البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | منديل بن محمد آل قناعي الفقيه |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
زيارة إلى مستشفى الأمل لنقل صور حية، وقصص مثيرة، ومواقف مدهشة، ترجمتْها تجارب أناس عاشوا سنين طويلة في عالم المجهول؛ لكي نأخذ منها العظة والعبرة، ولكي نستفيد من تجارب الآخرين. المخدرات التي زعموا أنها تنسي المشاكل وتزيل الهموم والغموم، فكادت أن تدمرهم وتقضي عليهم؛ ولكن أدركهم الله برحمته، وسطع نور الأمل في حياتهم من جديد بفضله سبحانه، ثم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي وفق من أراد لطاعته ورضاه، ووعد من أطاع أمره بجنته يوم لقاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في إلهيته وربوبيته جل في علاه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد: فاتقوا الله عباد الله حق تقواه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها المسلمون: زيارة إلى مستشفى الأمل لنقل صور حية، وقصص مثيرة، ومواقف مدهشة، ترجمتها تجارب أناس عاشوا سنين طويلة في عالم المجهول؛ لكي نأخذ منها العظة والعبرة، ولكي نستفيد من تجارب الآخرين.
وليس الهدف من ورائها السرد والتشويق والإثارة؛ إنها قصص أبطال عاشوا مسلسل موت يومي مع جحيم المخدرات التي عاقروها بحجة البحث عن السعادة الموهومة.
المخدرات التي زعموا أنها تنسي المشاكل وتزيل الهموم والغموم، فكادت أن تدمرهم وتقضي عليهم؛ ولكن أدركهم الله برحمته، وسطع نور الأمل في حياتهم من جديد بفضله سبحانه، ثم بالتعاون الجدّي المثمر بين مستشفى الأمل وجمعية تحفيظ القرآن من خلال حلقات القرآن الكريم والتي بدورها منحتهم السعادة الحقيقية، وأغنتهم عن سعادة المخدرات التي كانوا يشعرون بها لحظات يسيرة، لتكون مضاعفاتها عليهم سنين طويلة هَمَّا وضيقا وقلقا وحيرة.
لقد أدركوا أن المخدرات لم تكن صديقا مخلصا وفيا، وهذا ما رواه لسان أربعة من نزلاء مستشفى الأمل منَّ الله عليهم بالشفاء بعد سنوات طويلة نسوا خلالها أنهم أناس؛ بل نسوا حتى وجودهم أحياء على هذه الأرض!.
وأدع المجال لهم ليسردوا لنا حكايتهم مع الإدمان، كما جاء ذلك في مجلة الدعوة، العدد رقم ستين ومائتين وألفين، الصادر في السابع من شوال سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة هجرية.
يقول الأول، وقد رمز لاسمه بــــــِ ح ح ن: كنت إنسانا سويا ليس لي هم في حياتي إلا سعادة أسرتي وإعالتها وتوفير عيش رغيد لهم، وإنجاز عملي على أكمل وجه والاهتمام به، والحمد لله، صعدت سلم النجاح درجة تلو الأخرى.
ولكني في النهاية غيرت هذا السلم الذي أرتقي به واستبدلته بسلم السقوط الذي لا يحتاج إلى صعود، وإنما التفوق فيه بالنزول، وهذا السلم هو هدية معرفتي بعدد من الزملاء السيئين في العمل والذين لم أر الخير والسعادة والراحة منذ عرفتهم.
فقصتي بدأت بمشاركتهم في جلساتهم المشبوهة التي لا تخلو من الألوان، وبالطبع ليست ألوان الطيف البراقة أو ألوان قوس قزح التي تدخل البهجة والسرور وتنبئ بحلول خير، وإنما هي ألوان الظلام، ألوان الرماد من حبوب ومسكرات وحشيش، والطريف أنني لم أكن حين رأيت هذا المنظر للمرة الأولى أدخّن، ولكني استجبت لهم وبدأت أتعاطى الحبوب، ثم جاء دور الحشيش الذي تمكن مني فأدمنته، فتخيل أنني وصلت إلى مراحل متأخرة قبل أن أمر بالمرحلة الأولى وهي السيجارة!.
