الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
وأصحاب السبت من بني إسرائيل، وكان من تعاليم الله الكريم أن ينقطع قومه بنو إسرائيل عن أعمالهم يومًا في كل أسبوع، فلا يركنون إلى مزاولة أعمالهم الدنيوية، ويتفرغون إلى عبادة ربهم ويعكفون على حمده وتعداد نعمه وآلائه حتى تطهر قلوبهم بذكر الله، وكان يوم الجمعة هو اليوم الذي أمروا أن يعبدوا الله فيه، ولكنهم رغبوا أن يكون يوم عبادتهم يوم السبت الذي انتهى فيه خلق السماوات والأرض، ولما ..
الحمد لله يعز من يشاء ويذل من يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله والاعتبار بما ورد في كتاب الله القرآن الكريم من قصص وعبر، فالنجاة بالاعتبار وتقوى الله القائل: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطلاق2 :3].
عباد الله: وأصحاب السبت من بني إسرائيل، وكان من تعاليم الله الكريم أن ينقطع قومه بنو إسرائيل عن أعمالهم يومًا في كل أسبوع، فلا يركنون إلى مزاولة أعمالهم الدنيوية، ويتفرغون إلى عبادة ربهم ويعكفون على حمده وتعداد نعمه وآلائه حتى تطهر قلوبهم بذكر الله، وكان يوم الجمعة هو اليوم الذي أمروا أن يعبدوا الله فيه، ولكنهم رغبوا أن يكون يوم عبادتهم يوم السبت الذي انتهى فيه خلق السماوات والأرض، ولما اختاروه قبل الله اختيارهم، فكان موسى -عليه السلام- يعظهم ويقبل إليهم فيه مذكرًا ومرشدًا، ومرّت الأيام وبنو إسرائيل على عادتهم يقدسون يوم السبت ويفردونه لطاعة الله يتقربون فيه، أو لعبادة يسبحون الله فيه، وتكاثرت أعقابهم وتوالت أيامهم وهم على هذا مقيمون، وعلى تلك السنة دائبون حتى جاء خبر أهل القرية –السبت-؛ قال تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)[الأعراف163 :166].
وقال تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة65 :66].
وقال تعالى: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) [النساء:47].
قال ابن عباس -رضي الله عنه- ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم: هم أهل أيلة، وزاد ابن عباس: بين مدين والطور، وقالوا: وكانوا متمسكين بدين التوراة في تحريم السبت في ذلك الزمان، فكانت الحيتان قد ألفت منهم السكينة في هذا اليوم، وكان يحرم عليهم الاصطياد فيه، وكذلك جميع الصنائع والتجارات والمكاسب، فيكثر غشيان الحيتان من البحر كل يوم سبت لأنها قريبة من البحر على شاطئه، فتأتي الحيتان ها هنا وها هنا ظاهرةً آمنةً مسترسلةً، فلا يهيجونها، أما عدا يوم السبت فلا تأتي، وذلك اختبارًا لهم من الله -عز وجل- بسبب فسقهم، فلما رأوا ذلك احتالوا على اصطيادها في يوم السبت بأن نصبوا الحبال والشباك والسنانير، وحفروا الحفر التي يجري معها الماء إلى مصانع قد أعدوها إذا دخلها السمك لا يستطيع أن يخرج منها، ففعلوا ذلك يوم الجمعة، فإذا دخل الحيتان مسترسلة يوم السبت علقت بهذه المصايد، فإذا خرج سبتهم أخذوها.
فغضب الله عليهم ولعنهم لما احتالوا على خلاف أمره، وانتهكوا محارمه بالحيل التي هي ظاهرة للناظر، وهي في الباطن مخالفة محضة، فلمّا فعل ذلك طائفة منهم افترق الذين لم يفعلوا فرقتين: فرقة أنكروا عليهم صنيعهم هذا واحتيالهم على مخالفة الله وشرعه في ذلك الزمان، وفرقة أخرى لم يفعلوا ولم ينهوا، بل أنكروا على الذين نهوا وقالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) [الأعراف:164]، يقولون: ما الفائدة في نهيكم هؤلاء وقد استحقوا العقوبة لا محالة؟! فأجابتهم الطائفة المنكرة بأن قالوا: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ)، أي فيما أمرنا به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنقوم خوفًا من عذابه، (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، أي ولعل هؤلاء يتركون ما هم عليه من هذا الصنيع، فيقيهم الله عذابه، ويعفو عنهم إذا هم رجعوا.
بعد ذلك أنجى الله الفرقة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، وأخذ الظالمين المرتكبين الفاحشة (بِعَذَابٍ بَئِيسٍ)، وهو العذاب الشديد المؤلم الموجع بسبب فسقهم.
والمقصود أن الله -عزّ وجل- أهلك الظالمين ونجا المؤمنين المنكرين وسكت عن الساكتين، وكما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- وغيره ما مضمونه: أن الذين ارتكبوا هذا الصنيع اعتزلهم بقية أهل البلد، فكانوا يبيتون وحدهم وبينهم أبواب حاجزة لما كانوا يترقبون من هلاكهم.
