العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
وصاحب المروءة من صان نفسه عن الأدناس، وما شانها عند الناس، فحملها على ما يجمل من مكارم الأخلاق، وأدى حقوق الله -عز وجل- وحقوق المخلوقين، واجتنب ما يدنّس عرضه وشرفه من كل قول وفعل ومقام، وغير ذلك مما يهبط بالإنسان عن المراتب العالية...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العليم القدير, خلق الخلق ودبّرهم بعلمه وقدرته، وقضى فيهم بأمره، وسلّط بعضهم على بعض بحكمته، وأمد للظالم يستدرجه، نحمده على قضائه، ونشكره على عافيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, من تفكر في خلقه وأفعاله أقر بربوبيته، وأذعن لألوهيته، وعظّمه تعظيمًا، وكبّره تكبيرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, اصطفاه الله تعالى واجتباه، للخير هداه، ومن المكارم أعطاه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتوبوا إليه واستغفروه.
عباد الله: قصة عجيبة وواقعة غريبة ذكرها الإمام ابن كثير في كتاب [البداية والنهاية]، يقول -رحمه الله- في ترجمة العبد الزاهد: "أحمد بن مهدي بن رميم.. العابد الزاهد أنفق في طلب العلم ثلاثمائة ألف درهم، ومكث أربعين سنة لا يأوي إلى فراش، وقد روى الحافظ أبو نعيم أنه جاءته امرأة ذات ليلة، فقالت له: إني قد امتُحِنت بمحنة، وأُكرهت على الزنا، وأنا حبلى منه، وقد تسترت بك، وزعمت أنك زوجي، وأن هذا الحمل منك، فاسترني سترك الله، ولا تفضحني، فسكت عنها.
فلما وضعت جاءني أهل المحلة وإمام مسجدهم يهنئونني بالولد، فأظهرت البِشْر وبعثت فاشتريت بدينارين شيئًا حلوًا وأطعمتهم، وكنت أوجّه إليها مع إمام المسجد في كل شهر دينارين صفة نفقة للمولود، وأقول: أقرئها مني السلام، فإنه قد سبق مني ما فرّق بيني وبينها، فمكثت كذلك سنتين.
ثم مات الولد فجاءوني يعزونني فيه، فأظهرت الحزن عليه، ثم جاءتني أمه بالدنانير التي كنت أرسل بها إليها نفقة الولد قد جمعتها في صرة عندها، فقالت لي: سترك الله وجزاك خيرًا، وهذه الدنانير التي كنت ترسل بها. فقلت: إني كنت أرسل بها صلة للولد، وقد مات وأنت ترثينه، فهي لك، فافعلي بها ما شئت، فدعت وانصرفت" [البداية والنهاية 11/163].
أيها الإخوة في الله: قصة عجيبة لا وصف لصاحبها إلا أنه كان يتصف بالمروءة ومكارم الأخلاق، فلم يفضح وستر وأنفق ووصل، وإن الذي يتأمل في واقع أخلاقنا، وسلوكنا مع أنفسنا، وأهلينا، وإخواننا المسلمين, يجد أن الواقع في هذا الشأن مرير، يبعث على الأسى، فقد زهد كثير من الناس رجالاً ونساء، شباباً وشيباً، في مكارم الأخلاق، فضلاً عن المروءة وأخلاق القرآن، في الوقت الذي نشط فيه أعداء الإسلام بنشر الغزو الأخلاقي المركز والمختلف الوسائل، والمتعدد القوالب، في مجتمعات المسلمين وأسرهم، فعمَّ الفساد والفِسق، وانتشرت المخالفات والمنكرات، وساد سوء الأخلاق، وقلة الحياء في سلوك كثيرٍ من الناس ومعاملاتهم.
أيها الإخوة: لا مخرج لهذه الأمة مما لحقها من تأخر وضعف إلا بالعودة إلى مكارم الأخلاق، والاتصاف بالمروءة التي هي جماع مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، فهي التي تساعد على كمال النفس بصونها عما يوجب ذمّها عرفاً، ولو مباحاً، مما يُستقبح ويستهجن من أعمال وأخلاق.
