الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
عباد الله: إن تربية الأفراد على قيم الخير، وتحصينهم من الرذائل والأخلاق السيئة؛ فيه حماية للمجتمعات، وحفاظاً على الحقوق والواجبات، وصوناً للدماء والأعراض والممتلكات، وبسبب ذلك يفتح الله على البلاد والعباد الخيرات، قال تعالى مبيناً هذه السنة في....
الحمدُ لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضَّالون؛ لا يُسألُ عما يفعل وهم يُسألون، أحمدهُ سبحانه على نعمه الغزار، وأشكره وفضله على من شكر مدرار؛ لا فوز إلا في طاعته، ولا عِزَّ إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار لرحمته.
يا ربي حمداً ليس غيرُك يُحمد | يا من له كل الخلائق تصمدُ |
أبوابُ كلُ الملوكِ قد أوصدت | ورأيت بابك واسعاً لا يوصدُ |
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله النبي المختار، المبعوث إلى الناس كافة بالتبشير والإنذار.
إن البريةَ يومَ مبعثِ أحمدٍ | نظر الإله لها فبدّل حالها |
بل كرمَ الإنسانَ حين اختار من | خير البريةِ نجمُها وهلالها |
صلى الله عليه وسلم صلاة تتجدد بركاتها بالعشي والإبكار، وعلى آله وأصحابه وأتباعه الأبرار.
أما بعد:
عباد الله: كم تمر علينا قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كان يمشي ليلاً في شوارع المدينة، ومعه خادمه؛ ليتفقد أحوال الرعية، فأعياه التعب، فاتكأ إلى جدار بيت، وإذ بامرأةٍ تقول لابنتها: قومي إلى اللبن فامزجيه بالماء، حتى يكثر، فقالت الفتاة: يا أماه أو ما سمعت منادي الخليفة ينادي: لا يُخلط اللبن بالماء، فقالت الأم: إن عمر لا يرانا، قالت الفتاة: إن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا، فلما سمع الخليفة كلامها؛ دمعت عيناه، وقال لخادمه: اعرف مكان البيت, ثم مضى عمر رضي الله عنه في جولاته، فلما أصبح، قال للخادم: امض إلى ذلك البيت فانظر من الفتاة؟ وهل لها زوج؟ قال الخادم: أتيت البيت فعلمت أنه ليس لها زوج، فعدت إلى الخليفة فأخبرته الخبر، فجمع أولاده، وقال لهم: هل فيكم من يحتاج إلى الزواج، فأزوجه فزوجها لابنه عاصم، فأنجبت له بنتاً تزوجت فيما بعد عبد العزيز بن مروان، فأنجبت عمر بن عبدالعزيز الخليفة العادل.
كم تمر علينا هذه القصة؟ فهل وقف أحدنا يسأل نفسه: ما الذي دفع هذه الفتاة إلى الالتزام بهذا الخلق وهذا السلوك الرائع؟
وما الذي جعلها ترفض السلوك الخطأ وهو الغش رغم الفاقة وشدة الحاجة وغياب رقابة البشر؟
وكم سيسعد المجتمع عندما يجد أفراده في مثل هذا الوعي والانضباط الأخلاقي والسلوكي؟
إن مرد ذلك إلى القيم الإيمانية والأخلاقية والسلوكية التي يحملها الفرد في نفسه، ويتعامل بها مع من حوله، ويشعر أنها سببٌ لراحته وسعادته في الدنيا والآخرة.
هذه القيم غرسها الله في فطرة الإنسان، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ لتربية الناس عليها، وتثبيتها في قلوبهم ووعظهم وتذكيرهم بها عند انحرافهم عنها، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) [النساء:66].
وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الجمعة:2].
فالتزكية تعني بناء قيم الخير في النفوس، وتربية الناس عليها.
فالإيمان بالله ومراقبته وتعظيمه، والخوف منه، والالتزام بشرعه؛ قيمٌ عظيمة يجب أن تتربى عليها النفوس.
