الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | صالح بن محمد الجبري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
لقد تأخّرَ المسلمون حينما تركوا الأخذ بالأسباب، وتواكلوا على الله تواكلاً لا توكلاً. فهذه القصة ترينا: أن ذا القرنين وصل إلى ما وصل إليه، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، ولمع ذكره، وعلا نجمه، وسطع اسمه بين الناس، لا لأنه نام، وقعد، وخنع، وكسل، بل لأنه أخذ بالأسباب، التي يحتاجها لملكه وفتوحاته، بحسب تطورات العصر الذي وجد فيه سببا، يتوصل به إلى تثبيت ملكه، وتحقيق طموحاته في التوسع والإصلاح، وإقامة العدل، هذا هو...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
يقول سبحانه وتعالى في سورة الكهف: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً)[الكهف: 83-84].
الأقوياء في الأرض ليسوا أقوياء بذواتهم، إنما هم أقوياء بتمكين الله لهم، وهذا فضل من الله -عز وجل-؛ فإذا شَعَرَ الإنسان بقوة مادية أو معنوية؛ فهذا من باب التمكين، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)[النور: 55].
فذو القرنين رجل مكنه الله في الأرض، وفي قصته هذه يرينا سبحانه كيف يكون الملك الصالح، فذو القرنين من خلال هذه القصة رجل صالح، وملك صالح: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً)[الكهف: 83-84].
ولا بد من وقفة حول هذه الكلمة: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا).
تقتضي سنة الله في هذه الحياة، أن لكل شيءٍ سبباً، فإذا أردت أن تصل إلى شيءٍ ما، فلا بد من اتخاذ الأسباب، فالعلم له طريق، والقوة لها طريق، ورفعة الشأن في الناس لها طريق، والغنى له طريق، والملك له طريق وأن تستحوذ على قلوب الناس له طريق، فهناك طريق لأيّ شيء تُريدُه.
ربنا -سبحانه وتعالى- لم يخلق المحاصيل، والخضار أكواماً على الأرض، بل جعل تعالى لهذا النبات مراحل فأنتَ تحرث الأرض، وتُسمّدها وتلقى البذرة فيها، وتسكُب عليها الماء، ثُمَّ تنبت، وتُثمر، وتنضج، ثُمَّ تُقطف.
لكن جعلَ الله -سبحانه وتعالى- لكلَّ شيء سبباً، فإذا أردت أن تأكل القمح فلا بد أن تزرعه، وإذا أردت أن تجني العسل فلا بد أن تربي النحل، وأيُّ إنسان أراد أن يتجاوز الأسباب لقي الخيبة، فمن أدبك مع الله -عز وجل-، ومعرفتك بقواعد الخلق أن تتخذ الأسباب، وبعدها تتوكل على رب الأرباب.
ولقد تأخّرَ المسلمون حينما تركوا الأخذ بالأسباب، وتواكلوا على الله تواكلاً لا توكلاً.
فهذه القصة ترينا: أن ذا القرنين وصل إلى ما وصل إليه، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، ولمع ذكره، وعلا نجمه، وسطع اسمه بين الناس، لا لأنه نام، وقعد، وخنع، وكسل، بل لأنه أخذ بالأسباب، التي يحتاجها لملكه وفتوحاته، بحسب تطورات العصر الذي وجد فيه سببا، يتوصل به إلى تثبيت ملكه، وتحقيق طموحاته في التوسع والإصلاح، وإقامة العدل، هذا هو المغزى.
(وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا)[الكهف: 84].
آتيناه من كل شيء أراده سبباً له.
(فَأَتْبَعَ سَبَبًا) [الكهف: 85] أي عمل بالأسباب التي أوتيها.
أراد سبباً لهذا الشيء، فما كان منه، إلا أن أتبع هذه الأسباب، يعني إذا أردت أن تُصبح غنياً، فالغِنى له سبب، وإذا أردتَ أن تحتلَّ مكانةً رفيعةً بينَ الناس، فهذه لها سبب، ولا بد من أن تقدم لهم شيئاً، ولا بد أن تعطي أكثر من أن تأخذ، فهناك سبب لكلِّ شيءٍ تريده في الحياة، فإذا كنت عبداً واعياً، أريباً، تأخذ بالأسباب، وبعدئذٍ يمكنك الله في الأرض.
أما أن تطلب التمكين دون أن تبذل الأسباب، فهذا من المستحيلات!.
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا).
والطلاب الذين يطمحون إذا صلوا في العام الدراسي أن تأتيهم الملائكة لتجيب عنهم، وهذه خرافة وتدجيل.
فلابُدَّ أن تدرس دراسة جادة واعية من أجل أن تنال العلامات العالية في الامتحان، والتاجر الذي يطمح أن يرزقه الله رزقاً كثيراً من تجارته لابد أن يأخذ بالأسباب، هل اختار المحل المناسب؟ هل اختار البضاعة المهمة؟ هل عامل الناس بالحسنى؟ هل كان سعره مدروساً؟ وكل من يبتغي الأهداف بلا أسبابها أحمق غبي، يريد أن يدخل البيوت من ظهورها.