عباد الله: المروءة هي كمال الإنسانية، وهي الرجولة الكاملة، وهي ما يسميه العامة في عصرنا الحاضر وبلغتهم الدارجة هي المراجل، هي ما يقولون عنه ويعبرون حينما ينشِؤون الصغار، هي درب الطيب، هي المكارم، هي السمو والرفعة والعلو، في الأخلاق، هي أن يترفع الإنسان ويتكرم وأن يعلو بنفسه عن أخلاق السفلة، وعن أخلاق البهائم حيث تتهارش على شهواتها ورغباتها ومراتعها.
عباد الله: ومن المروءة: أن يستعمل العبد كل خُلق حسن، واجتناب كل خُلق قبيح، واستعمال ما يجمل العبد ويزينه، وترك ما يدنسه ويشينه.
فمن المروءة الإحسان إلى الناس خاصة الضعفاء والأرامل والأيتام دون انتظار جزاء على هذا السعي والبذل، ومتى قام الإنسان بهذا كتب الله له الأجر والرفعة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "السَّاعِي عَلَى الأرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ الله". وَأحْسِبُهُ قَالَ: "كَالْقَائِمِ لا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لا يُفْطِرُ" [أخرجه البخاري (6007)، واللفظ له، ومسلم (2982)].
عباد الله: ومن المروءة: أن تستعمل ما يجملك ويزينك وأن تجتنب ما يدنسك ويشينك، فهي كيفية نفسانية تحمل المرء على ملازمة التقوى وترك الرذائل. وهي آداب نفسانية تحمل مراعاتها على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات، إنها رعيٌ لمساعي البر ورفع لدواعي الضر، وهي طهارة من جميع الأدناس والأرجاس، وكل شيء يحمل على صلاح الدين والدنيا ويبعث عن شرف الممات والمحيا، يدخل تحت تعريف المروءة.
قيل لسفيان بن عُيينة -رحمه الله- وهو من السلف الأكابر, رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-: "قد استنبطت من القرآن كل شيء، فهل وجدت المروءة فيه؟" فقال: "نعم، في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199]، يقول: ففيه المروءة وحسن الأدب ومكارم الأخلاق، فجمع في قوله:(خُذِ الْعَفْوَ) صلة القاطعين والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين، وذلك في قوله: (خُذِ الْعَفْوَ)، ودخل في قوله:(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار، ودخل في قوله:(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) التخلق بالحلم والإعراض عن أهل الظلم والتنزه عن منازعة السفهاء ومساواة الجهلة والأغبياء وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.
عباد الله: وحقيقة هذه المروءة هي أن يتصف الإنسان بصفات الإنسان الحقيقية، التي يفترق بها عن الحيوان وعن الشيطان، إذ أن النفس تشتمل على دواع شتى، في النفس ما يدعو إلى أخلاق الشيطان، والشيطان يدعو إلى ذلك من الكبر والحسد والعلو والبغي والشر والأذى والفساد والغش، وفي النفس ما يدعو إلى الأخلاق البهيمية بالجري خلف الغرائز البهيمية، والبحث عن اللذات، كما أن في النفس ما يدعوها إلى أخلاق الملك من العلم والإحسان والنصح والبر والطاعة.
أيها الإخوة: والمروءة لها ثلاث مراتب: المروءة مع النفس, والمروءة مع الخلق, والمروءة مع الحق.
فالمروءة مع النفس، تكون بحملها قسراً على ما يجمل ويزين، وخطمها على ترك ما يدنس ويشين، ليصير لها ملكة في العلانية. فمن أراد شيئاً في سره وخلوته ملكه في جهره وعلانيته، فلا يفعل خالياً ما يستحي من فعله في الملأ إلا ما يحضره الشرع والعقل كالجماع والتخلي ونحو ذلك.
الثانية: المروءة مع الخلق، بأن يستعمل معهم الحياء والخلق الجميل، وحسن الأدب، ومكارم الأخلاق، ولا يظهر لهم ما يكرهه هو من غيره.
