المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه |
الملك نمرود لما وصل إليه خبر إبراهيم -عليه السلام- ومعجزته الخالدة دعا إبراهيم، فلما مثل بيّن يديه صوّب إليه نظره وقال له: ما هذه الفتنة التي أيقظتها؟! وما هذا الإله الذي تدعو إلى عبادته؟! هل تعرف ربًّا غيري؟! وإلهًا يستحق العبادة دوني؟! فأجابه إبراهيم عليه السلام في ثبات جنان وطلاقة لسان، وقال: ربي الذي يحيي ويميت، وعندما أفحمه بالحجة ازداد ..
الحمد لله حمد الشاكرين، يختبر عباده كلٌّ حسب إيمانه وعزيمته وصبره وجلده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعملوا بكتاب الله القرآن الكريم، وسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
يا عباد الله: قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:258]
الملك نمرود لما وصل إليه خبر إبراهيم -عليه السلام- ومعجزته الخالدة دعا إبراهيم، فلما مثل بيّن يديه صوّب إليه نظره وقال له: ما هذه الفتنة التي أيقظتها؟! وما هذا الإله الذي تدعو إلى عبادته؟! هل تعرف ربًّا غيري؟! وإلهًا يستحق العبادة دوني؟! فأجابه إبراهيم -عليه السلام- في ثبات جنان وطلاقة لسان، وقال: ربي الذي يحيي ويميت، وعندما أفحمه بالحجة ازداد تمرد وتكبر النمرود، وأخذته العزة بالإثم وقال: أنا أحيي من أشاء بالعفو، وأقضي عليه بحكمي وسرعان ما تزهق روحه ويحرم حياته، فلم يأتِ ربك بدعًا ولم يفعل عجبًا، وعندما لجأ إلى المراوغة أجابه إبراهيم بقوله: إن الله سخر الشمس وجعل لها نظامًا لا تحيد عنه، فهو يأتي بها من المشرق، فإن كنت -كما تدعي- قديرًا فغيّر هذا النظام الذي جرت به سنة الله -عز وجل- واقتضت إرادته، فائت بها من المغرب، فبهت: أي دهش وتحير الذي كفر؛ إذ بان ضلاله وظهر كذبه ووضح بهتانه وبدت جهالته، فخاف على ملكه، فصار إبراهيم -عليه السلام- أبغض الناس إليه وأشدهم عداوة له، ولكن ما يصنع به وقد أتى بعقيدة دعمها بمعجزة باهرة.
فلما خاف منه وأبغضه أبقى عليه وأخذ ينظر الفرصة للانتقام منه، وأخذ يضيّق على إبراهيم ويعمل على الإضرار به، فضاقت نفسه بالمقام بينهم، وارتأى الهجرة عنهم، وفر بدينه من تلك الأرض التي لم تنمو فيه دعوته، وترك وطنه وقومه بعد أن حقت عليهم كلمة العذاب؛ إذ لم يؤمنوا بعد إذ جاءهم الهدى، وكفروا بعد أن قامت عليهم البينة، وسار حتى حط رحاله في أرض فلسطين الأرض المباركة.
هاجر إبراهيم -عليه السلام- إلى فلسطين ومعه زوجته سارة، وخادمتها هاجر، واستاقوا معهم أنعامهم، واحتملوا ما يملكون من مال جزيل، وخير جليل، وأقام وسط أهله وعشيرته والطائفة القليلة التي آمنت به.
كانت سارة عقيمًا لا تلد، وكان يحزنها أن ترى زوجها الوفي يتطلع إلى النسل، وقد أصبحت هي على حالٍ لا يرجى فيها الولد، فقد بلغت من الكبر عتيًّا، فأشارت على زوجها أن يدخل بأمتها هاجر، وهي الوفية الكريمة المطيعة الأمينة، علها تنجب ولدًا تشرق به حياتهما ويسري عنهما بعض ما يجدان من لوعة الوحدة ومرارة الوحشة، فقبل برأيها، فلما وهبته إياها أنجبت غلامًا زكيًّا هو إسماعيل -عليه السلام-، فانتعشت نفس إبراهيم، وقرت عينه، ولعل سارة قد شاركت إبراهيم في سروره، وشايعته زمنًا في بهجته، ولكن الغيرة لم تلبث أن دبت إلى قلبها، وازداد همها وحزنها وقلقها، فغلبت عليها الكآبة، وأصبحت لا تطيق النظر إلى الغلام، ولا تحتمل رؤية هاجر.