وقد أنزل الله -عز وجل- بهم أشد العذاب؛ حيث مسخهم إلى قردة وخنازير، فأصبحوا ذات يوم وأبواب ناحيتهم مغلقة لم يفتحوها، وارتفع النهار واشتد الضحى، فأمر بقية أهل البلد رجلاً أن يصعد على سلالمهم ويشرف عليهم من فوقهم، فلما أشرف عليهم إذا هم قردة لها أذناب يتعاوون ويتعادون، ففتحوا عليهم الأبواب فجعلت القردة تعرف قراباتهم ولا يعرفهم قراباتهم، فجعلوا يلوذون بهم ويقول لهم الناهون: ألم ننهكم عن صنيعكم؟! فتشير القردة برؤوسها أن نعم، ثم بكى عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- وقال: "إنا لنرى منكرات كثيرات ولا ننكرها ولا نقول فيها شيئًا". وقال العوفي عن ابن عباس: "صار شباب القرية قردة، وشيوخها خنازير". وروي عن ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس ما معناه: أنهم لم يعيشوا إلا وقتًا قصيرًا أو النفس الأخير للمحتضر عند الموت، ثم هلكوا وما كان لهم من نسل.
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "أي واسأل هؤلاء اليهود -والخطاب موجه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم- بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ففاجأتهم نقمة على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذّر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم".
وقد استدل بهذه القصة على تحريم الحيل، قال ابن القيم -رحمه الله- في "إغاثة اللهفان": "ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله: الحيل والمكر والخداع الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه ومضادته في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف الصالح على ذمه، فإن الرأي رأيان: رأي يوافق النصوص وتشهد له بالصحة والاعتبار، وهو الذي اعتبره السلف وعملوا به، ورأي يخالف النصوص وتشهد له بالإبطال والإهدار، فهو الذي ذمّوه وأنكروه، وكذلك الحيل نوعان: نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه، والتخلص من الحرام، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي، فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه، ونوع يتضمن إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات وقلب المظلوم ظالمًا والظالم مظلومًا والحق باطلاً والباطل حقًّا، فهذا الذي اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض".
ولما ذكر الله -عز وجل- بعض مساوئ اليهود فقد ذكر الله سبحانه أنه حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة، فقال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأعراف:167]، أي أن الله توعد وحكم ليسلطن على اليهود من يذلهم بسبب عصيانهم ومخالفتهم لأوامر الله وشرعه، واحتيالهم على المحارم، ويعذبهم إلى يوم القيامة عقابًا لمن أقام منهم على كفره، ونبذ وصاياه، وأن الله غفور رحيم لمن تاب وآمن وعمل صالحًا، ثم أخبر الله تعالى عن تفرقهم وتبددهم في الأقطار فقال: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الأعراف:168].
ونكمل في الخطبة الثانية -إن شاء الله-.
وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بهدي كتابه، وسنة خاتم رسله، وأن يهدينا للحق، وأن يجعلنا من الآمرين بالمعروف والعاملين به، والناهين عن المنكر والمنتهين عنه، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي -عباد الله- بتقوى الله، وأن يكون لنا عبرة فيمن سبقنا من الأمم.
وإكمالاً لما ورد في الخطبة نقول: قال الله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الأعراف:169]، أي بدّل الله سبحانه بعد هؤلاء المذكورين خلفًا ورثوا الكتاب -أي التوراة- من أسلافهم المختلفين، يقرؤونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم ولا يعملون بها، يأخذون حطام الدنيا وما يُتمتع به منها مع حقارتها أو العرض، وهو ما لا ثبات له، و"الأدنى" بمعنى القريب لأنه عاجل قريب بالنسبة إلى الآخرة، ويتمنون على الله أن لا يؤاخذهم بما أخذوا، ويرجون المغفرة وهم مُصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين، كلما لاح لهم مثل الأول أخذوه، ثم أخبر الله تعالى أنهم قرؤوا الكتاب، ومع ذلك يأخذون ذلك العرض الخسيس، ثم يقول الله تعالى: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أي فتعلموا ذلك فلا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد، ثم أثنى الله تعالى بعد ذلك على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- كما هو مكتوب بقوله سبحانه: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)، أي يتمسكون في أمور دينهم بما جاء في الكتاب، وأقاموا الصلاة لأنها عمود الدين وفارقة بين الكفر والإيمان، فإن الله -عز وجل- لا يضيع أجرهم لإصلاحهم ثم يقول الله -عز وجل-: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الأعراف:170].
أي رفعنا الجبل فوقهم كأنه سحابة وظنّوا أنه ساقط عليهم؛ لأن الجبل لا يثبت في الجو، خذوا ما آتيناكم من أحكام التوراة بعزيمة وجد، واعملوا بها راجين أن تسلكوا طريق المتقين.
أسأل الله أن يجعلنا من المتقين المعتبرين المتعظين العاملين بكتاب الله وسنة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وصلوا وسلموا -عباد الله- على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.