الثالثة: المروءة مع الحق -سبحانه-، بالاستحياء من نظره إليك، وإصلاح عيوب النفس قدر الإمكان، فإن الله قد اشتراها منك، وليس من المروءة تسليم المبيع على ما فيه من العيوب، وتقاضي الثمن كاملاً.
أيها الإخوة: وصاحب المروءة من صان نفسه عن الأدناس، وما شانها عند الناس، فحملها على ما يجمل من مكارم الأخلاق، وأدى حقوق الله -عز وجل- وحقوق المخلوقين، واجتنب ما يدنّس عرضه وشرفه من كل قول وفعل ومقام، وغير ذلك مما يهبط بالإنسان عن المراتب العالية.
وهناك مروءة مع الخلق، وذلك بأن يعاشرهم بكرم وحياء، وأخلاق جميلة، ولا يظهر لهم ما يكره أن يرى منهم، مما يوجهونه إليه، عامل الناس بما تحب أن يعاملوك وليتخذ الناس مرآة لنفسه، فإذا رأى فيهم شيئاً مما يعيبه فإنه يحرص على تجنّب هذا الخلق.
ولهذا كان لبعض الأكابر خادم سيء الأخلاق فظ المعاملة والطباع، فقيل له: "كيف تصبر على هذا المملوك والخادم؟ هلا أبعدته؟"، فقال: "أتعلّم عليه مكارم الأخلاق"، أي أدرس عليه مكارم الأخلاق، ومعنى كلامه واضح فهو يتصبر عليه، يتعلم الصبر والحلم لما يرى من حماقات هذا الخادم، وإنما الحلم بالتحلم، ثم هو لكثرة ما يرى من القبائح في أخلاقه، ينعكس أثر ذلك في تخلّقه هو، فيتجنب هذه المساوئ؛ لئلا يراها الناس.
هكذا ينبغي أن ننظر في حال هؤلاء الناس، فما رأينا من محاسن تقمصناها، وجاهدنا النفس على فعلها، وما رأينا من القبائح تركناها، وأرغمنا النفس على التخلي عنها.
أيها الإخوة: ومن المروءة أن نوقر الكبار في مجالسنا، وأن نقدمهم، وأن نحفظ حرمة الغريب، وأن نرحم الصغير، ولا يكون تعاملنا مع الصغار لطماً بالوجه في المجالس مثلا، فنصدهم ونردهم ونهينهم، فلا يجرؤون على حضور المجالس -مجالس الرجال- التي يتعلمون فيها المروءات، ومكارم الأخلاق، ولا ينبغي أن يثنى هؤلاء دائماً، وأن تحطم نفوسهم فلا يجترئون على حضورها، بل علينا أن نعودهم بقدر لائق ونعلمهم آداب هذه المجالس، كيفية الجلوس فيها وكرم الضيافة وحسن الاستقبال بجميل القول وطيب الكلام، ويبتهج في وجوههم عند اللقاء بهم ويرحب بهم.
ومن المروءة أن نحفظ محارمنا من كل فعل لا يليق، فلا تخرج البنات والزوجات في حال من التبذل والتعري، والعباءات المخصرة وغير ذلك مما لا يليق، أو تذهب لتعمل في مكان مختلط، أو في مكان يزرى بها ويحط من قدرها وأهلها.
كذلك تكون المروءة في الإغضاء، واحتمال عثرات الإخوان، والإغضاء عنها أن نعفو عن الهفوات، ونسكت عن الزلات؛ فكل إنسان يخطئ ويهفو ويزل.
ومنها أن نسامح الناس في الحقوق وفي الواجبات، وأن نصفح عنهم كرماً وأن ننظر في هذه الهفوات والأخطاء والجنايات التي يجتنونها، إذ منها ما تكون قضايا تافهة، والحر لا يقف عندها ولا ينقر فيها، ولا يستوقفهم معها، وإنما يغفرها ويطرحها؛ لأن العتب مستقبح، ومن هجر أخاه من غير ذنب كان كمن زرع زرعاً ثم حصده من غير أوانه، وقد قيل:
ليس الغبي بسيد في قومه | لكن سيد قومه المتغابي |
عباد الله: إن حقوق المروءة كثيرة، وشروطها في نفس الإنسان مع الاستقامة ثلاثة:
الأول: العفة: وهي نوعان: العفة عن المحارم, والعفة عن المآثم. الثاني: النزاهة: وهي نوعان: النزاهة عن المطامع الدنيوية, كقول الصحابي -رضي الله عنه-: "ما على هذا بايعتك يا رسول الله إنما بايعتك على سهم يدخل من ها هنا ويخرج من ها هنا".