والأمانة والصدق والحياء والعفاف، وصون اللسان، وحفظ الجوارح والتسامح، واحترام الآخرين، وحفظ حقوقهم والتعاون، وبذل المعروف والجود والكرم وحسن الخلق، والترفع عن سفاسف الأمور، وبغض الشر وكراهيته، وصون الدماء، وحفظ الأعراض قيمٌ تسعد بها الأفراد والمجتمعات والدول.
والالتزام بالقوانين التي تسير حياة الناس، وتكفل لهم الراحة وتطبيقها، وتربية المجتمع عليها قيمٌ تجعل الإنسان في قمة الحضارة والرقي، وتساهم في تطور المجتمعات وتقدمها.
عباد الله: هذه القيم تتربى عليها المجتمعات، ويتحصن بها الأفراد من خلال:
أولاً: قيام الوالدين بواجبهما من التربية، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
وقال تعالى على لسان لقمان وهو يوجه ابنه، ويربيه على قيم الخير: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان:13ٍ].
وقال له أيضاً: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِير)[لقمان: 18-19].
ويتربى الناس على هذه القيم في المدارس، ومن خلال المناهج الدراسية، فالتربية والتعليم من أهم وأخص واجبات المدارس، وعندما يحدث الانحراف عن هذا الهدف تسوء الأخلاق، ويظهر جيل لا يحمل من القيم شيء، وعند ذلك سيكون وباله على مجتمعه وأمته كبير.
ومن محاضن التربية على القيم: المساجد، فدورها عظيم من خلال اجتماع الناس فيها، ومن خلال الدروس والمواعظ، وخطب الجمعة، والله سبحانه وتعالى يقول عنها: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ)[التوبة:108].
فالمساجد يجب أن تقوم بدورها في تربية النفوس وتزكيتها وتطهيرها، وإن من ينظر إلى سيرته صلى الله عليه وسلم يجد أن المسجد كان المحضن الأول في تربية الصحابة، وتوجيه الأمة وغرس القيم.
ومن ذلك: الإعلام سواء كان إذاعة أو تلفزيون أو صحافة، يجب أن يعي دوره في توجيه الأمة وتربيتها وتوعيتها، ولذلك لما فقد الإعلام دوره وانحرف عن هدفه أصبح معول هدم للقيم والأخلاق في حياة الأفراد والمجتمعات والدول، فالجرائم والمعاصي يرتكب كثيراً منها اليوم تقليداً ومحاكاة؛ لما يبث ويذاع وينشر في وسائل الإعلام؛ فأين التوعية؟ وأين التوجيه؟ وأين تربية أفراد هذه الأمة وغرس القيم في نفوسهم؟ وتتحصن الأمة بالقيم والأخلاق الحسنة، والسلوك السوي من خلال القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن خيرية هذه الأمة لم تنعقد إلا بذلك، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)[آل عمران:110].
ومتى ما أخلت هذه الأمة بهذا الشرط سلبت هذه الخيرية، وأوشك أن ينزل بها العذاب، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل، فقال: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، أن كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض، ثم قال: ?لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ?[المائدة:78-79] ثم قال: كلا والله لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضا، ثم يلعنكم كما لعنهم"[رواه أبو داود /4336 والترمذي 3047)].
وانظروا كيف أهلك الله ثمود قوم نبي الله صالح عليه السلام بسبب فساد نفر قليل منهم، وسكوت غالبية الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزجر المعتدي، والأخذ على يديه، قال تعالى: (وَكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [النمل:48]. فلما استفحل شرهم، وزاد غيهم، وظهر مكرهم؛ أذن الله بهلاكهم هم وقومهم، قال تعالى: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ)[النمل:51].
ومن ميادين غرس القيم ووسائل اكتسابها: تزكية الفرد لنفسه؛ بتعليمها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتربيتها على الأخلاق الفاضلة، وصونها عن كل ما يدنسها، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 9-10].
