الخالق
كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...
العربية
المؤلف | محمد راتب النابلسي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
من فضل الله علينا أن الله علمنا البيان، فلمّا خص -جل ثناؤه- اللسانَ العربي بالبيانِ عُلم أن سائر اللغات قاصِرَةٌ عنه. وقال الثعالبي: "من أحبّ الله أحبّ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومن أحبّ النبي العربي أحبّ العرب، ومن أحبّ العرب أحبّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب".
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وآل بيته الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
أيها الإخوة الكرام: القرآن الكريم في آيات عديدة نوّه بشأن اللغة العربية، فقال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2]، (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [طه: 113]، (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِين * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء: 193-195]، (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت: 3]، (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف: 3]. وآيات أخرى.
أيها الإخوة: من عناية أعلام الأمة باللغة العربية قول سيدنا عمر: "تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة. وتعلموا العربية فإنها من الدين"، هذا من الخلفاء الراشدين: "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ". أبو داود عن العرباض بن سارية.
يقول سيدنا عمر: "تعلموا العربية فإنها من الدين". شعبة يقول: "تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل"، عبد الملك بن مروان يقول: "أصلحوا ألسنتكم؛ فإن المرء تنوبه النائبة فيستعير الثوب والدابة ولا يمكنه أن يستعير اللسان، وجمال الرجل فصاحته".
وقال ابن فارس في قوله تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ): فقدم الله -عز وجل- ذكر البيان على جميع ما توحد بخلقه، وتفرد بإنشائه، من شمس، وقمر، ونجم، وشجر، وغير ذَلِكَ من الخلائق المحْكمة: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 1-3].
من فضل الله علينا أن الله علمنا البيان، فلمّا خص -جل ثناؤه- اللسانَ العربي بالبيانِ عُلم أن سائر اللغات قاصِرَةٌ عنه.
وقال الثعالبي: "من أحبّ الله أحبّ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومن أحبّ النبي العربي أحبّ العرب، ومن أحبّ العرب أحبّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب".
وقال أحد العلماء: "إن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغاً عنه الكتاب والحكمة بلسان عربي، ولم يكن من سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، فصارت معرفته من الدين"، كما قال عمر -عملاق الإسلام-: "تعلموا العربية فإنها من الدين".
أيها الإخوة: إن تعلم اللغة العربية من الدين، أقصد بهذا أن تنتبهوا لأولادكم، بعض أتباع الديانات أينما ذهبت في أنحاء العالم تجد أولادهم يتقنون لغتهم إلا المسلمين، حينما أسافر وأجتمع مع أبنائهم لا بدّ من ترجمة فورية؛ لأن أبناء المسلمين في معظم المهاجر لا يتكلمون العربية، وهذا يضيع هويتهم، ويضيع انتماءهم لدينهم ولأمتهم، أنا لا أتكلم من فراغ، وأنا لا أقصد باللغة العربية اللغة العامية التي يتداولها الناس؛ أقصد باللغة العربية اللغة الصحيحة التي نزل بها القرآن الكريم.
تعلم اللغة العربية فرض واجب، الدليل: لأن فهم الكتاب والسنة فرض واجب، وما لا يفهم إلا بفهم اللغة ففهم اللغة فرض واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أوضح مثل الوضوء، الوضوء فرض مع أن الوضوء ليس صلاة، لكن الصلاة التي هي فرض لا تتم إلا بالوضوء، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا تتم السنة إلا بها فهو سنة.
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: "أما بعد: فتفقهوا في السنَّة، وتفقهوا في اللغة العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي".
أي: ألا يكفي الإنسان إذا قرأ قوله تعالى على هذا الشكل: إنما يخشى اللهُ من عباده العلماء، الله هو الذي يخشى العلماء؟! بطلت صلاته بحركة واحدة: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]، فأحياناً حركة واحدة قد تفسد صلاتك: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) [التوبة: 40]، فلو قرأ الإنسان في الصلاة: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى) "وَكَلِمَةَ" معطوفة، إذا قرأ "وَكَلِمَةَ الله هي العليا"، أي جعلها عليا بعد أن كانت سفلى، وهذا خرق لعظمة القرآن الكريم: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى) وقف استئناف، (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) دائماً، لو عطفها على الاسم الذي قبلها لفسد المعنى، وإذا فسد المعنى فساداً فاحشاً بطلت الصلاة، إذاً تعلموا العربية فإنها من الدين.