أصبحت كئيبة ملتاعة متحسرة متذمرة، لم تجد دواءً لعلتها وكشفًا لدائها إلا إقصاء إسماعيل وأمه عن دارها وإبعادهما، فتمنت على زوجها أن يذهب بهاجر وطفلها إلى أقصى الأماكن حتى لا تراهما، فأذعن لإرادتها، وكان الله أوحى إليه أن يطيع أمرها، فركب دابته واصطحب الغلام وأمه وسار، ترشده إرادة الله، وتحدوه عنايته، وطال به السير، وامتد الطريق حتى وقف عند مكان البيت العتيق -الكعبة المشرفة مكة حاليًا-، فأنزل هاجر وطفلها في هذا المكان الذي لا زرع به ولا سكان، وتركهما في تلك الأرض الجرداء وهما ضعيفان لا يملكان شيئًا سوى مزود به قليل من الطعام، وسقاء فيه شيء من الماء، وإيمان بالله يعمر قلبهما، ويغمر نفسهما، تركهما واستودعهما الله في هذا المكان، وقفل راجعًا، فتبعته أم إسماعيل وتعلقت به وأمسكت بثوبه وقبضت على خطام دابته، وقالت: يا إبراهيم: إلى أين تذهب؟! ولمن تتركنا بهذا الوادي الموحش المقفر؟!
حاولت أن تستعطفه وتتوسل إليه بابنه فلذة كبده، وترجو أن لا يتركها للجوع القاتل والعطش المميت، وذرفت الدموع لعله أن يستجيب لندائها واستعطافها، ولكنه لم يسمع إلى قولها، ولم تلن قناته لرجائها، بل أبان لها أن ذلك أمر الله، وتلك إشارته، فلابد لها من الخضوع لحكمه والتسليم لأمره، فلما علمت بذلك كفّت عن حواره، واستسلمت لأمر الله، وركنت إلى رحمته وقالت: لن يضيعنا.
أما إبراهيم -عليه السلام- فإنه انحدر من تلك الربوة يشغله الإشفاق والخوف، ويدفعه الإيمان والثقة بالله، ودّع زوجه هاجر وابنه إسماعيل مكرهًا صابرًا على الابتلاء، مستسلمًا لقضاء الله، وعاد إلى وطنه، وخلف وراءه امرأة وحيدة وطفلاً في تلك البقعة النائية، وهو يدعو الله أن يكلأهما بعنايته ويحفظهما برعايته ويقول: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون) [إبراهيم:37]
امتثلت هاجر للقضاء المحتوم، وتحلت بالصبر الجميل، مكثت تأكل الزاد وتشرب من الماء حتى نفدا، فخوى بطنها، وجف ريقها، واحتملت ذلك صابرة، ولم تلبث أن جف ثديها، وأصبحت لا تجد لبنًا ترضعه الطفل، أو ماءً يبل عطشه، وثقلت عليها وطأة الجوع، تود لو استطاعت أن تروي ظمأه بدموعها، وأن ترد عنه غائلة العطش بماء دموعها، ولكن هيهات، حاولت أن تجد لها من مأزقها مخرجًا وابنها يتلوى من الظمأ، فتركته مكانه وسارت هائمة على وجهها، تعدو تهرول وقد هاجها التياع طفلها، وأحزنها بكاؤه ونحيبه، وأخذت تذهب تبحث عن الماء وتفتش له عن غذاء، فأخذت تذهب بين الصفا والمروة، فأخذت تذهب وتجيء بينهما، وهكذا سعت سعي المجهود سبع مرات أو سبعة أشواط، والطفل يصيح ويصخب، تقطع ببكائه نياط قلبها، ويحز بعويله في أعماق فؤادها، رحماك يا رب، هذا طفل جف حلقه حتى عيي عن البكاء، وانقطع عنه الغذاء حتى خارت قواه، وخفتت أنفاسه والأم ترى وحيدها يجود بنفسه وهي لا تجد لها معينًا في وحدتها، ولا سلوة في مصابها، فأخذ الطفل يفحص الأرض برجليه، فبينما هو يضرب برجليه الأرض فإذا الماء قد انبجس من تحت قدميه، وفار من قرع رجليه، بقدرة الله وفضله وحوله وقوته: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ) [البقرة:74]
رأت هاجر رحمة الله تحوطها، وعناية ربها تظلها، فجلست خائرة القوى، يقطر العرق من جبينها، وأكبت على طفلها تروي ظمأه، فدبت الحياة في جسمه، وارتوت هي أيضًا، فسرت فيها الحياة، وانقشعت تلك السحابة السوداء التي أظلتها زمنًا، وذلك بفضل الله وعنايته، هذه العين هي عين زمزم، تتدفق منذ ذلك التاريخ، ويزدحم حولها الحجاج والمعمرون والزائرون لبيت الله الحرام منذ تلك الأيام وإلى وقتنا الحاضر، وإلى ما يشاء الله -عز وجل-. ونكمل بمشيئة الله في الخطبة الثانية.