فالمسلم يدرك أن سلوكه وأخلاقه مرتبطة بإيمانه بربه، وهو يعتقد أنه سيحاسب يوم القيامة على أعماله، وأن الله مطلع عليه في كل أحواله، وأن سعادته في الدنيا والآخرة في رضا ربه، ولقد قصد الإسلام من هذه التزكية أنْ يكُون الإِنسان مَثَالاً صَالحاً، محمُود الخصال، شريف الشمائل، حسن السلوك؛ إن تكلم صَدَقَ، وإنْ وَعَدَ وَفَى بِوَعْده، وإن أؤتُمِنَ في أمْرٍ أَدَّى الأمانَةَ وَلَمْ يَخُنْ، وإنْ رَأى أمراً مُنْكراً غَيَّرهُ بيَدِه، فإِنْ لمْ يَسْتَطعْ فَبِلسانه، فإن لم يَسْتَطعْ فَبِقَلْبه، وإن تَكَلم خفضَ صَوتَه، وَإن مَشَى لَم يَكُن مُخْتَالاً وفخوراً في مشيتِه، وإنْ رأى كَبيراً وَقَّره، أو صغيراً عطف، أو جاراً أو ضيفاً أكرمه، أو محتاجاً أعانه.
عباد الله: إن تربية الأفراد على قيم الخير، وتحصينهم من الرذائل والأخلاق السيئة؛ فيه حماية للمجتمعات، وحفاظاً على الحقوق والواجبات، وصوناً للدماء والأعراض والممتلكات، وبسبب ذلك يفتح الله على البلاد والعباد الخيرات، قال تعالى مبيناً هذه السنة في أمم كانت من قبلنا: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)[المائدة:66].
أنظروا رحمكم الله ماذا تعمل القيم؟ وكيف تضبط السلوك وتوجه التصرفات؟
في عام الرمادة وقد بلغ الفقر والجوع بالمسلمين مبلغاً عظيماً، جاءتْ قافلةٌ لعُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ مُؤَلَّفة مِن أْلفِ بَعْيِرٍ مُحَمَّلَة بالتَّمْرِ والزَّبيْبِ والزَّيْتِ، وغيرِها من ألوانِ الطعامِ، فجاءَهُ تُجّارُ المدينةِ المُنَوَّرَةِ مِنْ أَجْلِ شِرائِها منه، وقالُوا لهُ: نُعْطيكَ ربحاً بَدَلَ الدِّرْهَمَ دِرْهَمَينِ يا عثمان، قالَ عثمانُ: أُعْطِيْتُ أكثرَ مِنْ هذا، قالوا: نَزِيْدُكَ الدِّرْهَمَ بخَمْسة، قالَ لَهُمْ: لَقَدْ زادنَي غيرُكم، الدِّرْهَمَ بَعَشَرة، قالوا له: مَنِ الذي زادَكَ، ولَيْسَ في المدينةِ تُجّارٌ غيرُنا؟ قالَ عثمانُ: أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: (مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فلهُ عَشْرُ أمثاِلها) أُشْهِدُكُمْ أنّي قَدْ بِعْتُها للهِ ورسولهِ.
فأنفقها في سبيل الله.
لو لم يكن هناك إيمان لكان الجشع والطمع واستغلال حاجات الناس وظروفهم.
إن الأخطار التي تهدد الأفراد والمجتمعات لا تستحكم حلقاتها إلا عندما تتهدم حصونها من الداخل بفساد القيم وانحلال الأخلاق في نفوس أبنائها.
لما أراد الصليبيون مهاجمة بلاد المسلمين واحتلال القدس ارسلوا جواسيسهم إلى بلاد المسلمين ونشروهم في القرى والمدن والأسواق، وكان الهدف التعرف عن قرب عن مدى تمسك المسلمين بدينهم وأخلاقهم وقيمهم؛ فكان أحدهم يأتي إلى البائع المسلم في السوق ليشتري منه فيجد أخلاقا حسنة، وتعاملا راقيا، بعيداً عن الغش والخداع، بل كان التاجر يدل المشتري على سلعة أفضل من سلعته لدى جاره، بعيداً عن الحسد والحقد والبغضاء، فيرفعون تقاريرهم.
لا قبل لكم بهؤلاء، حتى جاء اليوم الذي ساءت فيه أخلاقنا وقيمنا، فسقطت مدن المسلمين، واحتلت القدس 90 عاماً، حتى جاء صلاح الدين الأيوبي الذي كان أول عمل قام به أن نشر العلماء في المدن والقرى؛ لتعليم الناس وتربيتهم، وتهذيب نفوسهم بالأخلاق.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد من هذه الأمة أن تعيش بقيمها، وأخلاقها؛ في العسر واليسر، والمنشط والمكره؛ لأنها تحمل منهج الله، وهي أمة الدعوة والبلاغ، وهي شاهدة على الأمم.
