السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
هذه روايات متعددة عن قصة الأخدود، إلا أنها توضح لنا أن الصراع بين الحق والباطل مستمر، وأن الله عز وجل الحق مهما عمل أصحاب الباطل، فنسأل الله عزّ وجل الثبات على الحق ونصرة دينه، وأن ينصرنا ..
الحمد لله رب العالمين القائل: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون) [الصف:9] ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، وأطيعوه واحمدوه واشكروه على نعمه وآلائه.
عباد الله: وردت قصة أصحاب الأخدود في سورة البروج وفسرها المفسرون وذكروها بأشكال مختلفة نذكر ثلاثًا منها:
الأولى: روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس -رضي الله عنه- في أصحاب الأخدود قال: هم ناس من بني إسرائيل خدوا أخدودًا في الأرض، ثم أوقدوا فيه نارًا ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساءً، فعرضوا عليها، وقال الضحاك إضافة إلى ذلك: ثم أوقدوا فيه النيران، فأقاموا المؤمنين عليها فقالوا: تكفرون أو نقذفكم في النار.
وتفصيل النبأ على ما في كتاب الكنز الثمين أن دعوة المسيح -عليه السلام- الأولى العارية عن شوائب الإلحاد لما دخلت بلاد اليمن وآمن كثير من أهلها كان في تلك البلاد بلدة نجران، وكان أقام عليها ملك الحبشة أميرًا من قبله نصرانيًا مثله، وكان بها راهب كبير له الكلمة النافذة والأمر المطاع، ثم إن اليهود الذين كانوا في تلك البلاد تآمروا على طرح نير السلطة المسيحية من اليمن والإيقاع بمن تنصر بغضًا في المسيحية وكراهة لسلطان مسيحي يملكهم، فأقاموا رجلاً يهوديًا منهم عند موت ذلك السلطان أو قتله، فأشهر ذلك اليهودي نفسه ملكًا على بلاد سبأ، وجاء لمحاربة مدينة نجران، واستولى عليها بالتغلب والقوة والخيانة، ولما دخلها قتل عددًا عظيمًا من سكانها رجالاً ونساءً، وكانت عدتهم فيما يقال ثلاثمائة وأربعين شهيدًا، وأتى بذلك الراهب محمولاً يحف به الجنود، وكان هرمًا لا يقوى على المشي، فسئل عن عقيدته فأقر بالإيمان بالله تعالى وبما جاء به رسوله عيسى -عليه السلام-، فأمر بسفك دمه وقتله، وكذلك بقية الشهداء اعترفوا بما اعترف به دون جبن ولا تهيب، بل بشجاعة وصبر على ما يشاهدونه من أفانين العذاب وأخاديد النيران، ثم ألقت امرأة بنفسها في النار وتبعها طفل لها في الخامسة من عمره، وكل هؤلاء الشهداء أظهروا من السرور بالتألم من أجله تعالى، والفرح بالشهادة، ما أضحوا به مثالاً وعبرة لكل مفتون من أجل إيمانه ومدافعته عن يقينه، سواء أفتتن بماله أو نفسه أو لسبب حق له، لا جرم أن من تلا ما ورد في الوعد الصادق لكل مفتون في الدين استبشر بما أعد للمخلصين الصابرين، وتسمى هذه القصة عند النصارى شهادة الخبر أراث ورفقته، ويؤرخونها بعام (524) من التاريخ المسيحي.
الثانية: رويت القصة بشكل آخر، فقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبه وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني عن صهيب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان ملك من الملوك فيمن كان قبلكم، وكان لذلك الملك كاهن يكهن له، فقال له ذلك الكاهن: انظروا لي غلامًا فهمًا، أو قال: فطنًا لقنًا، فأعلمه علمي، فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه، قال: فنظروا له على ما وصف، فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه، فجعل الغلام يختلف إليه.
وكان على طريق الغلام راهب في صومعة، فجعل يسأل ذلك الراهب كلما مرّ به، فلم يزل به حتى أخبره فقال: إنما أعبد الله، فجعل الغلام يمكث عند هذا الراهب ويبطئ على الكاهن، فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني، فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب: إذا قال لك: أين كنت؟! فقل: عند أهلي، وإذا قال لك أهلك: أين كنت؟! فأخبرهم أني كنت عند الكاهن.
فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثير قد حبستهم دابة يقال: إنها كانت أسدًا، فأخذ الغلام حجرًا فقال: اللهم إن كان ما يقول ذلك الراهب حقًّا فأسألك أن أقتل هذه الدابة، وإن كان ما يقول الكاهن حقًّا فأسألك أن لا أقتلها، ثم رمى فقتل الدابة، فقال الناس: من قتلها؟! قالوا: الغلام، ففزع الناس وقالوا: قد علم هذا الغلام علمًا لم يعلمه أحد.
فسمع أعمى فجاءه فقال له: إن أنت رددت عليّ بصري فلك كذا وكذا، فقال الغلام: لا أريد منك هذا، ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك؟! قال: نعم، فدعا الله فرد عليه بصره، فآمن الأعمى، فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم، فأتى بهم فقال: لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه، فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى، ثم أمر بالغلام فقال: انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا، فألقوه من رأسه فانطلقوا به إلى ذلك الجبل، فلما انتهوا إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون حتى لم يبق منهم إلا الغلام، ثم رجع الغلام، فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه، فانطلقوا به إلى البحر، فأغرق الله الذين كانوا معه وأنجاه.