وعلى هذا الحال توالت الأيام والتي لا يختلف بعضها عن بعض، فأيام المدمن يشبه بعضها بعضا، ولا فرق عنده بين أيام العمل والعطلة، فكل الأيام عطلة، إما بعدم الذهاب للعمل وإما بالتأخر الدائم عن أوقات العمل الرسمية، أو بعدم إنجازي لعملي كما يجب طبعا.
تغيب ملحوظ لم يغب عن مسؤولي وزملائي في العمل الذين بدؤوا يرتابون من تصرفاتي؛ بل حتى في شكلي الذي بدأ في التغير، فبعد أن كنت أتمتع بصحة جيدة رحت أفقد ما يقارب 2 كيلو من وزني في الأسبوع الواحد، وبدأت عيناي يحيط بهما السواد، وبدأت شفتاي تسودَّان تدريجيا، وبدأت أفقد التركيز في كثير من الأمور.
ولكن؛ بعد توالي الإنذارات والخصومات التي لم تؤت ثمارها استدعى مسؤولي المباشر في العمل خالي وأخبره بتصرفاتي الغريبة وأدائي الوظيفي السيئ، واتفق معه على إجباري بزيارة مستشفى الأمل لأداء التحاليل والفحوصات الطبية اللازمة ليقطعوا الشك باليقين.
وخالي لم يقصر في هذا لشعوره بتغير حالي، الأمر الذي يستدعي تدخلا سريعا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تضرب الأخماس ولا يصبح للندم والعتاب مكان، فدخلت المستشفى مجبرا.
وبعد التحاليل ظهرت النتيجة إيجابية، فقد ظهرت آثار المخدرات في دمي، ولم يعد بعد هذا لي حق تقرير المصير، بل في يد رئيسي في العمل الذي كنت أمقته وأكرهه، وذلك لجهلي الكبير؛ وأما الآن فأدعو له بالتوفيق، وأسأل الله أن يجنبه كل مكروه؛ وذلك لاهتمامه الدائم والمستمر بي حتى هذه اللحظة.
وأما عن قصته مع القرآن فيقول: عندما كنت في القسم رأيت أناسا يحفظون القرآن ويتدارسونه، ولم تكن لدي الرغبة في الانضمام إلى الحلقات لعدم وجود القناعة بذلك، ولكن في النهاية قلت لنفسي: لقد تبعتِ أناسا كثيرين في الشر فلماذا لا تتبعي هؤلاء في طريق الخير؟.
وبالفعل، انضممت مباشرة إلى الحلقات، ولله الحمد والمنة أحفظ الآن جزءا من القرآن، وبرغم قلة ما حفظت إلا أن هذا الجزء يعد سياجا منيعا يقف بيني وبين المخدرات، حاجزا يمنع الانتكاسة ومن ثم العودة إلى طريق المهالك.
نعم؛ إن القرآن هو الحل، أين كنت أنا في الماضي؟ وأين أنا الآن؟ كم من الألم سببته لأسرتي ولمن يحبني! ألا يستحق هؤلاء مني -على أقل تقدير- أن أحفظ نفسي وأعود إليهم سالما معافى؟.
لقد آذيتهم كثيرا، خصوصا والدتي التي حرمتها الراحة والاستقرار، ولكن لم يخيب الله ظنها فاستجاب لدعائها، فأنا اليوم أعاهد الله أن لا أعود إلى المخدرات مهما كانت المغريات.
