القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام - |
لا يصح في شعبان من فضائل الأعمال وخير الخصال إلا الصيام للكبير المتعال، وما عدا ذلك من إحياء لياليه أو العمرة فيه أو الصدقة والدعاء أو الفرحة والهناء، فكل ذلك تخصيصه في شعبان لا دليل عليه، ومن البدع المحدثة.. ومن القواعد المقررة ألا يُعبَد الله إلا...
الحمد لله المحمود وحق له أن يُحمد، الواحد الأحد المعبود وليس لغيره أن يُعبد، أوجد الموجودات من العدم على غير ميزان يُعهد، شأنه جميل، وعطاؤه جزيل، وخزائنه لا تنفد، قدرته أزلية، وعظمته أبدية دائم على الدوام السرمد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة بها على الدوام نشهد، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله نبي ما تطلع الشمس على أعلم منه وأعبد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.
أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا من أمركم بالتقوى، واستمسكوا بالعروة الوثقى، واستعدوا لما أمامكم بالبر والتقوى، وأكثروا من العمل فهو نعم العُدة الأبقى.
عباد الله: إنما الموت سبيل مسلوك يرد فيه المالك والمملوك، الجهلاء والعلماء، واستوى فيه جميع المخلوقات في الأرض والسماء.
إخوة الإسلام: إن نعم الله تعالى قد عمت البوادي والأمصار، وإن نعم الله قد شملت البادين والحضار، وإن نعم الله علينا لا تُحصى بِعدٍّ ولا تُحد بمقدار (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم: 34].
فكم أسدى الله سبحانه للإنسان معروفًا، وكم أعان ملهوفًا، وكم والى لخلقه عطاء ونوالاً، فاشكروا آلاء الله وما من به من تفريج الكروب (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) [الأنفال: 45] (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [يونس: 28] واتقوا الله واحمدوه على كل حالٍ وارغبوا إليه في حراسة النعم عن الزوال.
إخوة الإيمان: ألا وإن من النعم والآلاء والكرم إدراك المواسم وبلوغ أوقات الغنائم التي يتاجر فيها الإنسان مع ربه، ويسارع فيه إلى جنته، فيرتفع عند الله درجات ويفوز عند الله إلى أعالي الجنات.
ومن هذه الفرص وهي حرية بالجد أن تؤخذ وبالفضائل أن تقتنص صيام شهر شعبان، فقد جاء عن سيد ولد عدنان صيامه والإكثار منه، فقد قالت الصديقة بنت الصديق رضي الله عن الجميع: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان" متفق على صحته.
وعند مسلم في صحيحه "كان يصوم شعبان كله إلا قليلاً " فعلى المسلم والمسلمة الإكثار من الصيام فيه على حسب الطاقة؛ شريطة ذلك ألا يفوته ذلك ما هو أوجب منه وأفضل والمرء أمير نفسه في صيامه، فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقل.
ولا تعيين في صيامه ولا تحديد، فمن أوسطه أو أوله أو آخره مجتمعة أو متفرقة (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) [الروم: 44].
ومن الحكم في صيامه: التهيئة ورفع الكلفة والمشقة لصيام شهر رمضان؛ ليدخل المرء في صيامه باستعداد تام وشغف جام، وفرحة واستبشار وأنس وأنوار، فهو مقدمة لشهر عظيم وتمهيد لشهر كريم فرض الله صيامه في كتابه الكريم، فالصيام قبله في شهر شعبان والصيام بعده في شوال كالسنن الرواتب القبلية والبعدية بين يدي المكتوبة، فشعبان كريم بين شهرين كريمين، وعظيم بين شهرين عظيمين..
ومن الحكم أنه شهر في الغالب يغفل الناس عنه وتكثر فيه الشواغل، والعبادة وقت الغفلة لها أثر كبير وصلاح كثير، لاسيما في زمننا هذا كثر الانشغال والغفلة، فبصيامه يعلق المرء قلبه بربه ويتصل بخالقه، وبصيامه يذكر برمضان، وتمرين على طاعة الرحمن، وتدريب على العبادة وتسهيل على المشقة والكلفة.
فتجد الأمة في صيامه حلاوة الإيمان وروحانية شهر رمضان، فيدخلون في الصيام بقوة ونشاط وفرحة واغتباط.
وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد منها: أن يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لاسيما الصيام فهو سر بين العبد وبين ربه، ومنها أنه أشق على النفوس وأفضل الأعمال أشقها على النفوس وسبب ذلك كأن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم، أكثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين، فسهلت الطاعات.. وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المتيقظين طاعاتهم، لقلة من يقتدون بهم فيها، ولهذا فضلت العبادة في آخر الزمان كالهجرة إلى ولد عدنان.
ومنها أن المنفرد بالطاعة بين أهل المعاصي والغفلة قد يدفع به البلاء عن الناس فكأنه يحميهم ويدافع عنهم..
لولا الذين لهم وِرْد يصلون | وآخرون لهم سَرْد يصومون |
لَدُكْدِكَتْ أرضكم من تحتكم سحرًا | لأنكم قوم سوء ما تطيعون |
(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة: 251] لولا عباد للإله رُكَّع، وصبية يتامى رُضَّع، ومهملات في الفلاة رُتَّع، لَصُبَّ عليكم العذاب الموجع.
هذا واعلموا عباد الله واسمعوا يرعاكم الله أن من كان عليه قضاء من أيام رمضان الماضي فليدرك وقته وقضاء فرضه وإبراء ذمته قبل حلول شهره من واجب كقضاء أو نذر ونحو ذلك..
ومما ينبغي أن يُعلم ويُذكر فيُفهم أنه يجوز الصيام بعد منتصف شهر شعبان، والحديث الوارد النهي عن منتصف شعبان ضعّفه كبار أئمة هذا الشأن.. والأحاديث الواردة الصحيحة تدل على جواز الصيام بعد منتصف شعبان، وإنما المنهي عنه أن يقصد ويتعمد الصيام قبل رمضان بيوم أو يومين كما جاء ذلك في الصحيحين.
وكذا عباد الله اعلموا وفقني الله وإياكم لهداه، ومنحني وإياكم رضاه أنه لا يصح في شعبان من فضائل الأعمال وخير الخصال إلا الصيام للكبير المتعال، وما عدا ذلك من إحياء لياليه أو العمرة فيه أو الصدقة والدعاء أو الفرحة والهناء، فكل ذلك تخصيصه في شعبان لا دليل عليه، ومن البدع المحدثة.
ومن القواعد المقررة ألا يُعبَد الله إلا بما شرع رسول الله، ومن العبارات الخاطئة في شهر شعبان أنه يكثر تبادل الرسائل والكتابات عبر المواقع والمنتديات وتبادل التبريكات والتهنئات والدعوات بذكر أحاديث في شهر شعبان وهي ما بين صريحة لكن ليست صحيحة وما بين صريحة ولكن ليست صحيحة.. فتحفظوا عباد الله من نشر الرسائل والأحاديث المكذوبة التي لا أصل لها، وليس كل مريد للخير مصيبًا له.
ومن الأخطاء الاحتفال بليلة النصف من شعبان على أي لون من ألوان الاحتفالات كالاجتماع على إنشاد القصائد والمدائح والطعام وذبح الذبائح.
وليس لليلة النصف عبادة خاصة لا قراءة ولا صلاة ولا دعاء ولا قيام، وكذا من الأخطاء صلاة الألفية وتسمى صلاة "البراءة " لا أصل لها ولا تصح.. وكذا اعتقاد أن ليلة النصف هي ليلة القدر وهذا باطل باتفاق المسلمين.
ومما ينبغي العلم به أن ليلة النصف من شهر شعبان لا يصح تخصيص يومها بصيام ولا ليلها بقراءة وقيام ولا في نهارها التصدق والدعاء والذكر والبكاء.
فاعبدوا الله عباد الله حيث أمركم الله وأخلصوا له العبادة وحده جل في علاه، واتبعوا من رفعه مولاه، فمن هذين المصدرين الإخلاص والمتابعة تقبل العبادة وبتخلفهما أو أحدهما فهي مردودة..
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جمع ما تشعب من القلوب ووفق ما شاء للعمل الصالح المطلوب، وأشهد أن لا إله إلا الله علام الغيوب وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نال كل مرغوب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بذلوا في سبيل الله كل محبوب لاسيما الخلفاء الأربعة والحنفاء.. أهل الخير والسعة، أما بعد فاتقوا الله في أنفسكم وراقبوه..