نسأل الله أن ينفعنا بهدي كتابه، وسنة خاتم رسله، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يمن على من يشاء بفضله وجوده، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه واحمدوه واشكروه، واسألوا الله أن يحببكم في ماء زمزم، فماء زمزم لما شرب له، فإن شربته -أيها المسلم- عبادة لله أثابك الله، وإن شربته وترغب الشفاء شفاك الله بقدرته، وإن شربته ارتويت ارتواءً من الظمأ رواك الله.
عباد الله: لما نبع الماء اجتذب الطير إليه، فحومت حوله وحلقت فوقه، وكان قوم من قبيلة جرهم -وهي قبيلة من قبائل اليمن- يسيرون قرب هذا المكان، فرأوا الطير تحط في ساحته، فعرفوا أن الطير لا تقع إلا على الماء، فأرسلوا واردهم يرتاد المكان ويخبرهم بخبره، ولما ذهب إليه وجد الماء، فرجع يزف قومه البشرى، فوفدوا إليه جماعات وأفرادًا، واتخذه بعضهم موطنًا ومقامًا، فآنست هاجر بهم، واطمأنت إلى جوارهم، وشكرت الله إذ استجاب دعوة إبراهيم -عليه السلام- فجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، ولم ينس إبراهيم -عليه السلام- ابنه، بل كان يفد إليه يزوره قليلاً ليطمئن على حاله، ويقر عينًا بمرآه، فلما كبر إسماعيل وأطاق المشي والعمل رأى إبراهيم في نومه أنه يؤمر بذبحه، ورؤيا الأنبياء حق، وأحلامهم صدق.
فتنة إثر فتنة، ومحنة تتلوها محنة: شيخ كبير جالد الأيام وأحنته السنون، قد كان طوال حياته يأمل الولد، حتى إذا بلغ من الكبر عتيًا رزقه الله بغلام وحيد قرت به عينه، وأشرقت له نفسه، ثم أمر أن يسكنه بوادٍ غير ذي زرع، فيمتثل لأوامر الله ويطيعه، ثم هو الآن يؤمر بذبحه، إن هذه لمحنة تنوء بها الجبال الراسيات، ولكن العظائم كفؤها العظماء، فعلى قدر إبراهيم وعلو منزلته، وعلى مقدار ثبات يقينه وكمال إيمانه، يكون ابتلاؤه واختباره، فاستجاب لربه وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته وارتحل حتى لقي ابنه، فأخبره بما رأى في منامه، فلما عرض عليه الأمر بادر الغلام بالطاعة، وقال: يا أبت: افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين، وأعان والده على ما أمره الله به، فقال: يا أبت: اشدد وثاقي، ونفذ ما أمرك الله به، ثم أسلم إبراهيم ابنه، فصرعه على جنبه وأوثقه بكتافه، وأمسك السكين وهو يتابع الزفرات، وأمرها فوق عنقه ولكنها لم تقطع؛ لأن قدرة الله قد ثلمت حدها، فقال إسماعيل: يا أبت: كبني على وجهي، فإنك إذا نظرت إلى وجهي أدركتك رحمة بي تحول بينك وبين أمر الله، ففعل فوضع السكين على قفاه، فلم تقطع، وأدركت إبراهيم الحيرة، وشق ذلك على نفسه، فتوجه إلى الله أن يجعل له مخرجًا، فرحم الله -عز وجل- ضعفه، واستجاب لدعائه، وكشف غمته ونودي: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) [الصافات:104 :106]
فاستبشر بالفوز والفرج من الله -عز وجل- واغتبطا بالنجاة، وحمد الله على ما أنعم الله به عليهما من دفع البلاء وكشف الغمة، وقد نالا جزيل الثواب وخير الجزاء، وصارا بعد هذا الاختبار أصفى نفسًا وأثبت إيمانًا وأرسخ يقينًا.
فدى الله سبحانه إسماعيل بذبح عظيم رآه بجواره -كبش عظيم-، فأقبل عليه إبراهيم وذبحه بتلك السكين التي كلت عن ذبح إسماعيل -بقدرة الله تعالى-، وأمرَّها على حلق الكبش فقطعت بسرعة فداءً لإسماعيل، وحقنًا لدمه، ثم صار ذبح الضحايا أمرًا متبعًا، وسنة عظيمة، يقوم بها كل مسلم قادر كل عام، يوم عيد الأضحى المبارك أو الثلاثة الأيام بعده، اقتداءً بسنة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ومحمد -عليهم الصلاة والسلام جميعًا- وشكرًا لله على نعمته.
وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.