والنزاهة عن مواقف الريبة كقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "على رسلكما إنها صفية".
الثالث: الصيانة: وهي نوعان: صيانة النفس بالتزام كفايتها وصيانتها عن تحمل المنن من الناس؛ لأن المنَّة تحدث ذلة.
أيها الإخوة: والفرق بين العقل والمروءة، أن العقل يأمرك بالأنفع، والمروءة تأمرك بالأجمل. والمروءة صدور الأفعال الجميلة الممدوحة شرعاً وعقلاً وعزماً من الإنسان لكافة المخلوقات، فقد تدفع المروءة صاحبها إلى مساعدة الحيوان واللطف به، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ" [أخرجه البخاري (3467)، واللفظ له، ومسلم (2245)].
نسأل الله أن يوفقنا لأحسن الأخلاق والأعمال، ويصرف عنا سيئها، ويحسن لنا الختام أجمعين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أكرم أولياءه بطاعته، وأنزل في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وعمر أوقاتهم بالبذل لخدمة الدين، وإعزاز المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: ومما يعين على تحقيق المروءة: مجالسة أهل المروءات، فالطبع سراق، والإنسان يتأثر بما يخالط ويصاحب، وبالمقابل أن يجانب إخوان السوء، وقد قيل: "مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلب صدأ الذنوب، ومجالسة ذوي المرواءت تدل على كرم الأخلاق، ومجالسة العلماء تذكي القلوب"، فالإنسان بحسب من يخالط.
ومن الناس من تعاشره عشرات السنين معاشرة قريبة، ولم تسمع منه في يوم واحد يدعوك إلى منزله، أو ترى أحداً يطرق بابه، أو يستقبل ضيوفاً أو ما أشبه ذلك، فكيف يتخرج أولاده؟ وكيف يعرفون المكارم ومعالي الأمور؟!.
وأمر آخر: مما يعين على تحقيق المروءات الزوجة الصالحة، ذلك أن الرجل إذا ارتبط بامرأة ضعيفة الهمة تؤثر الكسل والخمول والنوم، فإنه إذا أراد أن يستضيف الرجال ولولت وزمجرت وغضبت وتأففت واستثقلت، لا تريد أن تقوم بأعباء من أجل إكرام هؤلاء الضيوف، فهؤلاء قوم لا يطرق بيتهم طارق، ولا يستقبلون ضيفاً، ولا يعرفون كرماً؛ لأنهم لم يوفقوا بامرأة تعينهم على هذه المكارم، فيحمل الرجل هماً كبيراً؛ لأنه سيلاقي مشكلة في داخل بيته إذا استضاف أحداً من الناس.
وكذلك المرأة إذا كانت لا تحفظ زوجها في غيبته، فأي محل للمكارم والمروءات عند هذا الرجل، إذا كانت تخونه بظهر الغيب، إذا كانت هذه المرأة لا تربي الأبناء والبنات على الحشمة والعفاف ومكارم الأخلاق، وتتبذل إذا خرجت، فأي مروءة تبقى لهذا الرجل، إذا كانت هذه المرأة تفشي سره وتتلف ماله، فما الذي يبقى له من المروءات، كي يبذل وكيف يواجه الناس بوجه طلق؟.
كما إنه ليس من المروءة استخدام الضيف، فهذا عمر بن عبد العزيز جاءه ضيف وجلس معه -رجاء بن حيوة- فانطفأ السراج، فأراد أن يقوم رجاء قال: "لا، ليس من المروءة أن يستخدم الرجل ضيفه". فإذا جاء الضيف يريد أن يأخذ منك الشاي أو القهوة أو غير ذلك ليقوم بذلك عنك، فقل له: لا، ليس من المروءة أن يكرم الرجل في داره.
