الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فلنعلم أنفسنا الصمت ولنجربه، ولنعاهد أنفسنا على أن نربيها عليه، فإن الدين قد رغَّبَ فيه وحث عليه، وقام بمدحه العقلاء والحكماء، ومن استمرأ الصمت ارتاح من الضجيج والإزعاج، وأدرك أنه كان مدمناً للكلام والقيل والقال ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد، (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:17-18]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أشرف العبيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المزيد، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: عبادة عظيمة وهي من العبادات الجليلة التي قلّ اليوم من يتكلم فيها، وقل من يطبقها، وربما يسمع بعضنا لأول مرة أن هذه عبادة من العبادات. إنها عبادة الصمت، والصمت: هو إمساك اللسان عن قول الباطل، وعدم الكلام فيما لا يجوز فيه الكلام.
اعلموا أن اللسان خطره كبير على الإنسان، والسعيد من الناس من صان لسانه عن الوقوع في الكلام الباطل، وحفظه من الولوغ فيما حرم الله؛ كالغيبة والنميمة والكذب وشهادة الزور وغيرها.
ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، ويكفه عن كل ما يخشى غوائله في دينه ودنياه.
عباد الله: إن العلاج الرئيس لعدم الوقوع في مزالق اللسان ومهالكها هو الصمت، ولا نجاة من أخطار اللسان إلا بالصمت، فلذلك مدح الشرع الصمت وحث عليه وأمر به. يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء:36]، ويقول -جل وعلا-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتيدٌ) [ق:18].
ففي هاتين الآيتين دعوة صريحة إلى حفظ اللسان وصونها والانتباه لها، ولا يكون ذلك إلا بالصمت وعدم الانجرار وراء مخازيها، يقول النووي -رحمه الله- في كتابه العظيم رياض الصالحين: "اعْلَمْ أنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَميعِ الكَلامِ إِلاَّ كَلاَمًا ظَهَرَتْ فِيهِ المَصْلَحَةُ، ومَتَى اسْتَوَى الكَلاَمُ وَتَرْكُهُ فِي المَصْلَحَةِ، فالسُّنَّةُ الإمْسَاكُ عَنْهُ، لأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الكَلاَمُ المُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، وذَلِكَ كَثِيرٌ في العَادَةِ، والسَّلاَمَةُ لا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ" [رياض الصالحين (421)].
عباد الله: إن للصمت مواضع متعددة، ومواطن متنوعة، ومن أعظم مواضعه؛ الصمت عن الكلام الذي فيه خدش في التوحيد، ووقوع في مهاوي الشرك والتنديد، كسبِّ الله أو الدين -والعياذ بالله- أو الإشراك بالله العظيم -سبحانه وتعالى-. روى البخاري ومسلم في صحيحهما عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ، وَعُمَرُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ" [البخاري:2679، مسلم:1646]. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- نهاهم عن الحلف بغير الله لأن ذلك من الشرك الأصغر الذي لا يرضاه الله، فالله -جل جلاله- لا يرضى من عباده أن يشركوا به، أو يحلفوا بأحد غيره، أو يعظّموا أحداً سواه.
فلنصمت صمتاً مطبقاً عن التكلم بالكلمات الشركية، أو التلفظ بالألفاظ المناقضة للتوحيد المصادمة له، فإن هذا مما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أمراً صريحاً في هذا الحديث العظيم فقال: "فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ".
ومن أجل المواطن التي ينبغي على العاقل الفطن اللبيب أن يصمت فيها الصمت عن قول الكلام الفاحش والتقول الباطل، وغيره من الكلام الذي لا خير فيه ولا مصلحة منه، لأن هذا يؤدي بالإنسان إلى المهالك، ويوقعه في المزالق. يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيصْمُتْ .. " [البخاري:6018، مسلم:47].
عباد الله: كم تجدنا في مجالسنا قد أكثرنا الكلام الباطل فيها الذي لا خير فيه، أو يكون كلاماً لا فائدة منه وإن كان مباحاً، ولو أننا صمتنا لكان الصمت خيراً لنا، ولكن الصمت عبادة لا يُلقاها إلا القليل من عباد الله الصالحين، ولهذا ربطه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمر عظيم ألا وهو الإيمان بالله واليوم الآخر فقال: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيصْمُتْ .. ".
