المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | عبد الملك بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
اغتنموا -رحمكم الله- صحبة أهل الدين والرأي والمروءات، الذين ينزهزن نفوسهم عن النقائص والدنيات؛ فإن الأخلاق تتربى بأقوالهم وأفعالهم، وإن الكمال ينمو بالإِقتداء بهم في محاسن أعمالهم؛ فإن لم تجدوا من استوعب صفات الكمال، فعليكم بالأمثل فالأمثل من الرجال؛ فإن القرين الصالح يعلمك إذا جهلت، ويذكرك مصالحك إذا نسيت، ويسليك إذا أصابتك المصائب، ويقويك ويثبتك عند المخاوف والنوائب، ويحضك على...
الخطبة الأولى
الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، رب السموات ورب الأرض رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، حمى حمى التوحيد، وسدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك، وبلغ البلاغ المبين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الغرِّ الميامين، آمنوا بربهم وأخلصوا له واستقاموا على أمره، فأنجز لهم ما وعدهم عزًا في الدنيا وحسن ثواب في الآخرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-؛ ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغد، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون.
أيها المسلمون: لم يخلق الله الخلق ليتقوى بهم من ضعف، ولا ليتعزز بهم من ذلة، ولا ليستكثر بهم من قلة، فهو المنُعم المتفضل، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، خلقهم لعبادته وطاعته، ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.
قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 56 – 58].
وقام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأداء الأمانة، وإبلاغ الرسالة، دعوة وجهادًا، وتعليمًا ونصحًا؛ حتى تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
ثم قام بهذه الدعوة الصحابة الأبرار ومن تبعهم من الأخيار إلى يوم الدين.
قال ابن القيم: فالدعوة إلى الله -تعالى- هي وظيفة المرسلين وأتباعهم.
وقال رحمه الله: إن أفضل منازل الخلق عند الله منزلة الرسالة والنبوة، فالله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس.
والداعي إلى الله ليس عليه إلا البلاغ وهداية الطريق؛ أما هداية التوفيق فهي بيد الله - عز وجل-.
قال -تعالى- في محكم التنزيل: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)[القصص: 56].
الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، والمنفي هنا؛ هداية التوفيق والإِلهام وهو خلق الهدى في القلب وإيثاره، وذلك لله وحده، وهو القادر عليه؛ كقوله: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) [البقرة: 272]، وقوله تعالى: (وَاللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) [البقرة: 142].
وأما هداية البيان والإرشاد: وهي دلالة العباد إلى دين الله وشرعه، فهي للرسول صلى الله عليه وسلم وللدعاة من بعده قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52].
فهو المبين عن الله، والدال على دينه وشرعه، وفي هذا رد على عُبَّاد القبور، الذين يعتقدون في الأنبياء والصالحين النفع والضر، فيسألونهم من أنواع المطالب الدنيوية والأخروية.
قال تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء).
وسبب نزول هذه الآية موت أبي طالب، وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد حرص على هدايته عند موته، فلم يتيسر له ذلك، ودعا له بعد موته، ونُهي عن ذلك، وذكر الله أنه لا يقدر على هداية من أحب هدايته لقرابته ونصرته، تَبَيَّنَ أعظم بيان، ووضح أوضح برهان؛ أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك ضرًا ولا نفعًا، ولا عطاء ولا منعًا، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يقدر إلا على ما أقدره الله عليه، وأن الأمر كله بيد الله، فبطلت عبادته من دون الله، وإذا بطلت عبادته وهو أشرف الخلق فعبادة غيره أولى بالبطلان.
وفي الصحيح عن ابن المسيب، عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: "يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله". فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)[التوبة: 113].
فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على هداية عمه، وذلك لقرابته ولأنه كان يحوطه ويحميه من أذى قومه، ويصبر على ما يلاقي في سبيل ذلك، واعترف في كثير من أشعاره بصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قوله:
ولقد علمت بأنَّ دين محمد | من خير أديان البرية دينًا |
إلا أنَّه لم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم وبقى على دينه خشية الملامة والمسبة من قومه، فمن حرصه صلى الله عليه وسلم على هدايته: عيادته له وهو في سياق الموت، وعرض الإِسلام عليه ليكون خاتمة حياته فيحصل له بذلك الفوز والسعادة، وفي هذا جواز عيادة المريض المشرك إذا رُجي إسلامه.
عباد الله: في هذه الواقعة عظة وعبرة في متابعة رفقاء السوء، وأنه يجب
الحذر منهم، فقد كان عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل سببًا لصد أبي طالب
عـن الحق، وعن هذا الدين العظيم الذي فيه السعادة الأبدية، وفي هذا ضرر أصحاب السوء على الإِنسان صغيرًا كان أم كبيرًا، فينبغي الحذر من قربهم والاستماع إليهم.
ومضرة أصحاب السوء ليست خاصة بالشرك؛ بل في جميع سلوك الإِنسان؛ وذلك لما للصاحب من أثر كبير على صاحبه في سلوك طريق الخير أو الشر، قال صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" [رواه أبو داود].
أيها المسلمون: لمَّا عرض النبي صلى الله عليه وسلم على عمّه أبي طالب كلمة التوحيد لا إله إلا الله؛ أي لا معبود بحق إلا الله، علم أبو جهل ومن معه أنَّ مراده صلى الله عليه وسلم من هذه الكلمة نفي الشرك وإخلاص العبادة لله وحده، فلو قالها أبو طالب لبرئ من ملة عبد المطلب - وهي الشرك - فلذلك منعوه من قولها، بخلاف من يدَّعون العلم ويجهلون معناها، فيحكمون على كل من تلفظ بها بأنَّه مسلم، ولو كان يعبد الأنبياء والصالحين، ويتقرب إليهم بالدعاء والذبح والطواف حول قبورهم، فعجبًا لمنْ أبو جهل أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله؟!