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) [الكهف: 86].
حَتي فتح البلاد، ودانت له الأراضي الشاسعة حتى بلغت جيوشه مغرب الشمس، فكأن الآية تشير إلى أنه وصل إلى طرف البر من جهة الغرب: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)[الكهف: 86].
فهذا ذو القرنين مكنَّ الله له في الأرض، وأعانَهُ على فتح هذه البلاد الغربية، لعلمهِ بالله -سبحانه وتعالى-، وبحرصه على أداء الحقوق، وعلى إقامة العدل.
(قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ) أنت مطلق اليد.
(إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا).
فما كان من ذي القرنين إلا أن قال: (أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً) [الكهف: 87].
أي أنه قرب المصلحين، وأبعد المفسدين عن مواقع السلطة والمسئولية، لكي لا يأتوا على أموال الفقراء والضعفاء والمحتاجين، وحتى لا يفسدوا المجتمع أخلاقيا وسلوكيا؛ فيعم بذلك الفساد في كل شيء.
وهكذا يبين الملك الصالح دستوره في رعاياه، ويبين أيضا: أن الإيمان لا يتم إلا بقرينه العمل الصالح، وأن إيمانا بغير عمل صالح لا يعتد به.
ذلك هو الميزان الذي نفرق به بين أصناف الناس، فلا اعتبار للأجناس ولا للألوان وللأنساب ولا للفقر والغنى، بل الاعتبار وحده للفرق بين الكفر والإيمان والفساد والصلاح، وليس هناك مقياس غير هذا، وكل شيء وراء هذا فهو باطل، نعم هذا هو العدل.
وهذا درس لنا، فمثلاً لا أحد يسأل الأب في البيت، ولكنه ينبغي أن يراعي جانب العدل، قد تكون امرأته ضعيفةً، لا أهل لها، فلا ينبغي أن يستطيل عليها، إذا مكّنَ الله إنساناً في بيته لا ينبغي أن يحيف عن الحق، وأن يتجاوز حقوق الآخرين، أو المُعلّم في صف طُلاب صِغار ينبغي ألا ّتظلمهم، إذا مكنَّك الله من هؤلاء الطلاب، أو صاحب منصب أو مسؤول لو مكنّهُ الله من السلطة؟ ينبغي أن لا يستطيل على موظفيه أو على الناس بقوته وسلطته.
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا) الكهف: 89].
توجّه ذي القرنين إلى بلاد أخرى: لما بلغ مغرب الشمس، ودانت له هذه البلاد، وخضعت، وأقام فيها العدل توجه إلى بلادٍ أخرى، عاد إلى بلاد المشرق.
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا)[الكهف: 90].
معنى: (لَمْ) أي أنَّ بلادهم منبسطة، ليست فيها تلال، ولا جبال، ولا تضاريس، فهيَ بلاد منبسطة، وأنت ترى الشمسَ في بعض السهول ساعة إشراقها، وساعة غروبها.
(لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) [الكهف: 90-91].
أي أحطنا بكل وسائله، وإمكاناته، والعدد التي أعدها، وبكل الرجال الذين أهلهم.
(كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ)[الكهف: 91-93].
وصل إلى مكانٍ بين جبلين.
(وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا)[الكهف: 93].
وجدَ قوماً متخلفين، بعيدين عن الحضارة، والعلم والقيّم.
(لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا)[الكهف: 93].
لهم لغة خاصة بهم قل من يعلمها من غيرهم من الأقوام، لكن الملك الصالح استطاع معرفة هذه اللغة.
وهذه الآية: تشعر أن من عيوب الشعوب وتخلفها الحضاري، أن لا يكون فيها مترجمون للغات غيرهم من الشعوب.
(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) [الكهف: 94].
قالوا: إنَّ هؤلاء أي يأجوج ومأجوج القوم متصارعون، متحاربون، أشرار، مفسدون معتدون يأتون إلينا، ويقتلون أبناءنا، وينهبون ثرواتنا، ويأخذون محاصيلنا، فهل لك أن تقيم حاجزاً بيننا وبينهم؟
إن يأجوج ومأجوج نموذجان للأمم الطاغية التي تعبث بمقادير الأمم والشعوب، وتحتل أراضي الغير بالقوة، وتستعبد من فيها، وتستنزف خيراتهم.
وأعداء المسلمين اليوم كلهم يأجوج ومأجوج، وكلهم مفسدون في الأرض.
والأمم الضعيفة لا يكادون يفقهون قولا!.
وما أكثر المستضعفين في الأرض الذين يستغيثون بإخوانهم المسلمين؛ ليقفوا بجانبهم، ولكن لا سميع ولا مجيب -ولا حول ولا قوة الا بالله-.
