الجميل
كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...
العربية
المؤلف | محمد بن صالح بن عثيمين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المعاملات |
وإن الحيلة على محارم الله تعالى خداع ومكر، إنها خداع ومكر يخادع بها العبد ربه، يخادع بها من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أفيظن هذا المخادع الذي لاذ بخديعته أن أمره سيخفى على الله؟! أفلا يقرأ قول الله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة:235]. أليس في نيته وقرارة نفسه أنه يريد ما حرّم الله ولكن يكسوه بثوب من الخداع والمكر لا ينطلي إلا على مثله ممن جعل...
الخطبة الأولى:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واحذروا أسباب سخطه وعقابه، احذروا ما حذركم الله منه إن كنتم مؤمنين، واحذروا الربا فإنه من أسباب لعنة الله تعالى ومقته.
إن الربا من أكبر الكبائر التي حذر الله تعالى منها في كتابه، وحذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها في سنته وأجمع المسلمون على تحريمها، اسمعوا قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:278، 279]. اسمعوا قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران:130-132]. واسمعوا قول الله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة:275، 276].
اسمعوا هذه الآيات وافهموها وعوها ونفذوها، فإن لم تفهموها فاسألوا أهل اذكر إن كنتم لا تعلمون، أو طالعوا ما قاله المفسرون فيها إن كنتم تقدرون، لقد قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في تفسير الآية الثالثة: "ذكر الظالمين أهل الربا والمعاملات الخبيثة، وأخبر أنهم يجازون بحسب أعمالهم، فكما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين عوقبوا في البرزخ والقيامة بأنهم لا يقومون من قبورهم أو يوم بعثهم ونشورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، أي من الجنون والصرع". ولقد صدق -رحمه الله تعالى-؛ فإن المرابين كالمجانين لا يعون موعظة ولا يرعوون عن معصية. نسأل الله لنا ولهم الهداية.
أيها الناس: اسمعوا ما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: "هم سواء". رواه مسلم.
اسمعوا ما صح عنه من حديث سمرة بن جندب أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رأى في منامه نهرًا من دم فيه رجل قائم، وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رماه الرجل الذي على شط النهر بحجر في فمه فرده حيث كان، فجعل الرجل في نهر الدم كلما جاء ليخرج رماه الرجل الذي على شط النهر بحجر في فمه فيرجع كما كان، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذا الرجل الذي رآه في نهر الدم فقيل: هذا آكل الربا". رواه البخاري.
اسمعوا ما رواه أحمد من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى ليلة أسري به على قوم بطونهم كالبيوت، فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فقلت: "من هؤلاء يا جبريل؟!، قال: هؤلاء أكلة الربا".
واسمعوا ما جاء في الحديث: "الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه". رواه الحاكم وله شواهد.
أيها المسلمون: لقد بيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته الربا أين يكون وكيف يكون بيانًا شافيًا واضحًا إلا لمن به مرض أو عمى؛ لقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء". رواه مسلم.
فإذا اختلفت هذه الأصناف الستة إذا بيع الشيء منه بجنسه مثل أن يباع الذهب بالذهب فلا بد فيه من شرطين اثنين: أحدهما أن يتساويا في الوزن، والثاني: أن يتقابض الطرفان في مجلس العقد، فلا يتفرقا وفي ذمة أحدهما شيء للآخر، فلو باع شخص ذهبًا بذهب يزيد عليه وزنًا ولو زيادة يسيرة فهو ربا حرام، والبيع باطل. ولو باع ذهبًا بذهب مثله في الوزن ولكن تفرقا قبل القبض فهو ربا حرام، والبيع باطل.
وبيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الأصناف الستة إذا بيع أحدها بجنس آخر فلا بأس أن يكون أحدهما أكثر من الآخر، ولكن لا بد من التقابض من الطرفين في مجلس العقد؛ بحيث لا يتفرقان وفي ذمة أحدهما للآخر شيء. فلو باع ذهبًا بفضة وتفرقا قبل القبض فهو ربا حرام، والبيع باطل.
أيها الناس: لقد كان التعامل سابقًا بالذهب والفضة، وأصبح التعامل الآن بالأوراق النقدية بدلاً عنها، والبدل له حكم المبدل، فلا يجوز التفرق قبل القبض إذا أبدلت أوراقًا نقدية بجنسها أو بغير جنسها، فلو قلت لشخص: خذ هذه الورقة ذات المائة اصرفها لي بورقتين ذواتى خمسين فإنه يجب أن تسلم وتستلم قبل التفرق، فإن تأخّر القبض من الطرفين أو أحدهما فقد وقعا في الربا، ولقد صار من المعلوم عند الناس أنك لو أخذت من شخص مائة ريال من النقد الورقي بمائة وعشرة مؤجلة إلى سنة أو أقل أو أكثر لكان ذلك ربا، وهذا حق؛ فإن هذه المعاملة من الربا الجامع بين ربا الفضل وربا النسيئة بين الربا المقصود والذريعة.
ولكن من المؤسف أن كثيرًا من المسلمين صاروا يتحايلون على هذا الربا بأنواع من الحيل، والحيلة: أن يتوصل الشخص إلى الشيء المحرم بشيء ظاهرُه الحل، فيستحل محارم الله بأدنى الحيل.
وإن الحيلة على محارم الله تعالى خداع ومكر، إنها خداع ومكر يخادع بها العبد ربه، يخادع بها من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أفيظن هذا المخادع الذي لاذ بخديعته أن أمره سيخفى على الله؟! أفلا يقرأ قول الله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة:235]. أليس في نيته وقرارة نفسه أنه يريد ما حرّم الله ولكن يكسوه بثوب من الخداع والمكر لا ينطلي إلا على مثله ممن جعل الله على بصره غشاوة.
إن الحيل على الربا كثيرة، ولكن أكثرها شيوعًا أن يجيء الرجل لشخص فيقول له: إني أريد كذا وكذا من الدراهم، فهل لك أن تدينني العشر أحد عشر أو اثني عشر أو أقل أو أكثر حسب ما يتفقان عليه، ثم يذهب الطرفان إلى صاحب دكان عنده بضاعة مرصوصة معدة لتحليل الربا، قد يكون لها عدة سنوات، إما خام أو سكر أو أرز أو هيل أو غيرها مما يتفق عند صاحب الدكان، أظن أن لو وجدا عنده أكياس سماد يقضيان بها غرضهما لفعلا، فيشتريها الدائن من صاحب الدكان شراءً صوريًّا لا حقيقيًّا، أقول: شراءً صوريًّا لا حقيقيًّا؛ لأنه لم يقصد السلعة من الأصل، بل لو وجد أي سلعة يقضي بها غرضه لاشتراها، ثم هو لا يقلّب السلعة ولا يمحصها ولا يكاسر في الثمن، وربما كانت السلعة معيبة أفسدها طول الزمن أو أكلتها الأَرَضَةُ وهو لا يعلم، ثم بعد هذا الشراء الصوري يتصدى لقبضها الصوري أيضًا، فيعدها وهو بعيد عنها، وربما أدرج يده عليها تحقيقًا للقبض كما يقولون، ثم يبيعها على المدين بالربح الذي اتفقا عليه، ولا أدري هل يتصدى المدين لقبضها ذلك القبض الصوري قبل بيعها على صاحب الدكان!! فإذا اشتراها صاحب الدكان سلم للمدين الدراهم وخرج بها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "إبطال الحِيَل": "لقد بلغني أن من الباعة من أعد بزًّا لتحليل الربا، فإذا جاء الرجل إلى من يريد أن يأخذ منه ألفًا بألف ومائتين ذهب إلى ذلك المحلل، فاشترى منه المعطي ذلك البز ثم يعيده للآخذ، ثم يعيده الآخذ إلى صاحبه". وقال فيه أيضًا: "فيا سبحان الله العظيم!! أيعود الربا الذي قد عظّم الله شأنه في القرآن وأوجب محاربة مستحله ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وجاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في غيرها إلى أن يُستحل بأدنى سعي من غير كلفة أصلاً إلا بصورة عقد هي عبث ولعب!!".
وقد ذكر شيخ الإسلام هذه المسألة أيضًا في الفتاوى (جمْع ابن قاسم (29/441) وقال: هي من الربا الذي لا ريب فيه مع أن هذه الحيلة الربوية التي شاعت بين الناس تتضمن محاذير:
الأول: أنها خداع ومكر وتحايل على محارم الله، والحيلة لا تحلل الحرام، ولا تسقط الواجب، ولقد قال بعض السلف في أهل الحيل: "يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون".
المحذور الثاني: أنها توجب التمادي في الباطل؛ فإن هذا المتحيل يرى أن عمله صحيح، فيتمادى فيه، أما من أتى الأمر الصريح فإنه يشعر أنه وقع في هلكة، فيخجل ويستحي من ربه ويحاول أن ينزع من ذهبه ويتوب إلى ربه.
المحذور الثالث: أن السلعة تباع في محلها بدون قبض ولا نقل، وهذا معصية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن زيد بن ثابت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى أن تباع السلع حيث تبتاع -يعني في المكان الذي اشتريت فيه- حتى يحوزها التجار إلى رحالهم". رواه أبو داود والدارقطني. ويشهد له حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان الناس يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبيعوه حتى ينقلوه". رواه البخاري.
وقد يتعلل بعض الناس فيقول: إنَّ عَدَّ هذه الأكياس قبضٌ لها، فنقول: إذا قدرنا أنه قبض فهل هو نقل وحيازة؟! والنبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن بيع السلع حتى تحاز إلى الرحال"، ثم هل جاء في السنة أن مجرد العد قبض؟! إن القبض هو أن يكون الشيء في قبضتك، وذلك بحيازته إلى محلك، بالإضافة إلى عده أو كيله أو وزنه إن كان يحتاج إلى ذلك.
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى واحذروا التحايل على محارمه، واعدلوا عن المعاملات الحرام إلى المعاملات الحلال، إما بطريق الإحسان إلى المحتاجين بإقراضهم، وإما بالسلم الذي تسمونه الكتب، تعطونه دراهم بسلعة في ذمته يسلمها لكم وقت حلولها، وإما ببيع السلعة التي يحتاجها بعينها إذا كان يحتاج لسلعة معينة؛ كفلاح يحتاج لميكنة وهي عندك فتبيعها عليه بثمن مؤجل أكثر من ثمنها حاضرًا، وكشخص محتاج لسيارة فتبيعها عليه بثمن مؤجل أكثر من ثمنها حاضرًا.
والمعاملات البديلة عن تلك المعاملة المحرمة كثيرة، ومن أراد استيضاحها فليسأل عنها أهل العلم، وفقني الله وإياكم للهدى والتقى والعفاف والغنى، وحمانا مما يغضبه، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
لم ترد.