وإني -والله!- لأشعر بالامتنان لكل من وقف بجانبي، ولكل من ساعدني لأميز بين الخير والشر، وكل من مد لي يد العون، وكل من أحبني وترجم ذلك بوقوفه معي حتى أعود كما كنت بل أفضل، وعلى رأسهم تلك الحلقات التي تعلمنا فيها كتاب الله، وأصبحنا نحس أنها جزء أساسي في حياتنا، فقد أنستنا همومنا ومشاكلنا وأحزاننا.
ويقول الثاني وقد رمز لاسمه بــ م ص ب، وعمره واحد وأربعون عاما عن قصته التي انتهت بحفظه للقرآن: كانت البداية أيام المراهقة، فبعد أن بلغت أربع عشرة سنة اختلطتُ بمجموعة من الشبان في الحي غالبيتهم يكبرونني سنا، وكلهم مدخنون، وأنا الوحيد الذي لا يدخن، إلا أني وجدت نفسي هدفا رئيسا لهم، فقد كانوا دائما يشجعونني ويحرضونني لكي أصبح مدخنا.
فالدخان -كما يزعمون- من علامات الرجولة وقوة الشخصية، وغير المدخنين هم من النواعم والمدللين ضعيفي الإرادة والشخصية وعديمي الرأي، الخاضعين لسيطرة والديهم.
وبصراحة، اقتنعت بالكلام، وفقدت السيطرة على مقاومة التدخين، وشل تفكيري تماما.
وفي وسط هذه الأجواء والضغط المستمر والمتواصل وغياب دور الأهل التوعوي في هذا السن المتهور، استجبت لرغباتهم، وبدأت أسلك أول طرق الإدمان.
ولكن؛ لكل طريق مراحل ونهاية، فقد أصبحت السيجارة للصغار فقط، فبدأ الطريق الوعر يتوسع شيئا فشيئا، وأخذتِ الحالُ تتدهور درجات فدرجات.
ففي أحد الأيام في إحدى سهرات الخميس جاء أحد الشبان يحمل شيئا غريبا لم أكن قد رأيته من قبل، ويشبه السيجارة إلى حد كبير، فلم يجعلني أتخوف من تعاطيه، وكان المفعول مختلفا، والنتيجة أسوأ، إنه الحشيش الذي كنت أسمع عنه ولم أره من قبل، ولم أتصور أنه سيشاركني أيامي القادمة.
وإن كان هناك ما يقلقني من تعاطيه فوسط المزاعم التي أحاطت بي التي كان وراءها نفس المجموعة السيئة زال القلق، حيث بدؤوا يصورون لي أنه ينسي الإنسان همومه ويجعله فرحا دائما، وأنه يريح الدماغ من التفكير في أعباء الحياة ومشاكلها.
وهنا كانت نقطة الضعف، فمن منا ليست لديه هموم ومشاكل؟ وأنا حينها كنت مثقلا -بل مقيدا- بالمشاكل الأسرية، وواقعا في الديون والالتزامات المادية، فقلت في نفسي: ما الفرق بين التدخين والحشيش؟ كلاهما سيان، ومَن بدأ الطريق فلا بد أن يكمله، وهذه المادة الجديدة غير مضرة، فأصدقائي -بلا استثناء- يتعاطونها، وأبناء حيي منذ زمن يدمنونها، فلِمَ لا أجرّبها؟ فإن أعجبتني أضمها إلى جدول إدماني، وإن لم تكن كذلك تركتها بلا عودة.
وهكذا كانت وساوس الشيطان تزين لي، فرُحتُ أتعاطى الحشيش ظنا مني أني سأتوقف عند هذا الحد، ولكن هيهات! ما زال هناك الكثير والكثير!.
وكنت أتساءل دائما: ما هي الخطوة القادمة؟ فقد مللت من الدخان والحشيش! أين القمة؟ نعم! قمة الانزلاق إلى الهاوية التي رأيت نفسي معتليها وهي الهيروين، فقد تعاطيت الهيروين ولم أخش مضاره وآثاره التي يتصدرها الموت، لماذا لم أفكر بالمضار والآثار والموت؟ وأين ذهب الخوف على الحياة؟ ولكني أجد الخوف عند من لم يتعاط المخدرات بالأصل ومن لم يدخن حتى سيجارة، وأما من تدرج في سلم الإدمان فلم يعد هناك ما يخيفه.