وتجدون هذا واضحا فيما يحدث الآن للمسلمين في سوريا وميانمار وأفريقيا الوسطى، وغير ذلك من المذابح والجرائم التي تتكرر يوميا على مرأى ومسمع من العالم المنافق الذي يصمت دائما عندما يكون المسلمون هم الضحايا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُون * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ)[التوبة: 8-10].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
(فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) [الكهف: 94].
هل تقبل أن نعطيك مالاً وفيراً، في نظير أن تقيم سداً حاجزاً بين الجبلين لتمنع هذه الغزوات؟!
هم لديهم الإمكانات المالية والاقتصادية و.. ولكنهم قوم كسالى لا يريدون العمل ولا يحبونه، ولديهم موقف رافض للأعمال المهنية؛ كبعض الناس اليوم -وللأسف الشديد- مع أن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده".
(فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) [الكهف: 94-95].
إن ما أعطاني ربي من ملك، وسلطان، ومال يغنيني، ولست بحاجة إلى أموالكم، ولا أريد أن أرهقكم بالضرائب والمكوس.
ونلاحظ هنا: أنه أعطاهم أفضل مما طلبوا، فهم طلبوا سدا لكنه وعدهم ببناء ردم ينهي مشكلتهم تماما مع يأجوج ومأجوج.
(قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ).
هذه الصفة الثانية: الترفع عن أموال الناس، لكنني بحاجة إلى يد عاملة.
(فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا).
أعينوني بقوة سواعدكم، وقوة المواد التي عندكم، حتى أبني لكم هذا السد، وأحميكم من عدوكم المفسد، إنه يريد القضاء على البطالة فيهم وتشجيعهم على العمل، من خلال إيجاد فرص العمل لهم في هذا المشروع الجبار، وانظر إلى حثه على ذلك في قوله: "فأعينوني، آتوني، انفخوا، آتوني".
(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) [الكهف: 96].
والقطر؛ هو النحاس، يبدو أن هذا السد بني من المواد التي يبنى منها البناء عادةً، مع الحديد الذي أذيب عليه النحاس، فهو في منتهى القوة؛ لأنه من مواد متماسكة، مسلحة بالحديد، مصانة بالنحاس، فكان بناء السد عندئذٍ حكيما، والحديد والنحاس من مرتكزات الصناعة الثقيلة قديما وحديثا.
بل هما الآن المادة الأساسية في الصناعات المختلفة الحربية والسلمية.
لذلك كان ذو القرنين موفقا ومسددا في صناعة السد من الحديد والنحاس معا، الأمر الذي أصاب يأجوج ومأجوج بالعجز التام عن اختراق هذا السد، فلم يتمكنوا أن يصعدوا إليه، لشدة ارتفاعه، وكونه أملس، ولم يتمكنوا من خرقه لشدة متانته، أي أنه كان مرتفعاً، أملسا، ومتينا.
ومعنى هذا: أن ذا القرنين لم يكن قائدا، ولا فاتحا فحسب، وإنما كان مصلحا، ناصرا للضعفاء، ومقاوما للفساد في الأرض.
وكان ذا خبرة هندسية، وفنية عالية.
ويعتبر ذو القرنين بهذا العمل أول مهندس علم الدنيا بناء السدود القوية المتينة، فكانت النتيجة: (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) [الكهف: 97].
لذلك؛ فالبشرية كلها تدين بالفضل بعد الله لهذا الملك الصالح الذي كف أذى يأجوج ومأجوج عنها، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ومع هذا كله؛ فإن ذا القرنين نظر إلى العمل الذي قام به فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تسكره نشوة القوة والعلم، وإنما ذكر الله فشكره، وتبرأ من حوله وطوله إلى حول الله وطوله وقوته وفوض إليه ألأمر، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز، والسدود، ستدك قبل يوم القيامة فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا، وقال كما حكى الله عنه: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)[الكهف: 98].
لذلك لا تقل نجحت، بل قل: وفقني الله.
ولا تقل: أصبت، بل قل: سددني الله.
ولا تقل: كسبت، بل قل: رزقني الله.
(قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي).
إنه لم يطغ بملكه كما طغى من أغفل الله قلبه عن ذكره من الملوك والأغنياء؛ أمثال النمرود، وفرعون وهامان وقارون، وصاحب الجنتين.
ولم يقل كما قال قارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) [القصص: 78].
بل قال: (هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف: 98].
هكذا كان ينطق الملك المؤمن بهذه الكلمات التي تدل على إيمانه بربه، وبما جاءت به أنبياء الله ورسله، إنه يقول إن كل شيء في هذه الدنيا سيأتي موعد هلاكه وفنائه، فلا يبقى إلا وجه الله الكريم.
وهذا درس حضاري آخر من ذي القرنين، أنه إذا صلح الرأس صلح باقي الجسد، في السياسة وإدارة الحكم.
وهكذا يعلمنا الله -عز وجل-، في كتابه الكريم أن نقتدي بأمثال هؤلاء الذين أحبهم الله، ومكن لهم في الأرض، وأنعم عليهم بنعمة الإيمان والهدى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام: 90].
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.