الأحد
كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
نقف اليوم مع قصة يونس بن متـَّى -عليه السلام-، وهي قصة عظيمة ذُكرت في القرآن العظيم، إيجازًا أو تفصيلاً، وسميت باسمه سورة كاملة هي سورة يونس، وترتيبها في المصحف العاشرة، مع أنها لم تتحدث عنه وعن قومه إلا في آية واحدة وهي الآية رقم 98 من السورة، وسنقف على بعض أحداث قصة يونس -عليه السلام- التي أجملها الله -عز وجل- في سورة يونس، وجاء إيضاحها في سورة ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وعظموا أوامره واحذروا أن تفعلوا ما نهاكم الله عنه، وتقربوا إلى الله بالأعمال الصالحة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
عباد الله: لنا وقفة في هذا اليوم -بقدرة الله تعالى- مع قصة من قصص أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام- التي وردت في القرآن الكريم، تهدف إلى التوجيه والإرشاد والتسلية والاعتبار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم لأمته ومن تبعه على الحق إلى يوم الدين، نقف اليوم مع قصة يونس بن متـَّى -عليه السلام-، وهي قصة عظيمة ذُكرت في القرآن العظيم، إيجازًا أو تفصيلاً، وسميت باسمه سورة كاملة هي سورة يونس، وترتيبها في المصحف العاشرة، مع أنها لم تتحدث عنه وعن قومه إلا في آية واحدة وهي الآية رقم 98 من السورة، وسنقف على بعض أحداث قصة يونس -عليه السلام- التي أجملها الله -عز وجل- في سورة يونس، وجاء إيضاحها في سورة الأنبياء وسورة الصافات وسورة القلم.
حدّث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: إن يونس -عليه السلام- كان وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم بعد ثلاثة أيام، ثم اعتزلهم، ففرقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا فجأروا إلى الله تعالى -أي دعوه- واستغفروه، فكف الله عنهم العذاب، وغدا يونس -عليه السلام- ينتظر العذاب، فلم ير شيئًا، وكان في شريعتهم من كذب ولم يكن له بينة قُتل، فانطلق مغاضبًا -أي خرج على قومه غضبان- حتى أتى قومًا في سفينة، فحملوه وعرفوه، فلما دخل السفينة ركدت -أي لم تسر في البحر-، والسفن تسير يمينًا وشمالاً، فقال: ما بال سفينتكم؟! قالوا: ما ندري، قال: ولكني أدري، إن فيها عبدًا أبق من ربه، والله لن تسير حتى تلقوه، قالوا: أما أنت والله يا نبي الله لا نلقيك، فقال لهم يونس: اقترعوا، فمن قُرع -أي وقع عليه القرعة- فليقع، فاقترعوا فقُرع يونس ثلاث مرات -أي وقعت القرعة عليه في المرات الثلاث-، وقد وكل الله -عز وجل- به الحوت، فلما وقع ابتلعه فأوى به إلى قرار البحر، فسمع يونس -عليه السلام- تسبيح الحصى -أي في قاع البحر-، فنادى في الظلمات (أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87]، ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل، يقول الله تعالى في سورة القلم: (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) [القلم:49]، أي كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين -وهي شجرة القرع-، فكان يستظل بها أو يصيب منها -أي يأكل منها-، فيبست فبكى عليها حين يبست، فأوحى الله إليه: أتبكي على شجرة أن يبست ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم!! فخرج فإذا هو بغلام يرعى غنمًا، فقال: ممن أنت يا غلام؟! قال: من قوم يونس، قال: فإذا رجعت إليهم فأقرئهم السلام، وأخبرهم أنك لقيت يونس، فقال الغلام: إن تك يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم يكن له بينة قُتل، فمن يشهد لي؟! قال: تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة، فقال الغلام ليونس: مُرهُما، فقال لهما يونس -عليه السلام-: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالتا: نعم.
فرجع الغلام إلى قومه، وكان له إخوة، فكان في منعة، فأتى الملك فقال: إني لقيت يونس، وهو يقرأ عليكم السلام، فأمر به الملك أن يُقتل، فقال: إن له بينة، فأرسل معه فانتهوا إلى الشجرة والبقعة، فقال لهما الغلام: نشدتكما بالله، هل أشهدكما يونس؟! قالتا: نعم، فرجع القوم مذعورين، يقولون: تشهد لك الشجرة والأرض، فأتوا الملك فحدثوه بما رأوا، فتناول الغلام فأجلسه في مجلسه، وأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة. رواه ابن أبي شيبة وأحمد وغيرهم، وهو حديث صحيح.
عباد الله: يونس بن متى -عليه السلام- نبي ورسول من الصالحين الأخيار؛ قال تعالى عنه: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)، أوحى الله -عز وجل- إليه وبعثه إلى أهل نينوى من أرض الموصل بالعراق، فدعاهم إلى الله تعالى فكذبوه وتمردوا على كفرهم وعنادهم، فضاق صدره بهم ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم، فوعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث، واعتزلهم وغادرهم مغاضبًا. وكان الواجب عليه أن يصبر عليهم ويتحمل أذاهم من أجل دعوته ويثبت على ذلك.
وقوم يونس لما أيقنوا بنزول العذاب ودار على رؤوسهم العذاب كقطع الليل المعتم، قذف في قلوبهم التوبة والإنابة، فتابوا وأنابوا إلى ربهم، ورجعوا إليه بصدق، وتضرعوا بالبكاء والصراخ في مشهد عظيم لبسوا فيه ثياب الذل والخضوع لله -عز وجل-، وخرجوا إلى الصحراء وفرقوا بين البهائم وأولادها حتى جأرت المواشي والدواب والأنعام إلى الله تعالى.