وهذا الحديث يقطع وسائل الشرك بالرسول وغيره، فالذين يلجؤون إليه صلى الله عليه وسلم ويستنجدون به مشركون، فلا ينفعهم ذلك، لأنه لم يؤذن له أن يستغفر لعمه مع أنه قام معه قيامًا عظيمًا، ناصره وآزره في دعوته، فكيف بغيره ممن يشركون بالله؟!
وتأملوا -عباد الله- مضرة تقليد الآباء والكبراء على ضلالتهم؛ فحينما عرض صلى الله عليه وسلم على عمه كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ليشهد له بها عند الله عرض المشركون عليه أن يبقى على دين آبائه الذي هو الشرك، وأعاد صلى الله عليه وسلم طلب التلفظ بالشهادة من عمه، وأعاد المشركون المعارضة: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلقنوه الحجة التي يحتج بها المشركون على الرسل، وهي تقليد الآباء والأجداد: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) [الزخرف: 23] وكان آخر ما قاله أبو طالب: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: (لا إله إلا الله) فمات على الشرك ومتابعة الآباء لما لله في ذلك من الحكمة، وليُعلم أن هذا الدين لا ينال بالنسب والقرابة وإنَّما يحصل بالتقوى، وأفادت القصة أنَّ الأعمال بالخواتيم.
ولما مات أبو طالب على الشرك حلف النبي صلى الله عليه وسلم ليطلبن له من الله المغفرة ما لم يُمنع من ذلك، فأنزل الله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى) وإذا حرم الاستغفار لهم فمحبتهم أولى بالتحريم.
أيها المسلمون: رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق وأعظمهم عند الله جاهًا، وأقربهم إليه وسيلة؛ لكنه مع هذه المنزلة الرفيعة والمكانة العالية لا يدفع المضار ولا يجلب المنافع، ولا يملك هداية أحد من الناس، ولو كان يملكها لكان أحق الناس بذلك عمّه أبا طالب الذي كان يحوطه ويحميه، ولكنه مات على الشرك ففي قصته عبرة لمن اعتبر، ودرس لمن تأمل.
فالله - سبحانه - هو الذي تُطلب منه الحاجات ويتوجه إليه في كشف الكربات، وقد تفرد بهداية القلوب، كما تفرد بخلق المخلوقات؛ ومن طلب ذلك من غيره - سبحانه - وقع في الشرك الأكبر.
فالواجب على العبد أن يهرع إلى ربه ويسأله الهداية، ويسعى إليها بفعل الواجبات وترك المحرمات وتدبر كتاب الله ومجالسة الصالحين، ومن كان كذلك أعانه الله ويسر له أسباب الهداية، كما قال - تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت: 69].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، أحمده
- سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، حَمَى حِمَى التوحيد وسدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك، فأظهر الله به دينه على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: يحتاج الإِنسان في هذه الدنيا إلى رفيق يؤانسه، وصاحب يعينه، وصديق يُسِّر إليه؛ وعلى المسلم أن يختار من الإِخوان أتقاهم، ومن الأصحاب والقرناء أحسنهم وأعلاهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" [رواه أبو داود].
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير: فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه رائحة طيبة؛ ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا منتنة" [متفق عليه].
ألا وإن أفضل المكاسب وأجل الفوائد اكتساب القرناء الأخيار، وإن من أعظم المصائب وأرذل المعائب مصاحبة الأراذل والأشرار.
ألا وإن المرء يعتبر ويقاس بجليسه، ويكون صلاحه وفساده وكماله ونقصه بحسب قرينه وأنيسه..
فاغتنموا -رحمكم الله- صحبة أهل الدين والرأي والمروءات، الذين ينزهزن نفوسهم عن النقائص والدنيات؛ فإن الأخلاق تتربى بأقوالهم وأفعالهم، وإن الكمال ينمو بالإِقتداء بهم في محاسن أعمالهم؛ فإن لم تجدوا من استوعب صفات الكمال، فعليكم بالأمثل فالأمثل من الرجال؛ فإن القرين الصالح يعلمك إذا جهلت، ويذكرك مصالحك إذا نسيت، ويسليك إذا أصابتك المصائب، ويقويك ويثبتك عند المخاوف والنوائب، ويحضك على الخير بحسب قدرته واستطاعته، ويأمرك بامتثال أمر الله وطاعته، ويحثك على برِّ الوالدين وصلة الأرحام، وعلى الإِحسان إلى جارك والشفقة على الفقراء والمساكين والأيتام، ويبدي لك النصح في جميع الأمور ويهديك الرشاد، ويدلك بأقواله وأفعاله وأخلاقه على طرق الصلاح ويذودك عن الفساد، ويحفظك في حضرتكم ومغيبك، ويدعو لك في حياتك وبعد دفنك وتغييبك، ففي مقارنة هؤلاء فليتنافس المتنافسون، ولفوائد صحبتهم وثمرات أخلاقهم فليجتن العاملون.
ألا وإن القرين السوء فساد للدين، والأخلاق والآداب، وفي صحبته الخسارة والنقص والتباب، يزهد قرينه في كل خلق جميل، ويدعوه إلى كل خلق ذليل، إن رآك مريدًا للخير ثبطك ونهاك، وإن عرض لك سوء ساعده عليك وأرداك، وإن نهضت إلى خير ومكرمة أقعدك، وإن بعدت عن شر حولك إليه وقربك، فأنت منه في كل وقت في انحطاط وهوان، وآمالك إلى الضر والشر والخسران.
هذا وصلوا على من أمركم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل عليمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].