ومن المروءة في المجالسة: أن نحسن الإصغاء لمن يحدثنا، فهذا أدب نحتاج إليه كثيراً، فلربما يتحدث الناس فيفاجأ أن الذي يُحدث يقوم وينسل من المجلس وصاحبه يحدثهم، ويحكي أحد الفضلاء يقول: "رأيت رجلاً يتحدث أبوه في المجلس -وأبوه رجل كبير لا يعرف إلا بعض القضايا التي عفا عليها الدهر، فهو يرددها- فزجره ولده، وقال: ليس عندك إلا هذا؟ والتفت لبعض جلسائه وجلس يتحدث معهم هذا الولد". سبحان الله!! أما علم هذا الابن أن هذا من أعظم العقوق؟ لربما تصبب الإنسان عرقاً إذا رأى مثل هذه الأخلاق مع أنها لم تصدر منه.
أيها الإخوة: المروءة تنخرم بفعل الكبائر أو بغلبة الصغائر، أو بمقارفة ما يسمى بصغائر الخسة، كالذي يسرق أشياء تافهة، ويحاول أن يختلس أموراً حقيرة وما إلى ذلك، يشتغل بالتوافه ويكثر من اللهو واللعب الذي لا يليق بمثله ولو كان مباحاً. قال الشاطبي: "كثرة التنزه بالبساتين -أي الإدمان دائماً- يذهب المروءة، وتسقط به الشهادة".
وكرجل ذو مروءة ما تراه إلا يتزحلق، فليس بذي مروءة ولا كرامة له، ويمكن أن ترد شهادته بسبب ذلك، ومثله من يزجر الحمام ويلعب بها، فهذا مما لا يليق.
كذلك من المروءة ما يرجع إلى العرف، مثل المشي حاسراً، وهذا يختلف بحسب البلد، وهناك أمور مشينة لا تليق مثل أن يجلس الواحد في المجالس العامة كمجالس العلم فتراه يمد رجله في مجلس العلم، يمدها أمام من ينبغي أن يحترمهم كالعلماء في مجلس عام كالمسجد ودار العلم ونحوهما، وفي غير بيته يمد رجله، أو في مجلسه في حضرة ضيوفه يمد رجليه، وهذه أمور غير لائقة، ومع ذلك وللأسف هي تنتشر عند بعض من يتشبث بالعلم من صغار الطلبة ممن لم يعرفوا أدبه بعد، وقد رأيت في بعض الدورات العلمية من الطلاب من يجلس ويمد رجليه بوجه شيخه!.
كذلك لا يهتم بالمظهر واللباس تجاه نفسه، وتجاه من عنده، ولا يحترم أيضاً الفقراء والضعفاء من العمالة بل يحتقرهم.
عباد الله: وإذا قلت مروءة الشخص فإنك قد تجده يكثر المزاح في كل وقت حتى عند إقامة الصلاة، ويعرف كثيراً بالجدل والمراء على أتفه الأسباب ولا يخرج من ذلك بطائل ولا فائدة.
إن كثرة المزاح في المجالس وفي المعاشرة تذهب المروءة -كما قال الأحنف بن قيس- والذي يسرف في المزاح يستجلب عداوة الناس، ويقع -ولا بد- في شيء من اللغو، ولربما الظلم والإسفاف، فيصدر منه ما يؤذي من القول والفعل والنظر والغمز واللمز، وكمال الإنسانية لا يلتقي إطلاقاً بلغو الحديث أو إيذاء من يجالس ويعاشر ويخالط، فهذا حال الإنسان الذي أراد أن يحفظ مروءته.
أيها الإخوة: ومن خوارم المروءة أنك قد تجد الرجل مع زملائه حسن التعامل، وإذا رجع إلى بيته فهو سبع ضار على امرأته وأولاده.
ومن خوارم المروءة: اتباع هوى النفس يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "إن أغزر الناس مروءة أشدهم مخالفة لهواه". قال معاوية: "ترك الشهوات وعصيان الهوى، فاتباع الهوى يزمن المروءة ومخالفته ينعشها". وقال الشافعي -رحمه الله-: "لو علمت أن الماء البارد يثلم مروءتي لما شربته".
