يضيق صدره بل ضم إلى الصدر مناوأة الدعاة، وتعكير صفوهم، وبث العوائق في طريقهم، حتى كان أولئك الذين يعملون للإسلام لا يشعرون باستقرار ولا براحة ولا بطمأنينة، بل دائما يخالج قلبهم رهج، ويعمل في صدورهم قلق، ويخطون في الأرض وهم يخشون أن يتخطفهم الناس.
فبينت السورة هنا أن الذين يدعون إلى أحكام الله، ويستميتون في شرح دعوة الإسلام، وأن الذين يجتمعون حول الحقائق في يوم الناس هذا، فإن لله أياما تسوق الطمأنينة والنصر إلى من عملوا له، وسعوا في سبيله. في هذه السورة يقول الله جل شأنه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:55].
ولكن الله يطلب أموراً حتى يتحقق بدل الخوف الأمن، وبدل الاضطراب السكينة، وبدل الهزيمة النصر، يطلب شيئاً: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النور:56]؛ لكن، هل يمكن أن يجئ النصر بعد هذا؟ يقول -جل شأنه-: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [النور:57]، لا تهولنك قوتهم، لا يخلعن قلبك أو استقرارك أو صلتك بربك أنهم يملكون ما يزحم البر والبحر والجو.
إذاً فأحكام الإسلام كما شرحَتْها سور كثيرة، وانحرافات الغريزة الجنسية كما شرحتها سورة النور، يجب أن تقام، وإقامتها إسعاد للخلق، وإعلاء للحق، وسياج حول الشرف، وتقويم عظيم للمثل الفاضلة، وإذا كان الغرب –أقصد بالغرب ما عدا الشرق الإسلامي من أنظمة أخرى كافرة علناً، أو كافرة حقيقة، وإن ادعت الإيمان عنواناً- إذا كان هناك خلاف رئيسي فيما يتصل بالغريزة؛ فإن هذا الخلاف ينبغي أن يجعل كلا منا يعرف ما عنده وما عند غيره، الخلاف حقيقي بين مبادئ الإسلام ومبادئ الحضارة الغربية أو الشرقية.
فالإسلام يرى أن الغريزة الجنسية لا تحل لها حركة إلا في بيت الزوجية، أما أوربا –شرقيها وغربيها– فترى أن الغريزة الجنسية تتنزى وتتصرف كيف شاءت، لا يضير أن يكون هناك زواج، أو غير زواج، والقانون الوضعي يقوم على هذه النظرة، فهو يرى أن اتصال أي إنسان بأي إنسان آخر جنسيا ما دام على التراضي فإنه لا حرج ولا عقوبة! الخلاف بين الدين وقلة الدين أو عدم الدين واضح في هذا المعنى؛ ولذلك يجب أن نحذر على أسرنا وعلى مجتمعنا، وأن نطالب بإلحاح أن تسود تقاليد الإسلام، وأن تنفذ تعاليمه في أحكام الأسرة، وفي غير أحكام الأسرة.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].