فقال الغلام للملك: إنك لن تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول إذا رميتني: بسم الله رب الغلام، فأمر به فصُلب ثم رماه، وقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ثم مات، فقال الناس: لقد علم هذا الغلام علمًا ما علمه أحد، فإنا نؤمن برب الغلام، فقيل للملك: أجزعت أن خالفك ثلاثة، فهذا العالم كلهم قد خالفوك، قال: فخدوا أخدودًا، ثم ألقى فيه الحطب والنار، ثم جمع الناس فقال: من رجع عن دينه تركناه، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار، فجعل يلقيهم في ذلك الأخدود فقال الله تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج4 :9].
فأما الغلام فإنه دفن ثم أخرج، فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل.
عباد الله: إن الهدف من ذكر قصة أصحاب الأخدود التي نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة هو تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة من الكفار والمشركين، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان، وإلحاق أنواع الأذى بهم وصبرهم وثباتهم على الحق حتى يأنسوا بها ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرقين بالنار، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) [البروج10 :11]، بعد ذلك خاطب الله نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) [البروج12 :16]. استئناف الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- إيذان بأن لكفار قومه نصيبًا موفورًا من مضمونه.
والبطش: الأخذ بالعنف، فأخذ الله -عز وجل- للجبابرة والظلمة شديد بالعذاب والانتقام.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة خاتم رسله، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب عظيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، فقد وردت قصة أصحاب الأخدود براوية ثالثة ونختصرها فيما يلي:
إنه دخل صنعاء في اليمن رجل ظهر فجأة من الشمال وكأنه قادم من الصحراء، واتجه نحو قصر الملك ذي نواس، وكان يهوديًا كأن سرًّا يحمله بين جنبيه، فسأله حارس القصر عن أسباب قدومه في ساعة ألزم الناس في الحر دورهم عندما رآه مضطربًا، فقال الرجل: أتيت في أمر جليل الخطر، عظيم المقدار، أُكَاشِفُ به ذا نواس، فأجابه بأن الملك مشغول عنه وعن غيره بإعادة اليهودية دينًا شاملاً، وحكم التوراة في الأرض نافذًا في دولته، وهو يخرج عندما تميل الشمس إلى حديقة القصر ليتشاور مع الأشراف والقواد المطيعين له، وهو على دينه فيما يهيئون للغزو والقتال.
فقال الرجل: جئت لأمر قريب من هذا، وإن الملك لو حدثته فإنني لا أرتاب في أنه سيدعوني إليه، وأنه سيهتم بهذا الشأن أو سيكون منه موضع تفكير وتدبير، ثم أوى إلى زاوية في القصر ريثما تخف وطأة الحر، فلما نزل الملك جاءه الحاجب فأخبره أن رجلاً قدم من نجران للقاء الملك، وأنه يريد أن يفضي للملك بأمر دين جديد يخشى منه على اليهودية، فقال الملك: عليّ به، وأخبره عن حادث بنجران قد وقع، وإن لم يتدارك أمره فإنه يوشك أن يمتد إلى غيرها من البلدان، وربما امتد إلى اليمن، وربما جاوزها إلى غيره من أصقاع الأرض، وأخبره الرجل أنه دين يدعو إلى النصرانية، ويبشرون له باسم عيسى المسيح، وأنه إن لم يتدارك الملك اليهودية بنجران فإنه يوشك أن يمحى ظلها وينتهي تاريخها، فاستوى الملك ذو نواس في جلوس، وكأنه قد غص بريقه، واستزاد استيضاحًا عن هذا الدين، فزاده الرجل: وأن رجلاً دعاهم إلى عبادة الله، وأن الملك هناك آمن به وآمن معه كثير من الناس، وذكر له الرجل أن الداعيين لهذا الدين رجلان: أحدهما رومي واسمه ميمون، والآخر عزي واسمه صالح، وكانا أرقاء بيعا في نجران، ويرى عليهما آثار الخير والصلاح، فما انتهى الرجل من حديثه حتى ثارت حفيظة ذي نواس وثار غضبه وحلف أن لا تسكن ثائرته حتى ينكل بأهل نجران أو يرجعوا إلى اليهودية.
وخرج بجيش كبير قاصدًا نجران، وخيّر أهل نجران بين العودة إلى اليهودية أو قتلهم، فأبوا إلا دينهم النصرانية، فلما رأى إصرارهم وعنادهم وتمسكهم بالنصرانية أمر بشق أخدود في الأرض وأحضر وقودًا وحطبًا ثم أشعلوا النار، وأخذوا يلقون المؤمنين في لهيب النار في الأخدود حتى خلت نجران من النصارى ولم يبق إلا اليهود.
هذه روايات متعددة عن قصة الأخدود، إلا أنها توضح لنا أن الصراع بين الحق والباطل مستمر، وأن الله -عز وجل- الحق مهما عمل أصحاب الباطل، فنسأل الله -عزّ وجل- الثبات على الحق ونصرة دينه، وأن ينصرنا بقدرته وفضله -عز وجل-.
وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.