ومن الصمت أن يصمت المرء عن قول الكلام البذيء، والتلفظ بالألفاظ الدونية، والكلمات الدارجة التي يتم التعبير بها عن قضايا الجماع وما يتبعه ويلحق به من كلمات وألفاظ. اسمعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يرشدنا إلى قمة الحياء في التنزه عن التصريح بمثل هذا الكلام الذي يستحي من ذكره الناس العقلاء، ويترفعون عن التصريح به، فيخبر -عليه الصلاة والسلام- أن المرأة البكر إذا جاءها من يخطبها فأخُبرت بذلك فإنه يكفي في موافقتها عليه الصمت والسكوت.
روى مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا" [مسلم (1421)]. وعَنْ عَائِشَةَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: " الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ. قُلْتُ: إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحْيِي! قَالَ: إِذْنُهَا صُمَاتُهَا" [البخاري:6971].
فعلينا أن نربي أنفسنا وندربها على هذه العبادة الجليلة عبادة الصمت، ونعلمها السكوت وعدم النطق عن كل كلام لا خير فيه ولا فائدة منه، فضلاً عن الكلام المحرم والقول الباطل.
قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علمًا وهو على كل شيء شهيد، أحاط علمه بالظاهر والخفي والقريب والبعيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد فهو الولي الحميد، وأشهد أن محمدًا رسول الله وعبده أفضل العبيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم الرشيد.
أما بعد: ومن المواطن التي ينبغي الصمت فيها أن يصمت الإنسان عن الخوض في الجدالات، والدخول في المتاهات، والتعمق في الجدل والمناظرات، خاصة المناظرات التي لا فائدة منها ولا حاجة لها، وإنما هي نوع من التفلسف الكلامي والترف الجدلي. يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَا زَعِيمُ بَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ، وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبَيْتٍ فِي أَعَلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ" [المعجم الأوسط:4693].
عباد الله: لو نظر في سير الصالحين وتأملنا في أحوال المتقين لرأينا أنهم من الصامتين، نعم من الصامتين عن اللغو والباطل، المكثرين من ذكر الله وقول الحق. فهاهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصفونه -بأبي هو وأمي- بقوله: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ الذِّكْرَ، وَيُقِلُّ اللَّغْوَ، وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ، وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ، وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ" [النسائي:1414].
وقيل لعيسى- عليه السلام-: "دلنا على عمل ندخل به الجنة. قال: لا تنطقوا أبدا، قالوا: لا نستطيع ذلك، فقال: فلا تنطقوا إلا بخير" [إحياء علوم الدين للغزالي:3/120]. وقال سليمان بن داود- عليهما السلام-: "إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب" [إحياء علوم الدين للغزالي:3/120].
وكان أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- يضع حصاة في فيه، يمنع بها نفسه عن الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد" [إحياء علوم الدين للغزالي:3/120]. وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: "أنذرتكم فضول الكلام، بحسب أحدكم ما بلغ حاجته" [الصمت لابن أبي الدنيا:239-240] وقال رجل لسلمان- رضي الله عنه-: "أوصني؟ قال لا تكلم. قال: وكيف يصبر رجل على أن لا يتكلم؟. قال: فإن كنت لا تصبر على الكلام، فلا تتكلم إلا بخير أو اصمت" [الصمت لابن أبي الدنيا:215].
فلنعلم أنفسنا الصمت ولنجربه، ولنعاهد أنفسنا على أن نربيها عليه، فإن الدين قد رغَّبَ فيه وحث عليه، وقام بمدحه العقلاء والحكماء، ومن استمرأ الصمت ارتاح من الضجيج والإزعاج، وأدرك أنه كان مدمناً للكلام والقيل والقال، وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "مَنْ صَمَتَ نَجَا" [الترمذي:2689]، فالصمت نجاة بنص الحديث، فلنعلم أنفسنا الصمت -إن أردنا السلامة والنجاة-.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على هذا النبي العظيم الذي أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وأنسه، فقال عزّ من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم ارزقنا الصمت عن قول الباطل واجعلنا ممن حفظ لسانه وصانها عن كل لغوا وباطل.