وبعد أعوام عديدة من تعاطي المخدرات كان لا بد من صحوة، ولا بد للظلام أن ينجلي، ولا بد للفجر أن يبزغ، ولا بد للإنسان أن يعيد حساباته.
جاءت ساعة صفا وطمأنينة عندما التقيت يوما أحد أقربائي جزاه الله خير الجزاء عندما بدأ ينصحني ويحفزني لأذهب للعلاج، وذكرني بأن كل ما اقترفته في حق الله وحق نفسي يغفره الله لي ولا يبالي إن صدقت في توبتي وندمت على ما فعلته من معاصٍ وذنوب.
وفعلا، انطلقت إلى مستشفى الأمل، وهناك تم الاهتمام بي، لقد وجدت أسرتي؛ إنها أسرة القرآن! فقد انضممت إلى حلقات تحفيظ القرآن الكريم بالمستشفى، تلك الحلقات التي وجدت فيها إخوة لي يشاركونني العلاج! إنه العلاج الروحي الذي سبق العلاج الدوائي.
فبعد أن كنت أفكر في العودة إلى المخدرات تلاشت هذه الفكرة بعد حفظي للقرآن وحصولي على شهادة من الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة بتقدير جيد جدا، وهذا كله بعد فضل الله بسبب حلقات القرآن في المستشفى والتي يقوم عليها مشرفون أجلاء ومعلمون أكفاء لم يتوانوا لحظة في تقديم يد العون والمساعدة للنزلاء؛ بل إننا لم نكن نشعر بأننا مدمنون أو منبوذون من المجتمع.
وأما الثالث الذي رمز لاسمه بــــ م ع ع فقد سلك درب الهداية فحفظ خلال شهرين من التحاقه بحلقات تحفيظ القرآن ثلاثة أجزاء، وكم هو سعيد بهذا الخير الذي امتلأ به قلبه بعد صراع داخلي مرير كي يقضي على الإدمان إلى الأبد.
يقول عن قصته: إنها قصة طويلة عمرها اثنا عشر عاما بدأت عندما كنت في الصف الثالث المتوسط، وتحديدا عندما بلغت خمس عشرة سنة.
ولكنها ليست كباقي القصص التي أبطالها دائما ما يكونون رفقاء السوء، ولكن قصتي تكمن مفاجأتها بأن بطلها هو عمّي الذي كان يبيع الخمور وكان يطلب مني ترويجها، ومن هنا بدأت شرارة دخولي عالم الإدمان، وهكذا مرت الأيام تلتها الأيام وأنا أروج لعمّي الخمور ولكني لا أتذوقها.
ثم إنني حدثتُ نفسي يوما: لماذا لا أشرب من هذه الزجاجات؟ ما الذي يضرني لو جربت؟ ولن يعلم بذلك أحد.
هذه الفكرة الشيطانية لم يمض على ولادتها ثوان حتى بدأت بتنفيذها، وعندما عدت إلى منزلي عرف والدي الحقيقة التي لم يرد أن يصدقها في يوم من الأيام فضربني وزجرني، ولم أنتهِ، وبقيت على هذا الحال فترة طويلة حتى استسلم والدي في نهاية المطاف للأمر الواقع؛ لأنه كان يشكو من الأعباء المادية، وأنا بعملي مع عمّي كنت مصدر دخل للمنزل، فماذا عساه أن يفعل؟.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) [طه:124-128].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعا بهدي خير المرسلين.
وللحديث بقية في الخطبة الثانية إن شاء الله.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: وأما الشخص الرابع والذي بلغ من العمر ثمانية وأربعين عاما ورمز لاسمه بـــِ و و ع، وقد دامت قصته مع الإدمان أربعا وثلاثين سنة.
لقد استمر مدة طويلة يتخبط فيها ضائعا ضياعا لم تغيره ظروف الحياة ولا مصائبها، ولم تغيرها أسرة ولا زوجة، ولكن مع الأبناء قد تتغير المعادلة ويصبح هناك أمل.
ولندع له المجال ليتحدث عن رحلته مع الإدمان، يقول: بدأت رحلة الإدمان في سن مبكر وتحديدا حين كان عمري ثلاثة عشر عاما، بدأت قصتي من الحارة وأول خطواتها تجربة بريئة بل جريئة، إنها شرب العطور "الكولونيا"، وذلك كان أول الغيث إن جاز التعبير، فلم أكن أستطيع التمييز بين الخطأ والصواب، وكنت بعيدا عن رقابة الأهل والذين كانوا بدورهم لاهين ومشغولين بمتطلبات الحياة وأعبائها.
ومع مرور السنين تطورت القضية وغيرت أصدقائي، لا لأقلع عن الإدمان وأتوب ولكن للتجديد والتنويع، فشرب "الكولونيا" كان في الماضي، وأما الآن فحشيش وخمر وحبوب بأنواعها وأسماء غريبة ما أنزل الله بها من سلطان.
لقد كنا نتعاطى أشياء أقسم بأننا لا نعرف حتى ما هي! ولكن كان هذا هو الحال، نريد فقط أن ننسى الهموم والمشاكل!.
وأما عن عودته وتوبته فيقول: بعد أربعة وثلاثين عاما من الظلام كان لا بد لستار الظلام والإدمان أن ينجلي، ولكن كان وراء توبتي وهدايتي سببان.
السبب الأول قصة كانت مؤلمة في وقتها وكان لها أثر كبير في تغيير حياتي، وهي أنني في أحد الأيام وبعد أن استيقظت من النوم بعد ليلة طويلة كنت أحتسي فيها الكحول زارني أحد الأشخاص الذين أعرفهم واعتذر لعدم حضوره حفل الزفاف، فقلت: أي زفاف؟ فقال لي يا رجل، أنا أعتذر فسامحني لعدم تلبية الدعوة، ولكن؛ وبعد أن أصررت على موقفي بأني لا أعرف عن ماذا يتحدث أخبرني أنه كان بالأمس حفل زفاف ابني، ومضى ضاحكا وهو يقول: معقول! نسيت حفل زفاف ابنك بهذه السرعة!.
أما أنا فحالي قد كان مختلفا، فقد بقيت ثابتا في مكاني دون أي حراك باستثناء رأسي الذي امتلأ بالتساؤلات، كيف تزوج ابني ومتى؟ ولماذا لم أحضر؟ بل لماذا لم يدعوني؟ واتصلت بزوجتي فأكدت لي خبر الزواج وأخبرتني أن ابني لم يدعوني لأنه يستحي أن أظهر بشكل غير لائق أمام الضيوف.
وهنا بدأت أراجع الحسابات وأفكر فيما وصلت إليه، ولكني عدت إلى ما كنت عليه من الإدمان من باب الاستكبار والتجريح لأسرتي، ولكن مع مرور الأيام بدأت حالتي الصحية في التدهور وأصبحت أفقد الوعي أحيانا.
بل إن هذا الإغماء كاد يودي بحياتي، ففي أحد الليالي وأثناء قيادتي لسيارتي تعرضت لحادث مريع كاد يرديني قتيلا، ولكن عناية الله حفظتني، وبعدها عاهدت الله أن لا أعود إلى المخدرات، [وكان هذا هو السبب الثاني].
إلى متى وأنا على هذا الحال؟ متى سأستيقظ؟ لا بد من صحوة! لا بد من علاج! إن الله قد نجاني من الموت مرات عديدة، فالمخدرات مسلسل موت يومي.