عباد الله: ومما شاع وعند العامة ظهر وذاع اعتقاد أن شعبان يكثر فيه الموت، ولهذا يقال فيه شهر الموت والفواجع، وهذا تصور خاطئ وليس عليه دليل ولا أثر، وإنما هذا من الخرافات والتوهمات والخزعبلات؛ إذ الموت والحوادث والفواجع والكوارث إنما هي بعلم الله والموت ليس له علاقة بالشهور والأيام والأمكنة والأعوام، وإنما هو مقدر ومكتوب عند الحي القيوم السلام (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) [النمل:56 ] (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 34].
نعم قد تكثر الحوادث والوفيات في شهر دون شهر؛ نظرًا لكثرة الرحلات والتنقلات والإجازات، ولكن كل شيء بقدر..
ومن الناس أيها الناس من يصف شعبان الشهر القصير أو هذا شهر قصير، وهذا في الحقيقة ليس بصحيح فشعبان كغيره من الشهور لا ينقص عن غيره ولا يزيد، فأيامه ثلاثون أو تسع وعشرون وساعاته أربع وعشرون، وليس هناك شهر قصير أو طويل، ولكن الغفلة واشتغال البال وذهول الحال والأمن وراحة البال هم تمضي الأيام سراعًا وتنقضي تباعًا دون شعور وإقلال..
وهذا مشاهد فشعبان تكثر فيه الشواغل والاستعدادات للمشارب والمآكل فهو شهر يغفل الناس عنه.
ومما حدث في شعبان موقف عظيم وخطب جسيم ألا وهو "تحويل القبلة" من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، وكان تحويلها اختبارًا وامتحانًا للمؤمنين صدقًا ومحبة وإضاءة وفتنة للمنافقين والمرتابين شكًّا وارتيابًا فقال سبحانه مجيبا عن قوله (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) [البقرة: 142] قال سبحانه (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) [البقرة: 143] .
ومما حدث في شعبان -إخوة السنة والقرآن- فرض شهر رمضان بلغني الله وإياكم شهر الفرقان على حسن حال وأتم بال.
فاجتهدوا بارك الله فيكم واعمروا أوقاتكم بالطاعة تسعدوا في دينكم ودنياكم فشبعان كغيره من الشهور سريع الانقضاء والذهاب، ونشئوا أولادكم فعل الخير وحب السنة والكتاب وكان السلف يعنون بشهر شعبان بالعبادة ويسمونه شهر القراءة والعبادة..
كان حبيبنا صلى الله عليه وسلم إذا دخل شعبان قال: "هذا شهر القراء"، وكان سلمة بن كهيل يقول: "كان يقال شهر شعبان شهر القرآن" عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن..
بل كان بعضهم يخرج زكاته فيه تقوية للضعيف والمسكين على شهر الصيام وسد حاجاتهم ومتطلباتهم بالتفرغ للعبادة والطاعة وتهيئة النفوس للعمل الصالح.
وأما الدعاء المشهور عباد الله: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان"، فكثيرا ما يذكر عبر الخطب والإذاعات والكلمات وهو حديث ضعيف لا يصح..
كل ذالكم أحبتي في الله ليحصل التأهب والاستعداد لتلقي رمضان وترويض النفس بذلك على طاعة الرحمن.
مَضَى رَجَبٌ وَمَـا أحْسَنْتَ فِيهِ | وَهَذَا شَهْرُ شَعْبانَ المُبَـارَكْ |
فَيَـا مَنْ ضَيَّعَ الأوْقاتِ جَهْلاً | بِحُـرْمَتِهَا أفِقْ وَاحْذَرْ بَوَارَكْ |
فَسَوْفَ تُفَارِقُ اللَّذَّاتِ قَهْرًا | وَيُخْلي المَوْتُ كَرْهًا مِنْكَ دَارَكْ |
تَدارَكْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الخَطَايَا | بِتَوْبَةِ مُخْلِصٍ وَاجْعَلْ مَدَارَكْ |
عَلَى طَلَبِ السَّلَامَةِ مِنْ جَحِيمٍ | فَخَيْرُ ذَوِي الجَرَائِمِ مَنْ تَدَارَكْ |
هذا وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه.. اللهم أصلح أحوال المسلمين واجمع شملهم على الهدى والدين..