والله الذي لا إله إلا هو سمعت قصة أن رجلاً بصعيد بمصر أرسل ابنه إلى الأزهر ليتعلم علوم الشريعة، عاد بعد خمس سنوات خطيب المسجد، خطب أول خطبة وكان الأب جالساً، فبكى الأب بكاءً شديداً، أنتم تظنون أنه بكى فرحاً بابنه، بكى ندماً على حاله، هذا الندم الشديد حمله أن يركب دابته ويتوجه من صعيد مصر إلى القاهرة، بقي شهراً، ثم قال: أين الأزعر؟! لا يعرف أن اسمه هو الأزهر، فقالوا له: لا يوجد عندنا أزعر، عندنا أزهر، تعلم القراءة والكتابة في الخامسة والخمسين، وما مات إلا شيخ الأزهر. يقول أحدكم: أنا متقدم بالسن، أنا لم أعد أستطع التعلم، هذا كلام مرفوض، "تعلموا العربية فإنها من الدين"، من أجل أن تقرأ القرآن، من أجل أن تفهم أحكام الدين.
أيها الإخوة الكرام: كتب سيدنا عمر إلى أبي موسى الأشعري: "أما بعد: تفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي".
لأن المنهج التفصيلي في الدين فيه أقواله -صلى الله عليه وسلم- وأعماله، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه أقواله هو الطريق إلى فقه أعماله، إذاً: "تعلموا العربية فإنها من الدين".
لكن التبحر في اللغة، والتعمق، والتفرغ، هذا فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الكل، نحن مأمورون أمر إيجاب، أو أمر استحباب، أن نحفظ قواعد اللغة العربية، وأن نصلح الألسنة المائلة، فيحفظ بهذه اللغة لنا فهم الكتاب، والسنة، والاقتداء بالعرب الفصحاء في خطابهم.
يقول الإمام الزمخشري في بيان فضل العربية وأنه لا غناء لعلم من علوم الشريعة عنها، ذلك أنهم لا يجدون علماً من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها، وعِلْمَي تفسيرها وأخبارها إلا وافتقاره إلى العربية بيّن لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع.
وعلماء المسلمين الكبار يروون كلاماً في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها، مبنياً على علم الإعراب، والتفاسير مشحونة بالروايات عن سيبويه، والأخفش، والكسائي، والفراء، وغيرهم من النحويين، والاستظهار في مآخذ النصوص بأقاويلهم، والتشبث بأهداب تفسيرهم وتأويلهم.
أيها الإخوة الكرام: أوردت لكم طائفة كبيرة من أقوال كبار العلماء في فضل تعلم العربية، تعلموا العربية فإنها من الدين.
أيها الإخوة: أما العرب في الجاهلية لم يؤثر عنهم قبل الإسلام إلا عنايتهم بالشعر والخطابة، وقد حفظوا لغتهم من التغيير، فعدوا الخطأ فيها عيباً يتعير به الإنسان، وشهَّرُوا بأصحاب الفهاهة واللثغة، أعلنوا بدائع شعرهم وخطبهم في أسواقهم المشهورة أيام مواسم الحج، فكان علمهم الحق هو أدب لغتهم، وهو علمهم العقلي الوحيد، فلم يُعنوا بجمع اللغة أو التأليف فيها.
وإنما بدأ اهتمام العرب باللغة وعلومها بعد ظهور الإسلام، وأقدم ما روي عنهم في ذلك محاولات تفسير غريب القرآن، كتلك المسائل التي دارت في فناء المسجد الحرام بين عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- ونافع بن الأزرق، كما ذكر السيوطي في كتابه: الإتقان في علوم القرآن.
وكذلك ما كان من أولى محاولاتهم وضع علم النحو الذي يُنسب لأبي الأسود الدؤلي كما ذكر ابن النديم.
يكاد يكون القرن الثاني الهجري بداية النشاط الفعلي لجمع اللغة والتأليف، ذلك أن دخول كثير من العرب في دين الإسلام أحدث ما سمي باللحن، صار هناك أخطاء حيث سرى ذلك على الألسن، فأصابها الخطأ والفساد، فهبّ اللغويون يجمعون اللغة، ويدونونها، فارتحلوا إلى البوادي التي لم يختلط أهلها بالأعاجم، وشافهوا الأعراب، ودونوا عنهم اللغة.
مرة جاء في أحد الأخبار -وواضع الخبر ضعيف باللغة العربية- جاء الخبر: يسمح باستيراد العلف للمواطنين، يجب أن يقول: يسمح للمواطنين باستيراد العلف، والفرق كبير بينهما، الخطأ في اللغة فاحش.
في ندوة سمعت عنها بفضائية قبل سنوات، وكانت تدير هذه الندوة مذيعة، الندوة حول غزوة الخندق، تنتهي من الندوة تقول: ميرسي لله الذي نصر محمداً، ومن معه في هذه الموقعة. هذا مصير اللغة، فإذا أهملنا لغتنا ففي هذا الطريق نحو سالكون.
أيها الإخوة الكرام: الشاعر حافظ إبراهيم، شاعر كبير له قصيدة في اللغة العربية قال:
رجعت لنفسي فاتهمت حصـاتي | وناديت قومي فاحتسبت حياتي |
رموني بعقـم في الشبـاب وليتني | عقمت فلم أجزع لقول عداتي |
وسعـت كتـاب الله لفظًا وغاية | وما ضقت عن آي به وعظات |
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة | وتنسيـق أسمـاء لمختـرعات |
أنا البحـر في أحشائه الدر كامن | فهل سألوا الغواص عن صدفاتي |
أيها الإخوة الكرام: والله لا أبالغ؛ تعلّمنا في الجامعة أن اللغة العربية من أوسع اللغات الإنسانية بشهادة أعداء الأمة، لكن المشكلة أن اللغة تقوى بقوة أهلها، وتضعف بضعفهم، هي تعد من أرقى اللغات الإنسانية، مثلاً لغتنا العربية اشتقاقية، فيها نظام الأُسَر؛ أي عندنا مادة عرف "ع ر ف"، عندنا فعل ماض "عرف"، وفعل مضارع "يعرف"، وفعل أمر "اعرف"، وعندنا اسم فاعل "عارف"، وعندنا "عرّاف"، وعندنا فعل ثلاثي مزيد بحرف "عرّف"، وفعل ثلاثي مزيد بحرفين "تعارف"، وفعل ثلاثي مزيد بثلاثة أحرف "استعرف".
ممكن أن تشتق من مادة عرف عشرات بل مئات الكلمات، عندنا فعل ماض، فعل مضارع، فعل أمر، اسم فاعل، اسم مفعول، اسم آلة، اسم زمان، اسم مكان، صفة مشبهة باسم الفاعل، اسم تفضيل، فعل ثلاثي، فعل رباعي، فعل خماسي، فعل سداسي، فعل مجرد، فعل مزيد، اللغة بحر، وهذه لغتنا، وهذه لغة القرآن الكريم، غلق الباب أي دفعه، أما غلّق الباب ارتجه، ماذا فعلت امرأة العزيز؟! (وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ)، أغلق شيء وغلّق شيء آخر، كَسَر شيء وكسّر شيء آخر، قَطَعَ شيء، قد تقطع قطعة اللحم قطعتين، تقول: قطع اللحم، أما قطَّعها إلى ذرات صغيرة، كل حركة، وكل شدة، وكل ضمة، وكل فتحة، تعني شيئاً.
إذاً: غلّق بمعنى أرتج، أما أغلق بمعنى رد الباب، كل وزن على وزن فاعل، فيها مشاركة، قاتل، القاتِل والذي يقاتَل يقاتِل أيضاً، هناك فعل مشاركة، ليس معقول أن تقول: قاتلت النملة، النملة لا تقاتل تُقتل فقط، وإن كان قتلها حراماً، تقول: قاتلت العدو، هناك قاتل، كاتب، راسل، قاوم، دافع، وزن فاعَلَ يفيد معنى المشاركة، أي الفاعل مفعول به والمفعول به فاعل.
الآن عندنا عرف، وعرّف، وتعرّف، وتعارف، وعُرف، والأعراف، والعراف، والتعريف، والعرفان، والمعرفة، والعارف، أي قريباً من خمسين كلمة من جذر واحد هو "ع ر ف"، فلغتنا لغة أُسَر.
في معجم لسان العرب -وهذا أوسع معجم في اللغة- ثمانون ألف مادة، وكل مادة خمسون أو ستون فعلاً واسماً، بينما بعض اللغات الأجنبية الرائجة الآن اللغة كلها عبارة عن خمسة وعشرين ألف كلمة.
حينما يختار خالق السماوات والأرض اللغة العربية لكلامه، والآيات كثيرة جداً، يجب أن نعلم قيمة هذه اللغة.
أيها الإخوة الكرام، مثل بسيط: باللغة الإنكليزية الطاولة "table"، والكتاب "book"، وكَتَبَ "write"، أما اللغة العربية، كتب، مكتب، كتابة. عندنا باللغة العربية الإعراب، الإعراب معانٍ دقيقة جداً يرمز لها بحرف صغير، مثلاً فتاة سألت أباها: يا أبت ما أجملُ السماء؟! فأجابها: نجومها، قالت: ليس هذا أريد، أريد أنها جميلة، فقال لها: قولي: ما أجملَ السماء!! فرق كبير بين ما أجملُ السماء؟! صارت ما استفهامية، أي يا والدي: أي شيء أجملُ في السماء؟! هكذا، لو أنها قالت: ما أجملُ السماء؟! فأجابها: نجومها، هي تقول: إنها جميلة، فقال لها: قولي: ما أجملَ السماء!!
أحياناً حركة واحدة تقلب المعنى رأساً على عقب، كلمة منصِب أي شيء كبير، ومنصَب، حركة واحدة، من منصِب إلى منصَب حركة واحدة.
أيها الإخوة: عين الكلمة البَر: اليابسة، البِر: الإحسان، البُر: القمح، الحروف نفسها "ا ل ب ر"، البَر: اليابسة، البِر: الإحسان، البُر: القمح، الآن قَدَم سبقه بقدمه، قَدِمَ حضر، قَدُمَ أصبح قديماً، حركة واحدة كل كلمة لها معنى.
خَلْق، خُلُق، خَلِق، ثوب خَلِق أي مهترئ، فلان قوي الخَلق؛ قوي البنية، فلان عظيم الخُلق؛ عظيم الأخلاق، ثلاثة حروف خَلق، خُلُق، خَلِق.
أيها الإخوة: كان النبي -عليه الصلاة والسلام- حسن الخَلق والخُلق، واضحة؟! حسن الخَلق ربعة، وسيماً، قسيماً، أزهر، والخُلق: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
يَثني شيء، ويُثني شيء آخر، الحروف نفسها ثَنى القضيب ضمّ طرفيه إلى الداخل، أما يَثني، ثنى يثني ضم، أما أثنى يُثني مدح، أي حرف المضارعة مضموم بالرباعي، مفتوح بالثلاثي، فثنى ثلاثي مضارعه يَثني، أما أثنى رباعي مضارعه يُثني.
أيها الإخوة الكرام: هناك ظاهرة في اللغة العربية تنفرد بها، هناك مناسبة بين الحرف ومعناه، حرف السين كل كلمة فيها سين، شيء داخلي، نفس، حس، أنس، لمس، همس، وسوسة، سر، كل كلمة فيها سين فيها الشعور الداخلي، وكل كلمة فيها غين؛ غائب، غيبوبة، غيبة، أي شيء بعيد عن النظر، وكل كلمة فيها راء فيها تتالي؛ جرّ، مرّ، كرّ، فرّ، تكرار الفعل يقتضي الراء، والغياب عن الأنظار يقتضي الغين، طرق، لصق، والقاف تقتضي الاصطدام، لمَ قيل لمن يغرق في الماء غريقاً؟! أول شيء غاب عن الأنظار فوضعت الغين، تتالى سقوطه فجاءت الراء، ارتطم بالقاع فجاءت القاف.
فمناسبة الحرف لمعناه شيء يندر في اللغات الأخرى.
أيها الإخوة: أحياناً زقزقة العصافير، لو لم تفهم معنى زقزقة، حروفها فيها زقزقة، مناسبة الكلمة لمعناها، عسعس: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) [التكوير: 17]. الفعل الثنائي المضعف يعطي معنى التكرار، الليل يعسعس، يأتي تدريجاً و ويذهب تدريجاً.
الآن عندنا مبالغات، عندنا اسم فاعل، وعندنا مبالغة اسم الفاعل، عندنا وزن فعّال، إنسان كذب بحياته مرة اسمه كاذب، أما كل كلمة فيها كذب، نقول له: كذّاب، وزن فعّال، وزن فعّال صيغة مبالغة، أو كذوب: فعول، رحيم يرحم دائماً، صيغة مبالغة رحيم، فاعول: فاروق، فعِل: حذِر، قلِق، مرِن، قذِر، هذه صيغ مبالغة اسم الفاعل.
(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) [الإسراء: 80]، المَدخل غير المُدخل، الإنسان إذا دَخَل بالثلاثي طواعية، نقول: هذا المكان مَدخل، أما إذا أدخل إلى السجن يقال: هذا المكان مُدخل، الرباعي يضم أوله، أما الثلاثي فيفتح: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) [الإسراء: 80].
هناك شيء آخر، عندنا اشتقاق غريب؛ الثلاثي فعل (علم)، تقاليبه ستة أفعال، علم، لَعَم، معل، لمع، ملع، عمل، غيّر ترتيب الحروف تجد ستة احتمالات، اكتشف علماء اللغة أن في كل فعل ثلاثي في تقاليب هذه الحروف معنى مشتركاً، العين واللام والميم، كيفما جاء ترتيبها في معنى الإشراق بعد الغياب، لمع، علم.
وعندنا اشتقاق آخر اسمه كُبّار، فلان قال: سبحان الله، نقول: سبحل، قال: أدام الله عزك، نقول: دمعز، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، نقول: حوقل، هذا اسمه اشتقاق كُبّار، حيعل أي قال: حيّ على الفلاح، حوقل، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، أي كلمة باللغة يمكن أن تجعلها مصدراً بإضافة ياء وتاء مربوطة، وطن: وطنيّة، قوم: قوميّة، اشتراك: اشتراكيّة، شعب: شعبيّة.
الآن اللغة العربية -أيها الإخوة- تنفرد بأنها تملك أوسع مدرج صوتي، يقول لك: لغة الضاد، تنفرد اللغة العربية بالضاد، وتنفرد في بعض الحروف بحرفين، السين صاد مرققة، والصاد سين مفخمة، والدال ضاد مرققة، والضاد دال مفخمة، وهكذا: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2].
الطاء والتاء، السين والصاد، الضاد والدال، أيها الإخوة الكرام: قد لا تصدقون، لا يستطيع شاب بريطاني على الإطلاق أن يقرأ شعر شكسبير باللغة التي كتبها شكسبير، وشكسبير جاء في القرن السادس عشر، أي قبل أربعمائة سنة، لا يمكن لشاب بريطاني أن يقرأ شعر شكسبير باللغة التي كتب بها؛ لأن اللغة تتبدل هناك، أما طالبنا في الصف العاشر يقرأ شعر امرئ القيس وقد عاش قبل ألف وخمسمائة عام:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل | بصبح وما الإصباح منك بأمثل |
أيها الإخوة الكرام: هناك شيء آخر؛ اتساع العربية في التعبير، عندنا نظر مألوفة، أي فعل نظر، رأى تفيد رؤية قلبية، رأيت العلم نافعاً، هل رأى العلم نافعاً بعينيه؟! لا، بقلبه، فالفرق بين نظر ورأى، رأى فيها رؤية قلبية، عندنا حدج، حدج: نظر مع المحبة، "حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم"، ابن مع أبيه، ابن مع والدته، ابن مع أستاذه الذي يحبه، رنا نظر مع المتعة، واقف بقمة عالية أمامك سهل جميل جداً في أيام الربيع تقول: رنوت إلى المنظر، رنا، وحدج، ونظر، ورأى، وإذا كان هناك مراقب طلاب بامتحان، وشعر أن طالباً يغش، فيتمطى المراقب، إذا رفع قدميه نقول: استشرف، وإذا أعطيته قماشاً فأمسكه وحرك يديه نقول: استشف، وإذا قلنا: لاح، لاحت طائرة بين الغيوم أي ظهرت واختفت، وإذا قلنا: لمح أي نظر وأعرض، ماشٍ في الطريق يوجد باب مفتوح، نظرت فإذا امرأة، أنت مؤمن غضضت عنها البصر، الطائرة لاحت أما أنت لمحت، نظرت شذراً أي احتقرت، إنسان حقير كلامه بذيء نظرت إليه باحتقار، أو شخص نظر مع الخوف، رأى حركة في السقف معنى هذا أن هناك زلزال: (فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء: 97].
شَخَص، حملق، بحلق، اتسعت حدقة العين، حملق ظهر حملاق العين الأحمر تحت الجفن، ونظر شذراً، وشخص، وحدق، واستشرف، واستشف، ولاح، ولمح، هذه اسمها اتساع العربية في التعبير، مثلاً أعطينا رساماً ألف لون فرسم منظراً بألوان رائعة، أما إذا كان معه خمسة ألوان فقط سيهبط مستوى المنظر، فلذلك هذا من فضل الله علينا.
أيها الإخوة الكرام: مرة ثانية وثالثة: "تعلموا العربية فإنها من الدين"، النبي -عليه الصلاة والسلام- سمع أعرابياً يلحن في كلامه فقال: أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل أي أخطأ: "أنا أفصح العرب بَيْد أني من قريش". أخرجه الطبراني عن أبي سعيد الخدري.
كلمة "بيد أني" تأكيد المدح بما يشبه الذم، أنا أفصح العرب إلا أنني من أفصح قبيلة من قريش، عندنا باللغة العربية اسم يعني شيئين، يشري: يبيع ويشتري، الذي يشري يبيع أو يشتري، والمولى السيد أو العبد.
شيء آخر: عندنا ألفاظ التضاد، نسمي الصحراء التي يظن أنها مهلكة نسميها مفازة، تفاؤلاً لمن فيها بالفوز، ونسمي الذي لدغته الحية أو الثعبان السليم أي الملدوغ بالثعبان، تفاؤلاً له بالسلامة.
عدوا لأسماء الجمل ستة آلاف اسم في اللغة العربية.
أيها الإخوة الكرام: أردت من هذه الخطبة أن تعرفوا قيمة لغتكم، وأن تعرفوا علاقتها بالدين، وأن تعرف كيف أنك إذا اعتنيت بأولادك وعلمتهم هذه اللغة كانت هذه اللغة عوناً لهم على فهم كتاب الله، وفهم سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أيها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
أيها الإخوة: هناك فنون كثيرة، الإنتاج العقلي والشعوري للبشر علم، وفن، وأدب، الفن ما هو ممتع، الأدب يعد من أرقى الفنون، هو التعبير المثير عن حقائق الحياة، مثلاً إنسان أصابته مصائب كثيرة يقول لك باللغة العلمية: كثرت عليّ المصائب، وهناك لغة عامية يقول: تضرب هذا العيشة، يقول الشاعر المتنبي:
رماني الدهر بالأرزاء حتـى | فؤادي فــي غشاء من نبال |
فصرت إذا أصابتني سهـام | تكسـرت النصال على النصالِ |
لم يعد هناك أي مكان، شاعر قال:
انظر لتـلك الشجـرة | ذات الغصـون النضرة |
كيف نمـت من حـبة | وكيف صارت شجرة |
فابحث وقل من ذا الذي | يخرج منهـا الثمـرة |
وانظر إلى الشمـس التي | جذوتهـا مستعـرة |
من ذا الـذي أوجـدها | في الجو مثل الشررة |
وانظر إلى اللـيل فمـن | أوجد فيـه قمـره |
وزانـه بـالنـجـم | كـالـدرر المنتشـرة |
وانظر إلى الغيـم فمن | أنـزل فيـه مـطـره |
فـصـير الأرض بـه | بعد اصفـرار خضـرة |
ذاك هـو الله الـذي | أنـعمـه منـهمـرة |
ذو حكمـة بالغـة | وقـدرة مـقـتـدرة |