ووسط هذه التساؤلات جاء ابني وعانقني وعيناه ممتلئتان بالدموع وقال: لقد حان الوقت يا أبي، حان وقت العلاج، إننا نريدك ونحبك وأرجو أن تغفر لي عدم دعوتي لك إلى حفل زواجي.
فمضيت معه منطلقين إلى مستشفى الأمل لأبحث عن العلاج، وهناك وجدت علاجا يفوق توقعاتي، ففي الماضي كان علاجي النسيان، كنت أتعاطى المخدرات لأنسى، لم أكن أعرف السر الذي يشفي من الأمراض! كل الأمراض الروحية والجسدية، دواء ليس له نظير ويشفي إلى الأبد، ولن تأخذ بعده دواء، ولن يزورك بعده يوما مرض، فهو مضمون مائة في المائة! إنه القرآن الكريم!.
إنه القرآن! فبعد أن انضممت إلى الحلقات وجدت الراحة الدائمة التي انحرمت منها طيلة عمري، فحفظت عشرة أجزاء الآن، وأسأل الله العون على حفظه كاملا، وأتمنى أن يتضاعف عدد الحلقات، ففيها خير كثير، ونحن بحاجة ماسة إلى الحلقات التي تنير لنا عقولنا التي كانت ممتلئة بملفات الإدمان، وأنا أؤكد أنه لم يدخل المستشفى مدمن يحفظ القرآن!.
أيها المسلمون: هذه قصص الأربعة، وهذه تجاربهم، فما الذي نستفيده نحن منها ونحن نسمعها؟ اسمحوا لي أن أشير إلى أهم الدروس والعبر منها.
أولاً: بذور الخير موجودة في جميع الناس مهما رأينا فيهم من البعد عن الله، ومهما صدر منهم من فسوق وعصيان، فلا يأس من صلاحهم، ولا قنوط من هدايتهم، فعلى الدعاة والمصلحين ألا يغفلوا عن ذلك في دعوتهم للعصاة والمذنبين.
ثانياً: السعادة مطلب كل الناس حتى ولو أخطؤوا طريقها، ولن يجدوها إلا في رحاب الله وهدي القرآن.
رابعا: احذروا قرناء السوء، فهم دعاة على أبواب جهنم، لا كثّرهم الله، فأثرهم خطير وجرمهم، كبير فالحذر الحذر منهم! وخصوصا أنتم أيها الشباب.
رابعا: أول النار شرارة وبداية المخدرات سيجارة في الغالب كما يتحدث أكثر المتورطين في جحيم المخدرات، وصدق من قال: ومعظم النار من مستصغر الشرر.
خامساً: للأسرة دور كبير في صلاح الأبناء وتوعيتهم بما ينفعهم وبيان ما يضرهم والعكس صحيح، فلهم أيضا دور كبير في فسادهم وانحرافهم إذا ضيعوا واجبهم وتناسوا مسؤوليتهم تجاه من ولاهم الله أمرهم، و"كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول".
سادسا: في القرآن حياة القلوب، وبه سعادة الدنيا والآخرة، وصدق الله: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16].
أيها الآباء: أرسلوا أبناءكم إلى الحلقات القرآنية لتزيد حلقات القرآن في مساجدنا، بل حتى في السجون ومستشفيان الأمل، وليحرص معلموها على زيادة الإيمان وصلاح القلوب قبل حفظ القرآن.
سابعا: على الدعاة والمصلحين أن يذهبوا إلى الناس في أماكن تجمعاتهم ليدلوهم على سر سعادتهم وأنس قلوبهم، وذلك بطاعة ربهم وصلاح قلوبهم، وعلى مكاتب الدعوة أن تكثر من برامجها التي تستهدف بها الشباب في أماكن تجمعاتهم ومجالس سهراتهم وسمرهم.
ثامنا: باب التوبة باب مفتوح غير مغلق في وجه أحد مهما كان جرمه ومهما عظم ذنبه، فلا يأس من رحمة الله، كيف وقد قال -سبحانه-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].