الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن علي النهابي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحكمة وتعليل أفعال الله - الطهارة |
فدينكم -عباد الله- دين اليسر والسماحة، ودين العدل والصراحة، قد هداكم إليه، وأنعم به عليكم، ورضيه ديناً، فاحمدوا الله على تيسيره، واشكروا الله على توفيقه وتكريمه، وقولوا: (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ) ..
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، ورفع عنَّا به الحرج، وأتم به علينا النعم، وجعل مع العسر التيسير والفرج، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما عرج، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل المخلوقات، وأعظم مَن عليها درب ودرج، صلى الله عليه وآله وأصحابه الذين رفعوا راية التوحيد، وبذلوا النفوس والمنهج، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان واقتدى بهم ونهج، وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واشكروه على نعمته علينا بهذا الدين القويم، والشرع الحكيم، جعل الله فيه هذه الأمة من خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، هذا الدين الذي يتمشى مع المصالح في الدين والدنيا، المبنيٍّ على سهولة الشرائع والتيسير، رفع به الحرج والمشقة والتعسير، ورفع الله به الأغلال والآصار، وحذر فيه من الغلو والتنطُّع والابتداع والانحدار، دين جعله الله رحمة للعالمين، واختاره من بين الديان، وسطاً بعيداً عن جفا الغالين، وتفريط المفرطين، زكى به النفوس وهذبها، وربى به القلوب وهذبها.
هذا الدين -عباد الله- دين الحنيفية السمحة، فيه التيسير والتسامح من جميع الوجوه، وفيه الصفاء والنقاء: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ...) [الفتح:8-9]، لقد شرع الله فيه الشرائع والأحكام، وجعلها متمشية مع المصالح، متناسبة مع الزمان، وظروف البيئات، وتغير المكان، يقول -سبحانه-: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...) [المائدة:6]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "يسِّروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه".
فدينكم -عباد الله- دين اليسر والسماحة، ودين العدل والصراحة، قد هداكم إليه، وأنعم به عليكم، ورضيه ديناً، فاحمدوا الله على تيسيره، واشكروا الله على توفيقه وتكريمه، وقولوا: (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ) [الأعراف:43].
ألا وإن مما يسر الله لكم في هذا الدين، ورفع به عنكم الحرج: هذا الوضوء الذي جعله لكم طهارة ونظارة، ونظافة ونزاهة، فهو طهارة تعبدية، تعبدنا الله.
فهذه الأعضاء المفروض تطهيرها في الوضوء ما أيسر تطهيرها! وما أعظم فائدته! فإن هذه الأعضاء؛ أعني: أعضاء الوضوء المفروض تطهيرها؛ وهي: الوجه، واليدان إلى المرفقين، ومسح الرأس، والرجلين إلى الكعبين؛ هذه الأعضاء هي أعضاء العمل غالباً، ففي الوجه: النظر، والشم، والكلام، وفي الرأس: السمع، والتفكير، وفي اليدين: البطش، وفي الرجلين: المشي، فأكثر عمل الإنسان بهذه الأعضاء، فتطهيرها تكفير للأعمال التي عمِلها بها من سيئات وخطايا.
فكما جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب" رواه مسلم.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره"؛ يعني: مثل أيام البرد والشتاء، "وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط".
فما أعظم هذه العبادة! وما أعظم فائدتها! فيها العبودية لله، وفيها تكفير السيئات، ورفع الدرجات، فأنت -أيها المؤمن المبارك- في عبادة الله في وضوئك، فأخلص فيها ولا تقصر، ولا يحصل منك خلل أو تهاون، فقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً بعدما توضأ في رجلِه بقعة لم يمسها الماء، فأمر منادياً ينادي، محذراً من التهاون والتقصير: "ويل للأعقاب من النار!".
وقد يحصل في أيام الشتاء تكثير الثياب الداخلية، فيصعب فسر الأكمام عند الوضوء، فيترك جزءاً من العضو بلا غسل، فلا يتم وضوءه، وهذا خطأ يترتب عليه بطلان الوضوء، ومن ثم بطلان الصلاة، فلاحظوا وانتبهوا.
عباد الله: إلا وإن من فوائد الوضوء فوائد صحية، قد لا يدركها الإنسان، وفيه النشاط والحيوية، وإبعاد الكسل والخمول والملل والفتور، وفيه النظافة الكاملة لجميع أعضاء الجسم المتعرضة للميكروبات والغبار، والتلوثات البيئية، فانظر -رعاك الله- إلى هذا الاستنشاق والاستنثار في الأنف، وإخراج فضلاته وتلوثاته، وانظر إلى المضمضة وما فيها من تحريك لداخل الفم، وإخراج بقايا الطعام أو غيره، وانظر -رعاك الله- إلى غسل البراجم، وتخليل اللحية، وأصابع الرجلين، وتنظيفهما بهذا الماء من آثار الملامسة والمخالطة، فهذا الوضوء فيه الطهارة والنظافة والنزاهة، فاشكروا اله على هذه النعمة والتيسير، وقوموا بما أوجب الله عليكم فيها بدون غلو ولا تقصير.
ألا وإن من تيسير الله عليكم: أن يسَّر عليكم في الوضوء والطهارة إذا كنتم تحتاجون إلى لبس الخفين والجوارب؛ للوقاية من البرد، أو غير ذلك، فقد سهل الله لكم الأمر ويسره، فلم يوجب عليكم خلعها عند الوضوء، وإنما أجاز لكم تيسيراً وتسهيلاً المسح عليهما بدلاً من الغسل، فمن كان على رجليه شراب أو كنادر وقد لبسهما على طهارة فإنه يجوز أن يمسح عليهما يوماً وليلة إن كان مقيماً، وثلاثة أيام بلياليهن إن كان مسافراً.
ثم انتبهوا -يا رعاكم الله- إلى أحكام هذا المسح، فلا بد له من شروط تجيزُ هذا المسح: فأولها: أن يلبسهما على طهارة كاملة. فلا يمسح الخفين أو الجوربين إذا لبسهما على غير طهارة، أو طهارة غير كاملة؛ كأن يلبس أحد الخفين ورجله الأخرى لم تكمل طهارتها؛ وثانيها: أن يكونا مباحين، ساترين للعضو المفروض؛ وثالثها: ان يكونا سميكين، لا تبدو البشرة منهما.
عباد الله: إذا تمت هذه الشروط فالمسح جائز باتفاق الجمهور من المسلمين؛ بل إن أحاديث المسح على الخفين بلغت حد التواتر ولله الحمد.
وابتداء المدة من أول مرة يَمْسح، فإذا لبس الخفين لصلاة الفجر ولم يمسح عليهما إلا لصلاة الظهر فإن ابتداء المدة من الظهر، من الوقت الذي مسح فيه أول مرة، وإذا تمت المدة وهو على طهارة فإنه لا تنتقض طهارته بتمام المدة، فإذا انتقضت طهارته بحدث بعد فراغ المدة وجب عليه أن يخلع خفيه عند الوضوء، وإذا كان يمسح وعليه شرابٌ وكنادر، وكان يمسح على الكنادر ثم خلعها عند النوم أو دخول مجلس فإن مسحه يبطل.
ويجب عليه أن يخلع الشراب عند الوضوء، أما إذا كان يمسح على الشراب من أول مرة فلا بأس بخلع الكنادر عند النوم أو غير ذلك، ولا بأس بالصلاة بهما إذا كانتا نظيفتين، ومن مسح ثم خلع الممسوح وهو على طهارة فإن طهارته لا تنقض؛ لأن خلع الخف لا ينقض الطهارة؛ كما لو مسح على الخفين ثم خلعه وهو على طهارة فهذا مثله، وإذا فسخ الجوربين أو الخفين لإصلاحهما أو لحاجة فظهر العضو المفروض بطل المسح إن كان على غير طهارة.
ويجوز المسح على الخف أو الجورب المخرق ما دام المقصود من الخف باقياً، وهو التدفئة، وكذلك يجوز المسح على الشراب الخفيفة، وهو قول للعلماء، وبه قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-، وهو قول ابن تيمية -رحمه الله-، فإن الله أجاز المسح تسهيلاً ورفعاً للحرج والمشقة: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
وفقني الله وإياكم إلى هدي كتابه، وسلك بنا طريق أحبابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.