الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | عبد الملك البحري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
العبادة بلا خلق خسارة وهلاك وإفلاس، كالشجرة اليابسة لا ثمرة فيها ولا منفعة منها، تقطع فتكون حطبا للنار. قال -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: يا رسول الله، المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وقد شتم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل...
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: عباد الله، يعظم قدر العبادة في ديننا، ويعلو شأنها في كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-؛ فهي الغاية من الإيجاد، وهي الهدف من خلق العباد: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].
فما العبادة يا عباد الله؟ أهي الصلاة والصيام، والذكر على الدوام، والزكاة والحج إلى بيت الله الحرام؟ أو هي أوسع وأعظم من ذلك؟.
هل تشعرون -يا معاشر المسلمين- أن نفرا غير قليل من أهل الإسلام لا يفقهون معنى العبودية الحقة لله -تعالى- فيحصرونها في شعائر معدودة، وعبادات محصورة محدودة؟ فترى الرجل يصلي ويصوم ويزكي ويحج ثم يخيل إليه أنه قد بلغ في العبادة منتهى الكمال، أو أن إيمانه قد قارب إيمان جبريل وميكال، مع أنه سيء العشرة والأخلاق، دائم الخصومة والشقاق، عديم الرحمة والرأفة والاتفاق.
يقولون: ما أعبده وأتقاه! ركعات صلاها وعبادات أداها، وهم يرونه خارج المسجد في سوء خلق ومعاملة مع القريب والبعيد، مع الكبير والصغير، مع الذكر والأنثى، مع الجار والصديق.
فأين التقوى، أسألكم بالله؟ وأين العبودية -ناشدتكم الله- ممن هذا حاله؟ لأقسمن بأغلظ الأيمان وأحرجها في هذا المقام غير حانث -إن شاء الله- أنه لا تنفع عبدا صلاة ولا صيام ما دام هو سيء العشرة، سيء الخلق، سيء المعاملة، بذيء اللسان، فاحش المقال والفعال.
كما لا ينفع حسن خلق مع الناس من دون صلاة ولا عبادة، فلا عبادة بلا خلُق، ولا خلق بلا عبادة.
عباد الله: العبادة بلا خلق خسارة وهلاك وإفلاس، كالشجرة اليابسة لا ثمرة فيها ولا منفعة منها، تقطع فتكون حطبا للنار.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: يا رسول الله، المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وقد شتم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في النار".
أيها المسلمون: والخلُق بلا عبادة؛ نفاقاً ومجاملة ورياء وسمعة، يجعله الله هباء منثورا. كان حاتم الطائي آية في الكرم والجود والإحسان، إلى درجة أن الناس أنشدت في مدحه القصائد والأبيات؛ لكنه لم يوحد الله، ولم يسجد لرب الأرض والسموات؛ فماذا كانت العاقبة بعد ذلك الخلق الحسن والكرم المشهود العاقبة؟ يا عباد الله، إن حاتما الطائي أحد سكان جهنم يوم القيامة ولا كرامة!.
وكان عبد الله بن جدعان يطعم الناس طوال العام ويكرم حجاج بيت الله الحرام، فسألت عائشة -رضي الله عنها- النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه: هل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: "لا، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".
فيا عباد الله: لا بد من الأمرين جميعا، وإلا حلت الخسارة والبوار، لا بد من العبادة لله، ولا بد من حسن الخلق مع عباد الله، أمران متلازمان تلازم الظل وصاحبه؛ بل هما -والله!- شيء واحد؛ فالعبادة خلق، والخلق عبادة.
ولئن كنا في كثير من خطبنا نذكّر بأهمية العبادة من صلاة وصيام ونحوها وعظم شأنها، وهي كذلك والله، نريد أن نذكّر هنا بأهمية حسن المعاملة وطيب الأخلاق، وإلا؛ فلماذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"؟.
ذلك أن العبادة والخلق يدخل بعضهما في بعض، ويكونان بالمعنى العام اسمين لمسمى واحد؛ فلا فرق بين ركعات تصليها لله، أو معروف تقدمه لأحد عباد الله، فكلاهما عبادة من العبادات، وكلاهما خلق من الأخلاق.
قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وقد كان أهل المدينة لما سمعوا بخروجه من مكة يخرجون كل صباح لاستقباله -صلى الله عليه وسلم- حتى يقوم قائم الظهيرة ويشتد الهجير، فيرجعون.
فخرجوا ذات يوم ثم رجعوا كشأنهم في الأيام السابقة، فصعد يهودي على أطم من آطام المدينة، فرأى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر عليهما ثياب بيض، فصاح في أهل المدينة: هذا جدكم الذي تنتظرون! فخرجوا إليه ... وكان اليوم الذي لم تعرف المدينة قبله مثله، ولن ترى بعده مثله، يوم دخل الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- المدينة.
وصعد النساء والأطفال ينظرون إليه من شرفات بيوتهم ومن على السطوح، وكان هناك رجل من يهود بني قينقاع اسمه عبد الله بن سلام، ما إن سمع بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو في بستان له إلا وانطلق مسرعا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لينظره ويسمع منه.
فكان أول ما سمع عبد الله بن سلام من رسول الله، وهو موضع الشاهد من هذه القصة، فتأمل كلمات الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأولى في المدينة، كيف يبيّن العبادة والخلق ويعتبرهما شيئا واحدا، وطريقا واحدا لجنات النعيم، فيقول: "أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".
بل أحيانا تجد في القرآن تقديم حسن المعاملة والخلق على الركوع والسجود والعبادة، انظر إلى هذه الآية: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح:29].
ما أجملها من عبارة! وما أحسنه من خلق قُدم في الآية على الركوع والسجود! أشداء على الكفار رحماء بينهم؛ ومسلمو هذه الأيام رحماء على الكفار أشداء بينهم! إلا من رحم الله!.
بالله عليكم أيها المؤمنون، كيف يتعامل الجار مع جاره والصاحب مع صاحبه والشريك شريكه؟ لقد نزع الرفق والرحمة في التعامل إلا عند القليل، وصار العنف والشدة والقسوة هي السائدة حتى بين الرجل وزوجته والولد وأبيه والأخ وأخيه والقريب وقريبه؛ وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله رفيق يحب الرفق، ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه".
صدقت يا حبيبي يا رسول الله! عشرات الشواهد في حياتنا اليومية تؤكد ما ذكرتَ بأبي أنت وأمي! صار الشين والشؤم والتأزم الطابع في كثير من العلاقات اليوم، فقلّ أن تجد علاقة طبيعية قائمة على الرحمة والعطف والتسامح والرفق، وما ذاك إلا لانعدام الرفق.
لقد كان الدرس النبوي عن الرفق حين دخل اليهود على النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا له تلك الكلمة السيئة: السام عليك يا محمد، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "وعليكم"؛ فغضبت عائشة وقالت: "وعليكم السام والغضب واللعنة"، فقال الرحمة المهداة: "إن الله رفيق يحب الرفق".
يا الله! أيشرع الرفق يا رسول الله حتى في التعامل مع يهودي خسيس؟! والله ما وجدنا الرفق اليوم بين الأقارب والأحباب، والأصهار والجيران والأنساب!.
ألا تعودون معي إلى الآية مرة أخرى؟ لعلها تجد قلبا صافيا فتؤثر فيه: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ).
كذبَتْ -ورب الكعبة!- تلك المفاهيم التي تجعل الرفق ضعفا، والرحمة ذلة، والعفو والتسامح مهانة؛ هكذا صار في عرف الناس اليوم، أن الشجاع والرجل والعزيز هو الغليظ الجافي الشديد المنتقم، فإذا تعامل أحد بالرفق في بيته ومع أهله وجيرانه وخلانه قالوا ذليل ضعيف، وإذا عفا وصفح وتسامح قالوا خائف جبان (ما منه شيء) (ما هو برجال).
قواعد باطلة ومفاهيم فاسدة لا تجدها إلا في نزغ الشيطان ووحي إبليس وشريعة الجاهلية؛ أما وحي الله فكما سمعت في الآية: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ).
وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:54].
وقال -تعالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
وقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63].
فرقُ ما بين الجاهلية والإسلام أن الجاهلية تعد الشجاع هو الذي يصرع الناس، والإسلام يعتبر الشجاع هو الذي يصرع نفسه ويملكها عند الغضب؛ فاختر أي الطريقين تريد: الجاهلية أم الإسلام؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الشديد بالصُّرَعَة؛ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
أحبتي في الله: إن من معالم هذه الرحمة وعلاماتها التي لا بد أن تكون بين المؤمنين: أن يكون المؤمنون كالجسد الواحد ألفة ومحبة واتحادا، يحزن المؤمن لحزن أخيه، ويتألم لألمه، ويفرح لفرحه، ويحب له ما يحب لنفسه، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
لاحِظْ: "مَثَل المؤمنين"، ما قال: مثَل الأسرة الواحدة أو القبيلة الواحدة أو الفخذ الواحد؛ لا، "مَثَل المؤمنين"، فالمؤمنون كلهم جسد واحد، سواء اتَّحَدَت أنسابهم وقبائلهم أم تفرقت.
لكن بعض الناس لا يتألم ولا يتراحم ولا يتعاطف إلا مع أسرته وأبناء عمه! فهنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجعل المؤمنين جميعا كالجسد الواحد.
وحفِظ الإسلام الحب المشترك لكل من آمن بالله من الأولين والآخرين في قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
ومن معالم الرحمة بين المؤمنين السعي لإصلاح ذات البين، لأن الجسد الواحد لا يمكن أن يدمر بعضه بعضا أو يؤذي بعضه بعضا.
هل رأيت يد إنسان تؤذي يده الأخرى؟ أو رِجْل شخص تجرح رجله الأخرى؟ إلا أن يحصل ذلك دون قصد أو حال غفلة ثم سرعان ما يعود التآلف للجسد الواحد.
وهكذا المؤمنون، لحمةٌ واحدة وجسد واحد، بنيان واحد، إذا ما حصل شيء من الأذى أو التصدع أسرع المؤمنون للإصلاح ورأب الصدع، كما قال المولى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:10].
مستشعرين أن إصلاح ذات البين هو من أعظم الخير عند الله؛ (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
وشيء آخر ربما لا يعلمه كثير من الناس أو لم يسمع به، وهو أن الإصلاح قد يكون أفضل من الصلاة والصدقة والصيام! روى الترمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟"، قالوا: بلى! قال: "إصلاح ذات البين؛ فان فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين".
مهما حصل بين المسلمين فحق الأخوّة لا يزول، ها هم أصحاب رسول الله يحصل بينهم قتال، وهو قتال طبعا لم يكن من أجل ربطة قات ولا من أجل قطعة أرض ولا من أجل خيمة وبعير، إنما كان من أجل إقامة حد من حدود الله، وهو القصاص من قتلة عثمان، فهو قتال من أجل الدين أصلا لا من أجل الدنيا، وان كان منهم مصيب ومخطئ، لكن قال العلماء مصيبهم له أجران ومخطئهم له أجر، بخلاف قتال اليوم بين القبائل وأصحاب الثارات فهو قتال شر، القاتل فيه والمقتول في النار، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
العجيب في قتال الصحابة: هل بقيت ثارات بعد ذلك؟ مع أن بعضهم يعرف قاتل أبيه أو أخيه، قتل الزبير بن عبد الله وكان قاتله معروفا، ابن جرموز (أظن)، فهل ذهب أبناء الزبير وثاروا بعد المعركة؟ لا! فتنة انتهت، ونزغة شيطان ولّت إلى غير رجعة.
يا ليت المسلمين يفقهون هذا الأمر! اليوم المسلم يقول: لا يمكن أن أصطلح مع فلان ما دام قد فعل بي كذا... لا يمكن، بل تجده، حتى وإن تظاهر بالصلح يظل متربصا بصاحبه حاملا له الحقد عشرات السنين.
فيا عباد الله، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فان باب الصلح لديه لا يغلق مهما حصل من مشاجرات وخصومات؛ لأنه مؤمن، والله يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
ومن معالم الرحمة السرعة في الاعتذار عن الخطأ بين المؤمنين، والعفو والتسامح وقبول المعذرة؛ بينما غير المؤمنين لا يعرفون للتسامح والعفو سبيلا...، ولا يمكن أن يقبلوا اعتذار معتذر مهما كان.
كم كان عجيبا خبر أبي ذر وبلال حين أخطأ أبو ذر في حق بلال وقال له: يا ابن السوداء! والرجل قد يحتمل أي شيء إلا أن يُحتقَر في نسبه وأصله؛ ولذا كان الاحتقار من أعظم الشر: "بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم".
فلأنهم رحماء بينهم؛ ماذا صنعوا؟ لما سمع أبو ذر قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إنك امرؤ فيك جاهلية"، مباشرة، وبلا تأخر، ذهب واعتذر لصاحبه وأخيه بلال، ولم يكتف بأن يقول له سامحني واعذرني، بل اندهش الجميع لأبي ذر وهو يضع خده على الأرض ويطلب من بلال أن يضع رجله على خد أبي ذر.
هل يستطيع عقلك الآن أن يتصور الموقف؟ أبو ذر العربي الأصيل ينبطح لبلال العبد الحبشي ويأمره أن يضع رجله على خده، أقسم بالله إنه موقف يهز الجسم من الأعماق!.
يقول أبو ذر، والتاريخ يسمع مندهشا، والدنيا تحدق مبهورة: "حقّ على ابن السوداء أن يطأ خدَّ ابنِ البيضاء".
ماذا فعل بلال؟ هل قال: فرصة! آخذ حقي! تجد بعض الناس إذا حكمه أخوه وقال له: مستعد لما تطلب حمل أخاه الملايين والأحكام الجائرة! أتدرون ما فعل بلال؟ أبى أن يفعل ما يريد أبو ذر؛ تذكر حق الأخوة والإيمان، قال: "والله ما كنت لأطأ وجها يسجد لله".
هنا نشعر بالآية بكل معانيها: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، فالمخطئ يعتذر والآخر يقبل العذر ويعفو!.
رفض الاعتذار خطأ كبير، جاء في الحديث -إن صح-: "من اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يقبل منه كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس"...
فالكريم لا ينسى -إن وقعت أخطاء- ما بينه وبين أخيه من قرابة ورحم وصلة ومودة، واللئيم ينسى بالغلطة الواحدة كل ما سبق من العلاقة والمودة.
عباد الله: الحديث عن الرحمة بين المؤمنين والتعاطف والتوادُد حديث ذو شجون، ويكفي أن نعلم أن العظماء من الرجال ليسوا هم أصحاب القسوة والفظاظة والضغينة والأحقاد، لا والله! العظماء من الرجال لا تستجيشها دوافع القسوة، ولا تحركها بواعث الغضب، إنما هم إلى الرحمة والرفق أدنى وأقرب.
أما رأيت أعظم العظماء محمداً -صلى الله عليه وسلم- الذي قال الله له: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
يوم أحد حاول المشركون اغتياله، أكبّوه في حفرة، شجّوا وجهه، أسالوا دمه، كسروا رباعيته، فقيل له ادع على المشركين، فيغلبه رفقه، وتستعلي رحمته حتى يستسمح لأعدائه العذر، ويقول: "اللهم إن قومي لا يعلمون".
أسألكم بالله: هل كان رسول الله ذليلا خائفا ضعيفا جبانا؟ حاشا لله ومعاذ الله! لكنها العظمة والرجولة والشهامة في أجمل مظهر.
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134].