يوم أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوجه إلى خيبر الذي كان وكرا لليهود تدار منه، وتخطط المؤامرات على الإسلام والمسلمين؛ علم اليهود بالمدينة بالخبر، فغاظهم الأمر، وكانوا أصحاب أموال، فاتفقوا على أن يقوموا بحرب اقتصادية على المسلمين حتى يشغلوهم عن التوجه إلى خيبر، فقام كل تاجر منهم يطلب الدين الذي له من المسلمين، وهم يعرفون ظروف المسلمين الصعبة، فجاء أبو الشحم اليهودي يطلب من الصحابي عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي خمسة دراهم كانت عنده، وأبو حدرد يقول له: أجلني حتى نفتح خيبر، فيزداد أبو الشحم اليهودي غيضاً، فشكى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أعطه حقه يا أبا حدرد" فيقول: والله يا رسول الله لا أملك درهماً، قال: أعطه حقه، فخرج إلى السوق وباع ثيابه التي كانت عليه، وأعطى اليهودي دراهمه.
أنظروا إلى هذه القيم، وإلى هذا الالتزام، وإلى هذه الطاعة.
ويجلس ذلك الصحابي على جانب السوق، وتمر به امرأة من المسلمين، فتقول له: ما بك يا صاحب رسول الله؟ فتشتري له ثياباً، وبعد أن فتح المسلمون خيبر غنموا مالا وطعاما كثيرا، فكان نصيب عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي امرأة من اليهود، وهي من سبايا الحرب، وكانت قريبة لأبي الشحم اليهودي، فجاء أبو الشحم إلى الصحابي يريد فكاك هذه المرأة، قال له: كم تدفع؟ قال: مائتي درهم، وأبو حدرد يرفع السعر حتى وصل المبلغ إلى ألف درهم، فقال عبدالله بعد ذلك: والله لو كنت أعلم أن بعد الألف رقما لزدت.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل نحن في حرب وفي قتال، أو أن هذا يهودي يريد تعطيل جاهزية المسلمين وصرفهم عن جهتهم، ولم يقل: إن هذا جاسوس وعميل، بل أعطاه حقه وأمر الصحابي أن يلتزم بأداء ما عليه.
وإن هذا السمو والرفعة والعظمة ما هو إلا نتيجة التربية على القيم العظيمة التي يجب أن تتحصن وتتربى عليها النفوس.
اللهم إنا نسألك إيماناً خالصاً، ويقيناً صادقاً، ومرداً غير مخزٍ ولا فاضح.
قلت قولي هَذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن من أعظم الآثار المترتبة على فساد القيم وضعفها في النفوس: ظهور الاختلالات في المجتمع، وإثارة الفتن، وسفك الدماء، وسوء الأخلاق، وذهاب المعروف، وتغليب المصلحة الشخصية الضيقة على مصالح المجتمع والأمة، والتنصل عن القيام بالواجبات والمسئوليات، وظهور العصبيات.
إنه لا يمكن أن يتصور عاقل عودة الناس إلى حياة الجاهلية والعصبية التي بدأت تنثر سمومها في سلوكيات بعض أفراد المجتمع، والله تعالى يقول ممتناً على عباده بنعمة الأخوة والألفة: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)[آل عمران:103].
ومن الآثار المترتبة على فساد القيم: ظهور الأمراض والآفات التي أهلكت الأمم والمجتمعات والشعوب؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"[رواه ابن ماجه، وهو صحيح، السلسلة الصحيحة (106)].
عباد الله: لنعد إلى القيم والأخلاق التي جاء بها ديننا الإسلامي؛ فبها تستقيم النفوس، وتسمو الأخلاق، ويسعد المجتمع، وتحفظ الحقوق، وتؤدى الواجبات، ويظهر الود والحب والتراحم بين المسلمين، وعن طريقها ننقل للعالم حقيقة هذا الدين، وعظمته وخيريته.
هذا، وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين.