البحث

عبارات مقترحة:

الملك

كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...

الإله

(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...

العليم

كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...

التثبت في الأخبار

العربية

المؤلف محمد موسى العامري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. قصة نقل الوليد بن عقبة نبأً كاذباً عن الحارث بن ضرار وقومه .
  2. نزول آيات قرآنية داعية للتثبُّت والتبيُّن عند سماع الأنباء .
  3. كيفية التعامل مع الأنباء الواردة من وسائل الإعلام المختلفة المتكاثرة .
  4. أهمية التطبيق العملي لتثبُّتِ الجميع من الأنباء درءاً للمفاسد .
  5. تنظيم الإسلام الفائق للمجتمع .

اقتباس

إنَّ الإسلامَ وضع معالمَ كاملةً لِعالَمٍ ومجتمعٍ رفيعٍ كريمٍ نظيفٍ سليمٍ، متضمِّنَّةً للقواعد التي يقوم عليها هذا المجتمع المسلم، والتي -والله!- تكفل قيامه أولاً، وصيانته ثانياً، وأخيراً؛ عالم ومجتمع مسلم يصدر عن الله، ويتوجه إلى الله، ويليق أن ينتسب إلى الله؛ مجتمع مسلم تقي القلب، نقي الفؤاد، نظيف المشاعر، عَفّ اللسان، وقبل ذلك عفيف السريرة. مجتمع مسلم مؤدب مع الله ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ..

تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، أحمده -تعالى- وأستعينه وأستهديه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:102-103].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3].

اللهم إنا نسألك أن تؤلف على الخير قلوبنا، وأن تلم شعثنا، وأن ترفع رايتنا، وأن تنصرنا على عدوك وعدونا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد: عن الحارث بن ضرار الخزاعي، قال: قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه، وأقررت به، فدعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله، أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته فيرسل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رسولاً لأبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة.

فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأته، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله -عز وجل- ورسوله، فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان وقّت لي وقتاً يرسل إلى رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق(خاف) فرجع فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه إذ استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا والذي بعث محمدا بالحق! ما رأيته بتة ولا أتاني!.

فلما دخل الحارث على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، خشيت أن تكون كانت سخطة من الله -عز وجل- ورسوله قال: فنزلت الحجرات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6]، (فَضْلَاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحجرات:8].

أيها المسلمون: قدم إلى المدينة المنورة في عهد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- رجل اسمه الحارث بن ضرار، إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو من خزاعة، فلما دخل على النبي -عليه الصلاة والسلام- دعاه إلى الإسلام وأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وشرح له الإسلام، فما كان من الحارث إلا أن أنطقه الله بالشهادة فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

ثم رجع إلى قومه ووعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجمع الزكاة من قومه ويرسلها إلى المدينة، فآمن له من قومه أناس ودخلوا في دين الله، فلما جاء موعد جمع الزكاة جمع الحارث الزكاة وانتظر أن يأتي رسول رسول الله، فلم يأت، فخاف فقال: ما منع رسول رسول الله أن يأتي إلي إلا ربما أن رسول الله قد سخط علي، فظل في قلق، فانظروا إلى المؤمن إذا كان يعيش مع ربه؟ يخاف ألا تخرج الزكاة في وقتها، والصلاة ألا تكون في موعدها والصيام ألا يقوم على صفته، فيخاف؛ لأنه يتعبد لله -جل وعلا- على ما شرع الله ورسوله.

فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً اسمه الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فأمره أن يذهب إلى الحارث بن ضرار ليأتي بالزكاة، فخرج الوليد من المدينة المنورة باتجاه خزاعة ليأتي بالزكاة، فكان الحارث قد خرج هو وبعض قومه متجهين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بزكاتهم. قالوا: تأخر رسول رسول الله فلا بد أن نذهب بالزكاة.

فوصل الوليد بن عقبة إلى قِبَل قرية الحارث، فرأى الحارث قد خرج وبعض قومه معه فخاف، فعاد مهرولا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن الحارث وقومه قد ارتدوا عن دين الله، ومنعوا الزكاة، وأرادوا قتلي! الوليد لم يكذب وإنما ظن وحلل تحليلاً، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً!.

فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم-: كيف يأتي الحارث ويُظهر الإسلام ويأخذ مني موعدا فيخلف موعده؟! هذه ليست من صفات المسلمين. فسمع الصحابة الخبر فقالوا يا رسول الله، أما وقد فعلها الحارث لا بد من قتاله.

اسمعوا إلى هذه القصة، ليست من قصص ألف ليلة وليلة، وليست من الأخبار الخيالية، إنها قصة أستاذها محمد -عليه الصلاة والسلام-، وتكلم عنها القرآن حتى تربى النفوس وتتهذب الأخلاق وتحفظ الحقوق والأنفس والأموال والأعراض مِما قد يعطلها من أوهام أو ظنون أو أخبار وتحليلات ليس لها رصيد سوى سوء الأفهام.

فلما اقترح الصحابة على النبي -عليه الصلاة والسلام- قتال الحارث توقف، إنه قائد رحيم نبي مرسل، لم يكن طعاناً ولا متشوقا للدماء واللون الأحمر وجمع الأموال؛ إنما جاء رحمة للعالمين، فقال: يا خالد، انظر إلى الحارث، وانظر أمره وتثبَّت؛ فإن التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان! فلما خرج خالد بن الوليد سيف الله المسلول التقى خالد والحارث بن ضرار في منتصف الطريق، فمضى إليه الحارث قال: يا خالد ما الذي أخرجكم؟ قال: إنا قادمون إليك، قال: إلي؟ قال نعم، فإن الوليد بن عقبة جاءنا وقال إنك أردت قتله وأنك منعت الزكاة التي عندك، فلما سمع الحارث قال: لا والذي بعث محمدا بالحق! ما رأيته قط!.

فذهبوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما وصلوا المدينة ودخلوا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة والمربي -عليه الصلاة والسلام- لم يقل: زجوا بالحارث إلى السجن! أولاً يتأدب ثم بعد ذلك نسمع حديثه، ما قال: اقتلوه أو عذبوه، أو هاتوا المال أولا.

دخل عليه الحارث فقال: يا حارث، أمَنَعْتَ الزكاة وأردت أن تقتل رسولي؟ قال: والذي بعثك بالحق! يا رسول الله، إني استبطأت رسولك فخشيت أن الله ورسوله قد سخطا علي، فخرجت بالزكاة، ووالله! إني لم أر الوليد قط!.

فأنزل الله من فوق سماواته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا(فتثبتوا) أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].

ما الفائدة لو قتل الرجال، وسفكت الدماء وانتهكت الأعراض، وقطعت الأشلاء، وخربت المعمورة؟! ما الفائدة بعد ذلك لو علمنا أن الخبر كان خطأ! وما أكثر الأخطاء في بلادنا! يُسجن شخص أحيانا ثلاث سنوات في السجن فيقول له المسؤول: عفوا! كان خطأ! تُسلب الأموال أحيانا فيقال: لقد أخطأنا! تقتل الأنفس فيقال: كان عن طريق الخطأ برصاصة طائشة! سبحان الله! "لَنَقْضُ الكعبةِ حجراً حجراً أهون عند الله من إراقة دم امرئ مسلم".

ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دخلت امرأة النار في هرة، ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض"، فكيف بالذي يحبس العلماء؟! كيف بالذي يسجن المؤمنين، ويزج بهم في السجون سنينا إرضاء لأعداء الله؟! ثم بعد ذلك إن أخرجوه يقال: والله هذا خطأ! تسجن الأمم والشعوب في بلدانها، وتكبل بالفقر والديون والإعلام الماجن. وما كثير من المسلمين في سجون أمريكا في كوبا والعراق وفلسطين ببعيد! فك الله أسرهم، وعجل الله بخروجهم.

أيها المؤمنون: انظروا كيف أدّب الله الصحابة! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، خطاب للمؤمنين، (إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)، أي: تثبتوا،رسول الله ما استجاب للصحابة عندما قالوا القتال يا رسول الله، أيقتلون رسولك ويمنعون الزكاة؟ ما لهم إلا الذبح يا رسول الله؛ لذلك، ماذا قال الله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) [الحجرات:7]، يا أصحاب محمد! اعلموا أن فيكم رسول الله الذي أرسله الله حكيماً رحيماً، (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ)، أي: في كثير من مقترحاتكم، (لَعَنِتُّمْ)، والعنت: المشقة والتعب والهلاك والإثم وقطع الأرحام وسفك الدماء؛ لذلك يقول الله موجها لنا معشر المسلمين: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ)، وضع في قلوبكم الإيمان، فالإيمان لا يتفق مع سفك الدماء بالباطل ولا مع الكذب ولا مع العصيان، ولا يجتمع مع الزور ولا قطع الطاعة وهتك الأعراض وسلب الأموال، الإيمان الذي وضعه الله في قلوبنا منارة ومصباحا يوجهنا ويرشدنا.

وانظر كيف ذكر الله هذا الوصف، (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) حبب إليكم الإيمان وجعله زينة في القلوب والألسن والأيدي والآذان والمعاصم، فتمتنع العين عن النظر إلى الحرام بسبب الإيمان، مَن صح إيمانه ورأى امرأة أمام عينيه في الشارع أو في السوق أو في التلفاز أو في قنوات منحلة أو مجلات ساقطة أو مسلسلات وأغان هابطة فإن الإيمان يقول له: قف هذا حرام ولا يجوز، لا يضحك علينا إبليس يقول: والله نحن مؤمنون، الإيمان يعني الصلاة أو الزكاة أو الصوم! هذا مثل مبدأ: ما لله لله وما لقيصر لقيصر، لا، الإيمان عندنا ألا ننظر إلى المرأة المتبرجة ولا نسمع إلى الفاسقات العاهرات.

الإيمان عندنا ألا نأكل الربا، ويمنعنا عن قول الكذب والوقوع في الحرام وقطع الأرحام وعقوق الوالدين وأذية الجيران، (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ)، اسمع يا مؤمن، يا من تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، الله يقول لك: إن كنت مؤمنا فأحب الإيمان والمؤمنين واكره الكفر والعصيان والفسوق، (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات:7].

عباد الله: الناس في نقل الأخبار عبر التلفاز والصحف والمجلات واللقاءات والجلسات والباصات وكل المجالس والأماكن ثلاثة: صادق وكاذب وفاسق، فالصادق صدِّقوه، والكاذب كذبوه، لأنه يعيش في الكذب، يقول: فلان باع وفلان اشترى وفعل وفعل ما يستطيع أن يعيش بلا كذب، حتى وهو نائم يحلم بأحلام كاذبة فيخبر بأخبار كاذبة ويعيش في جو من الكذب حتى يصدق نفسه في كذبه. والمصيبة هو الثالث وهو الفاسق، المشكوك في أمره، أحيانا يأتي بكلمة كذب وأحيانا بكلمة صدق، فهذا تثبتوا منه، إذا نقل إليكم الخبر فلا تصدقوه ولا تكذبوه، تثبتوا منه.

فلذلك كان أشد وسائل نقل الأخبار: القنوات الفضائية والمجلات والإذاعات، كم فيها من الصادقين؟ وكم فيها من الكاذبين؟ وكم فيها من الفاسقين؟ أولاً: المسلسلات والأغاني هذه كلها كذب وفسق فهذه اتركها جانبا.

ثم نأتي إلى نشرات الأخبار إن كانت عن أوضاع اقتصادية منتعشة ومزدهرة ومتقدمة فهذا كذب، وإن كانت عن خدمات تُفعل وشوارع تمهد فإن هذا من الكذب، واقتصاد سيقوى وأمة ستتحضر وعزة ستقوم فهذا كذب، لا تصدقه إلا ما رحم الله، عشنا في هذا سنين، ونحن في نكال ومذلة وفي اقتصاد فاشل وفقر مدقع، كثر فينا الذين يسألون الناس، وكثر المتسولون، ولم نسمع من أخبارنا إلا اقتصاداً مزدهراً وإصلاحات اقتصادية وإدارية وفنية، ونحن نعيش في ظلم وفساد، لم يبقَ أحد منا يصدق ما ينقل إلينا عن مشاريع ستفتح، وعن مستشفيات ستقام، وعن أعمال ستزدهر!.

أما إذا أخبرونا عن مسلسلات ينتجونها ومسارح سيقيمونها ومباريات رياضية ينظمونها ومغنيات سيجلبونها فصدقوهم، أما هذا فهم صادقون فيه، لا نكذبهم فيه أبداً، ولا نعلم أنهم كذبوا في هذا أبدا، ما وعدونا مرة من المرات أنهم سيأتوننا براقصة أو فنانة ماجنة وكذبوا في ذلك علينا، عيب! فلا يكذبون في هذه الأمور أبداً، فقد تربوا في ذلك تربية عميقة وقوية! لا يعدوننا بذلة ومهانة وكذبوا في ذلك؛ لأنهم لا يكذبون في هذه الأمور، لأن الذي يقودهم إبليس وهو لا يكذب في هذه الأشياء، لأنه أقسم لله: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص:82]، حلف يميناً أمام الله -عز وجل-.

عباد الله: كم وكم استفدنا من الأخبار؟ (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ) يعني واحد، فكيف الذي عنده في بيته ثلاثة مليون فاسق! عنده مائتا قناة فضائية في كل واحدة منها كذا وكذا من الآلاف من الأخبار ومن المخبرين، ومن المذيعين والمذيعات، كم سيكذب ويصدق!.

عباد الله: لقد تعودنا في إعلامنا وإعلام الآخرين أن نشك في كل شيء! عندما قلت لكم إن وعدونا بالإصلاح الاقتصادي فهو كذب، لأنهم لا يفون بالوعود أصلا، عودونا على ألا نصدقهم ولا نقبل خبرهم.

أيها المؤمنون: إن بعض الأخبار التي تنقل إلينا أحيانا تكون تحليلات وليست وقائع وحقائق، فالوليد بن عقبة عندما عاد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، إنهم قد عادوا عن الإسلام، وإنهم أرادوا قتلي، ما قال ذلك كذبا، لكن هذا توقع وتحليل وظن، قال: ما خرج الحارث من بيته ومعه سيفه وجنوده إلا وقد عادوا عن دين الله، وإن قاتلتهم سيقتلونني؛ لذلك أخبر رسول الله. فكم من الأخبار التي ينقلها الناس بلفظ: أظن أتوقع وأرى ولعل وربما وقد يحصل! فهذه كلها ليست أخبار وإنما هي تحليلات، فينبغي أن نتيقظ.

أسأل الله أن يصلح أحوالنا، وأن يصلح بيوتنا وأقوالنا وأفعالنا، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على عباده الذين اصطفى.

أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات:6-7].

أيها المؤمنون: حتى لا يقع المجتمع في العنت والمشقة والهلاك، يقول الله للزوج: يا أيها الزوج تثبَّتْ فليس كل ما ينقل إليك عن زوجتك وأنت في الغربة أو في مكانٍ بعيدٍ هو حَقٌّ، فكم من زوج قد طلق زوجته بسبب الذين ينقلون الأخبار اليه بالخطأ، فَتَبَيَّنُوا أن تفرقوا الأسر وتشتتوا الأطفال وتضيعوا الجيل.

يا صاحب العمل: ليس كل ما ينقل إليك من بعض العمال صحيحاً، فلا تقبل الخبر مباشرة، (فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، تقطع رزق عامل من العمال فتشتت به الأسرة وتحرم الأطفال والزوجة مما جعل الله لهم من العمل والرزق!.

يا أيها الجار: انتبه فليس كل ما ينقله إليك عن جارك الآخر حقاً فتثبت وتبين أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ.

لذلك؛ كم من امرأة طلقت! وكم من عامل طرد من عمله! وكم من شابة لم تتزوج! وكم من أم سقط قلبها بين يديها وأصيبت بفاجعة بسبب شخص أو امرأة اتصلت بها وقالت لها: إن ابنك وهو مسافر حصل له حادث وانقلبت السيارة ومات ابنك، فماتت الأم!.

بل كم من دماء قد سفكت بسبب نقل الكلام الخطأ! وكم من أعراض قد انتهكت! وكم من أموال قد سلبت! بل وكم من تاجر أحيانا قد مات، جاءته سكتة قلبية بسبب نقل الأخبار، طلعت الأسهم أو نزلت، ضاعت بضاعته وغرقت سفينته.

إنَّ الإسلامَ وضع معالمَ كاملةً لِعالَمٍ ومجتمعٍ رفيعٍ كريمٍ نظيفٍ سليمٍ، متضمِّنَّةً للقواعد التي يقوم عليها هذا المجتمع المسلم، والتي -والله!- تكفل قيامه أولاً، وصيانته ثانياً، وأخيراً؛ عالم ومجتمع مسلم يصدر عن الله، ويتوجه إلى الله، ويليق أن ينتسب إلى الله؛ مجتمع مسلم تقي القلب، نقي الفؤاد، نظيف المشاعر، عَفّ اللسان، وقبل ذلك عفيف السريرة.

مجتمع مسلم مؤدب مع الله ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات:1]، (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات:4-5]، (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [الحجرات:3]، يحترمون ويقدرون رسول الله، فهو مجتمع مسلم مؤدب مع الله ورسوله، ومؤدب مع نفسه ومع غيره، (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)، ومؤدب في البواطن والظنون والتوقعات، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات:12].

إن الإسلام له شرائعه المنظمة لأوضاعه، وله أنظمته التي تكفل صيانته، وهي شرائع وأنظمة تقوم على ذلك الأدب، وتنبثق منه، وتتسق معه، فتوافق باطنه مع ظاهره، سلامة السرائر، مع سلامة الألسن والجوارح.

وتتلاقى شرائع الإسلام مع مشاعره، وتتوازن دوافعه وزواجره وهو يتجه إلى الله، ومن ثم لا يوكل قيام هذا المجتمع السليم لمجرد أدب وضمير؛ بل يتجه هذا إلى نظافة الشعور، وإلى سلامة التشريع والتنظيم، في انسجام بينهما.

أسأل الله العلي العظيم أن يصلح ألسنتنا وبيوتنا، وأن يحفظ علينا أعراضنا وبناتنا ونساءنا وأولادنا،
اللهم احفظ مجتمعنا من كُلِّ شر، اللهم مَن أراد بمجتمعنا سوءاً فأشغِلْهُ بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره.

عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.