فلما علم الله -عز وجل- صدق توبتهم كشف بحوله وقوته ورحمته عنهم العذاب، ولم ينزله بهم، وأثنى عليهم بين الأمم إلى يوم القيامة بقوله في محكم كتابه: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس:98].
وإكمالاً للقصة خرج يونس -عليه السلام- مغاضبًا لقومه، ومضت الأيام الثلاثة التي وعدها يونس قومه وهو لا يعلم أنهم تابوا بعد خروجه، فخرج إليهم ينظر موعود الله فيهم، فوجدهم سالمين غانمين، فأغضبه ذلك، واستعجل أمر الله، وقد كان جزاء الكاذب عندهم القتل، فخرج هاربًا منهم خشية القتل، حتى أتى شاطئ البحر من دون إذن الله تعالى له، غاضبًا من قضاء الله، غير مسلّم لأمر الله الذي حل بقومه، ثم ركب السفينة لأمر يريده الله تعالى وتأديب يقصده الله سبحانه، وتمحيص وابتلاء قدّره الله على عبده يونس -عليه السلام-، ووقع له ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من أحداث متلاحقة، حتى التقمه الحوت، فأمسكه في بطنه بقدرة الله تعالى، وألهمه الله -عز وجل- أن لا يمس يونس بأذى، وأن يحفظه إلى ما يشاء الله، فهوى به في قاع البحر، فأحاطت به الظلمات الثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل، وأسمعه الله -عز وجل- تسبيح الأسماك والحصى والكائنات تحت الماء، فأحس بخطئه، وندم على فعله وأناب إلى ربه، فسمع الله نداءه وهو الذي يعلم السر والنجوى، ويكشف الضر والبلوى، ويسمع الأصوات وإن ضعفت؛ قال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88]، ولولا توبته وتسبيحه وإنابته لربه، لهلك في بطن الحوت وبقي فيه إلى يوم البعث والنشور.
قال بعض أهل العلم: وفي إنبات القرع عليه حكم جمة؛ منها: أن اليقطين غذاء جيد للبدن يوافق ضعاف المعدة، وأن ورقه في غاية النعومة، كثير وظليل، ولا يقربه ذباب، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره نيئًا أو مطبوخًا، وبقشره وبذره أيضًا نفع كثير وتقوية للدماغ والبدن، وهذا كله من رحمة الله به، ونعمته عليه، وإحسانه إليه.
عباد الله: إن المخالفة التي وقع فيها نبي الله يونس بن متى -عليه السلام- إنما كانت بقضاء الله وقدرته، ولحكمته البالغة، وهي لا تنقص من قدره، ولا من مكانته شيئًا، فهو من عباد الله المصطفين الأخيار، والأنبياء الأطهار، وقد حذّر المصطفى محمد -عليه الصلاة والسلام- من النقص من قدره -عليه السلام-، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يقولن أحدكم: إني خير من يونس بن متى". أخرجه البخاري. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات143 :144].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبارك لنا في القرآن الكريم، وسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه وراقبوه ولا تعصوه، واعلموا -رحمكم الله- أن قصص القرآن يجب أن تُقرأ ويتحدث بها للعبرة والاتعاظ والتأمل والامتثال والاقتداء، وذلك لأنه ليس بيننا وبين الله -عز وجل- إلا التقوى والإيمان والعمل الصالح والعبادة الخالصة لوجهه الكريم، وأنه لا ينجي الإنسان إلا عمله الصالح بعد رحمة الله تعالى وفضله، وأن الأنبياء والمرسلين أشد الناس بلاءً، وأكثرهم تعرضًا للمحن والأذى في سبيل الله، ولم يخترهم الله لرسالته إلا بعد اتصافهم بالصبر واليقين، فطريق الأنبياء شاق وعسير، تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل إبراهيم، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، ولبث في السجن، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح يحيى، وحوربوا وطوردوا، وأذوي وأخرج محمد -صلى الله عليه وسلم-، فخاطبه الله -عز وجل- بقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) [الأحقاف:35].
وقال عنهم الشاعر:
فلم أر حيًّا صابروا مثل صبرنا | ولا كافحوا مثل الذين نكافح |
وإن من أعظم الدروس التي نستفيدها من قصص الأنبياء عامة، وقصة يونس -عليه السلام- خاصة، أن يقف المسلم عند حدود الله ويمتثل أمر الله ويجتنب نهيه، ويرضى بقضاء الله وقدره، ويطمئن ويصبر لحكمه، ويحتمل الأذى في سبيله، ويرجو ثوابه وجنته، وأن يتعرف إلى الله تعالى في الرخاء ويتقيه ويرعى حقوقه، ليعرفه الله سبحانه عند الشدائد، وينجيه عند النكبات والأزمات، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من سرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء".
وما أحوج كل مسلم مغموم مهموم، أظلمت به الدروب، وأحاطت به الكروب، أن يعلم أنه لن يخلّصه مما هو فيه إلا توحيد الله -عز وجل- والدعاء، وأنه لن ينجو إلا بالتوبة والإنابة الصادقة والاستغفار والعزيمة على عدم العودة إلى معصية الله، وأن يتجه إلى الله راغبًا صادقًا داعيًا إياه دعاء المكروب المعترف بخطئه وتقصيره، ويثق بنصر الله وتأييده، قال تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دعوة ذي النون يونس -عليه السلام-: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لا يدعو بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له". وثبت في الصحيح أنها اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.
أسأل الله باسمه الأعظم أن ينور قلوبنا بالإيمان، وأن يعمرها بالأعمال الصالحة، وأن يجعل ألسنتنا رطبة بذكر الله تعالى، وأن يجعلنا من التوابين المتطهرين المستغفرين.
وصلوا -عباد الله- وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.