أيها الإخوة: ويدخل في ذلك مما هو من اتباع الهوى؛ الإعلان بالفسق سواء سُمي فناً أو غير ذلك، والمفسد للمال، والسكوت عن الفواحش وعمن يمارسها، والتصريح بأقوال الخنا وجعل النفس مسخرة بحيث يضحك من صاحبها في كلامه أو لباسه والتشبه بالمخنثين أو بالنساء نسأل الله العافية.
ومن خوارم المروءة: الرطانة بالأعجمية من غير حاجة, حيث عده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من خوارم المروءة فقال: "ما تكلم رجل الفارسية إلا خب -أي صار خداعاً-، ولا خب إلا نقصت مروءته" [أخرجه بن أبي شيبة في المصنف].قال الأصمعي: "ثلاثة تحكم عليهم بالدناءة حتى يعرفوا: رجل شممت منه رائحة نبيذ في محفل، وسمعته يتكلم في مصر عربي بالفارسية، أو رأيته على ظهر الطريق ينازع في القدر". ويدخل في هذا الوقت في ذلك جميع اللغات الأخرى المعروفة.
ومن خوارم المروءة: الرقص والغناء والصفق بالأكف، وفي كتاب ابن القيم -رحمه الله- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان وكتاب الشيخ حمود التويجري -رحمه الله- الإيضاح والتبيين، نقلٌ عن جماعة من العلماء في حرمة ذلك والرد على من تساهل فيه، ونُقل عن ابن عبد السلام قوله في الرقص والتصفيق أنه خِفّة ورعونة مشبهة برعونة الإناث، لا يفعلها إلا أرعن أو متصنع كذاب.
أيها الإخوة: ومن خوارم المروءة: سوء العشرة مع الأهل أو الجيران وشتم الناس والبخل والشح, ومما يدخل في إيذاء الأهل والجيران والناس شرب الدخان والشيشة بينهم ورفع الصوت والقهقهة وكشف ما جرت العادة بتغطيته من البدن، ويدخل فيه أيضاً استعمال المنبهات التي في السيارات تحت البيوت, والسرعة في القيادة داخل الحواري وقفل الطريق بالسيارات دون مراعاة لحقوق الآخرين.
ومن خوارم المروءة: اللعب بالنرد وبالحمام وما شابه ذلك والمزاح مع السفهاء ومد الرجلين بغير عذر في مجمع الناس ومصارعة الثيران وصراع الديكة ومصارعة النساء.
ومن خوارم المروءة: عدم المحافظة على الصلوات, والاعتياد على عدم الجلوس في المساجد بعد الصلوات؛ للذكر والتسبيح والمداومة على ذلك وعلى ترك السنن الرواتب والوتر, ومخالطة تاركي الصلاة ومرتكبي الفواحش والكبائر.
معاشر المسلمين: نلاحظ أن بعضاً من هذه الخوارم هي محرمات وبعضها مكروهات وبعضها منافٍ للأخلاق الإسلامية وللذوق، فأما ما كان منها محرماً فالواجب تركه، ومن وقع في شيء منه فعليه العودة والتوبة من ذلك، وأما ما كان مكروهاً أو أقل من ذلك أو أكثر، فالمسلم ينبغي له أن يترفع عنه, وأن يكون صاحب ذوق رفيع, وهمة عالية ونفس زكية, مقتدياً في ذلك بسيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- وبصحابته الكرام، فصاحب العقل يأمره عقله بالأنفع، وصاحب المروءة تأمره المروءة بالأرفع.
والأولى بالمسلم أن يصون نفسه ويحفظها عما يشينها ويسعى بكل جهده لفعل الخيرات, وحصد الحسنات ويبتعد عن السيئات بالبعد عن المعاصي والمنكرات، فالحسنات تزيد نور القلوب والسيئات تطفئها والعياذ بالله.
اللهم نوّر قلوبنا واحفظ جوارحنا واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم حسِّن أخلاقنا كما حسنت خَلقنا، وأعنا على أنفسنا. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.