الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن علي النهابي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان |
لئلاَّ يعلم أهل الكتاب ألاَّ يقدرون على شيء من فضل الله، أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وقد قامت قائمتهم، وثارت ثائرتهم حين بعث المصطفى الحبيب -صلى الله عليه وسلم-؛ حسداً من عند أنفسهم، وكانوا يؤملون بهذا الفضل أن يكون لهم، لكن حكمة الله وإرادته قضت بأن يكون هذا الفضل لغيرهم ..
الحمد لله مُصَرِّف الأيام والدهور، ومدبر الأحوال والأمور، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أحمده -سبحانه- الغفور الشكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالهدى والنور، صلى الله عليه وآله وأصحابه المبرئين من البهتان والزور، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم النشور، وسلم تسليماً.
أما بعد: أيها الناس، (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:28-29].
إخوة الإيمان: لئلاَّ يعلم أهل الكتاب ألاَّ يقدرون على شيء من فضل الله، أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وقد قامت قائمتهم، وثارت ثائرتهم حين بعث المصطفى الحبيب -صلى الله عليه وسلم-؛ حسداً من عند أنفسهم، وكانوا يؤملون بهذا الفضل أن يكون لهم، لكن حكمة الله وإرادته قضت بأن يكون هذا الفضل لغيرهم، وهم أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ولقد مَنَّ الله -عز وجل- على عباده ببعثه هذا الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وأغاث الله به البشرية المتخبطة في ظلمات الشرك والجهل والخرافة، فكشف به الظلمة، وأذهب الغمة، وأصلح الأمة، وصار هو الإمام المطلق في الهدى لأول بني آدم وآخرهم، فهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غُلْفَاً، وكثر به من القلة، وأعز به بعد الذلة، وأغني به بعد العيلة.
لقد عرَّف الناسَ بربهم ومعبودهم، وهذا غاية ما يمكن أن تناله قواهم من المعرفة، ولم يدع لأمته حاجة في هذا التعريف، لا إلى من قبله، ولا إلى من بعده، بل كفاهم، وشفاهم، وأغناهم عن كل من تكلم في هذا الباب: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت:51]، فهو الرحمة المسداة، والنعمة المهداة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
فشرفُه عند الله عظيم، وهو محمودٌ عند الله، ومحمود عند ملائكته، ومحمود عند إخوانه المرسلين، ومحمود عند أهل الأرض كافَّة، وإن كفر به بعضهم، فصفاته محمودة عند كل ذي عقل وإن كابر وجحد، فَصَدق عليه وصفُه نفسَه -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، وأول من يشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع".
كان الصحابة -رضي الله عنهم- يجلُّونه ويعظمونه، ومحبتهم له فاقت كلَّ التصورات، كان إذا تكلم يغضون له إجلالاً، لا يرفعون أبصارهم إليه مهابة وإبجالاً، إذا تحدث كأن على رؤوسهم الطير، ولقد كان توقيرهم وإجلالهم له الشأن العظيم.
حدث عروة بن مسعود -رضي الله عنه- حين فاوض النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية، فلما رجع إلى قريش قال أي قوم: والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملِكاً قط يعظِّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً، والله، إن تنخَّم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً.
وقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يجب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً، وسأل أبو سفيان بن حرب وهو على الشرك حينذاك زيد بن دثنة -رضي الله عنه- حينما أخرجه أهل مكة من الحرم ليقتلوه، وقد كان أسيراً عندهم: أنشدك بالله يا زيد! أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وأنت في أهلك؟ قال: والله! ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه، تصيبه شوكة تؤذيه، وإنا جالس في أهلي.
وفي قصة المرأة الصابرة المحتسبة الأنصارية التي كان لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في قلبها الأثر الفاعل، وله في نفسها من التعظيم والتقدير ما لا يوصف، حدّث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم أحد حاصر أهل المدينة حيصة، قالوا: قتل محمد حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار متحزِّمة، فاستقبلت بابنها، وزوجها، وأخيها؛ أي: أخبرت بمقتلهم.
فلما مرت على أحدهم قال: مَن هذا؟ قالوا: أبوك، أخوك، زوجك، ابنك، تقول: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ يقولون: أمامك، حتى دُفعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذت بناحية ثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لا أبالي إذا سلمت من عطب، وفي رواية: قالت: كل مصيبة بعدك جَلَل ؛أي: يسيرة هينة.
فانظر -رعاك الله- إلى هذا التفاني في المحبة والتقدير والإجلال للحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وانظر كيف كانت مكانته في قلوبهم، فإيمانهم محبة، ودينهم محبة، وجهادهم محبة، ولقد امتثلوا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين".
ولقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: يا رسول الله: "لَأنت أحب إليّ مِن كل شيء إلا من نفسي"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا؛ والذي نفسي بيده! حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال له عمر: فإنه الآن! والله! لَأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الآن يا عمر". قال ابن حجر: الآن عرفتَ فنطقْتَ بما يجب.
إخوة الإيمان: لا يكون إيمان، ولا يكون تقرُّبٌ ورضا من الله إلا بمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- المحبة المقتضية للمتابعة والاتباع، يقول -سبحانه-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31].
فمحبته -صلى الله عليه وسلم- تقتضي اتباعه، والتمسك بسنته، واتباع هديه، والدفاع عنه، والذود عن جنابه، فنفوس المؤمنين لا بد أن تكون على جانب من التوقير والتعظيم لشخصه -صلى الله عليه وسلم-، تبذل المهج والغالي والنفيس إلى تحقيق ذلك؛ لأن محبته -صلى الله عليه وسلم- عبودية لله، وتقرب إليه؛ ولهذ كان المؤمنون فداءً له في كلِّ موقف وحدث، من بعثته -صلى الله عليه وسلم- إلى يوم القيامة.
عباد الله.. إخوة الإيمان: لقد حز في النفوس، وعظم الخطب، عندما تناقلت الصحف ووسائل الإعلام ما نعق به كلاب البشر وخنازير الدنمارك من التطاول والتنقُّص من شخصية الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، شُلَّت أيديهم! ولُعِنوا بما قالوا وكتبوا! إنْ في صدورهم إلا كبرٌ ما هم ببالغيه.
لقد رسمت أقلامهم الشريرة، ونفثت سمومهم الخبيثة، وتطاولت عقولهم الماكرة، وقلوبهم المطويَّة على الحسد والكيد على جناب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ...) [آل عمران:118].
إن مواجهة مثل هؤلاء تقتضي الحزْم والعزم على إلقامهم الحجارة، ومواجهة خبثهم بكشف زيغهم وضلالهم، فلا بدَّ من الأقلام أن تكتب، ولا بد من الهيئات أن تستنكر، ولا بدَّ أن يلقن هؤلاء ومن حذا حذوهم درساً في المقاطعة والتعامل، وأن يحس المؤمن أنه في عراك فكري مع جلاوزة الكفر، وأصحاب القردة والخنازير، فنسأل الله -سبحانه- أن يدمر عليهم، وأن يرعبهم في مآمنهم، وأن تشل أيديهم، وأن يحل عليهم غضب الجبَّار في ديارهم. (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) [الأحزاب:57].
وفقني الله وإياكم إلى هدي كتابه، وسلك بنا طريق أحبابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.