المتعالي
كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إننا لا نطالبكم -يا معاشر الكفلاء- بأخلاق الإسلام؛ لأن الإسلام قد ذابت معانيه في قلوب الظلمة والمتسلطين، وخفي عليهم حرمة الربا وتعاسة الباطل وخطورة المأكل الحرام، فها هو الظالم يشيد بنيانًا من ظهور العمال، ويشتري سيارة من أرباحهم، ويطعم أولاده من كدِّ المساكين، ثم يصلي ويصوم ويدعي...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
معاشر المسلمين: ما تقولون في رجلٍ يعيش على أكتاف غيره، يأكل مالاً ليس بماله، ويشيد دارًا ليست من أتعابه، ويرتقي درجات الغنى على كد الضعفة والمساكين؟! لم يكن يتصور البررة الأتقياء أن مسلمًا يدعي الإسلام ويتردد على المساجد يكون عائلاً على جهد العمال، وفقيرًا لدى الطبقة الكادحة يأكل أموالهم ويستنفد طاقاتهم ويبتلع سعادتهم وحلاوتهم. يبيتُ العامل المسكين كادحًا على لقمة العيش؛ ليعف نفسه ويطعم ولده ويحفظ أسرته، ويأتي هذا الكفيل الظالم يستقطع من حصالته شهريًا أو يناصفه العمل أو يشاركه، كل ذلك يتم مقابل إحضاره للبلاد.
لم يكن في بال المؤمن التقي أن يتقلد هؤلاء الكفلاء أخلاق اللئام وحُلَى الظلمة وشمائل المتسلطين الأكالين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) [النساء: 29]. وإلا فما هو الباطل يا معاشر الكفلاء؟! كيف تجيزون لأنفسكم أكل عرق العمال والضعفة؟! أما يخشى أحدكم بناء جسده وولده من الحرام؟! أما يستحي بعضكم من ربه وقد تسلط على مسكين؟! قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم:42].
ليست المهارة في التجارة بأكل الحرام، وليس الحذق التجاري سلب الضعفة والمساكين، هل من الرجولة تهديد العامل بإخفاء الجواز؟! وهل من الرجولة إخافته بعدم تجديد الإقامة؟! وهل من الرجولة نفخ الأوداج وتضخيم الصوت والقسوة في المعاملة؟!
إننا لا نطالبكم -يا معاشر الكفلاء- بأخلاق الإسلام؛ لأن الإسلام قد ذابت معانيه في قلوب الظلمة والمتسلطين، وخفي عليهم حرمة الربا وتعاسة الباطل وخطورة المأكل الحرام، فها هو الظالم يشيد بنيانًا من ظهور العمال، ويشتري سيارة من أرباحهم، ويطعم أولاده من كدِّ المساكين، ثم يصلي ويصوم ويدعي أنه مسلم.
نحن لسنا بحاجة إلى إسلام منخول مخروق، يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء، أو إذا حضرت الدنيا ولمعت الريالات طار الإسلام وخفيت التقوى والتهمت النفس الجائرة الأموال والأمتعة والسلع، قال تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة: 85]، وربنا تعالى يقول: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر: 92، 93].
إننا نطالبكم -يا سادة- بأخلاق العرب التي شحّت من هذه البلاد المباركة، أخلاق الكرم والإحسان والشهامة والمروءة.
أين الكرم من التضييق على العامل والتقتير عليه وزجه في مساكن لا تصلح للحيوانات فضلاً عن بني آدم المكرمين؟! قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70].
أين الإحسان والشهامة التي كان يتفاخر بها سادة الناس ليبنوا مجدًا ويؤسّسوا عزًّا؟! وأين المروءة لدى كفيل قعيد كالكسيح، يأكل من صحن عامل كادح ضعيف، قد كدَّه العمل، وأضناه السهر، وأرهقته حرارة الشمس؟! "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
لقد هانت الأخلاق عند كثيرين بعد هوان التقوى في حياتهم، وأعماهم بريقُ المال عن إدراك خطر الظلم وبخس الناس حقوقهم. لقد تعامل كثير من الناس مع العمال وكأنهم آلات لا رحمة ولا شفقة ولا إحسان، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "إخوانكم خوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم".
أيها الإخوة الكرام: إننا بحديثنا هذا لا نطعن في سائر الكفلاء، ففيهم صالحون وأخيار يخشون الله ويخافون يومًا كان شره مستطيرًا، وإننا أيضًا لا نقلل من أخطاء طوائف من العمال قلّت أمانتهم وفسدت أخلاقهم ودأبوا على السرقة والغش والاحتيال، لكننا ندعو إلى العدل واجتناب الظلم والحرص على مراقبة الله في هؤلاء الضعفة، فإنهم يأتون إلى هذه البلاد مع ضعف في الدين وقلة الثقافة وهوان التربية، ويفاجئون بغفلة الكفيل وصاحب العمل عن دعوتهم ورعايتهم والإحسان إليهم.
وإننا لنوصي إخواننا العمال بتقوى الله في مصالح كفلائهم، وأن لا يخونوهم ولا يغشوهم ولا يغدروا بهم، وأن يقوموا بإتقان العمل في وقته وشروطه وحدوده، وهذا الكلام متوجّب في حق المسلمين الذين تجاسروا على الغربة وقطعوا المسافات حتى وصلوا إلى هذه البلاد، وفي هذا واعظ لهم أن يحرصوا على الحلال، وأن لا يعودوا على أبنائهم بالسوء والشنار، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به". رواه أحمد والدرامي وهو حديث صحيح.
أيها المسلمون: لقد تلوّنت المظالم والحسرات المتتابعة على الإخوة العمال والضّعفة، وصار التكسب من خلالهم يبادر إليه كثيرون إلا من رحمه الله، متجاهلين خطورة الظلم وعاقبته الوخيمة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة". رواه مسلم في صحيحه. فإن كانت أنارت لهم أموالهم في الدنيا فإنها ستظلم عليهم في الآخرة، (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر: 52]، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".
فمن صور ظلم العمال المنتشرة هذه الأيام الأكل من ظهورهم بلا شراكه ولا استحقاق، ومنها ظلمهم وعدم إعطائهم رواتبهم وتعمد تأخيرها من بعض الكفلاء وعدد من الشركات والمؤسسات، فلم يعد سرًّا مكث العامل إلى سنة وزيادة ولم يتقاضَ شيئًا، يجوع ويطول جوعه، وتنتظر أسرته البعيدة الذهَب المختزن ليرفعهم وينتشلهم من مستنقع الفقر والضنك، والمؤسسة أو الكفيل غير مبالٍ بذلك كله، يأكل نهاره وينام ليله. وفي الحديث الشهير الذي يعيه الخائفون من الله: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه". رواه ابن ماجه في سننه وحسنه الألباني -رحمه الله-.
ومن صور ظلمهم: الاستقطاع من كدهم وتعبهم أجرًا شهريًّا أو سنويًّا مقابل الكفالة، وهذا ظلم صراح يعاقب الله عليه: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].
ومن صور ظلمهم الاتفاق على الشغل، ثم التنكر لهم وخداعهم، فيقول صاحب العمل: إن أردت ذلك وإلا فما عندي غيره، فيأخذ العامل المسكين الأجر مضطرًا، وهو لا يملك حَولاً ولا طَولاً، أين يشكوه؟! أين يشهر به؟!
والمشتكى إلى الله، يرفع يديه -ولو كان فاجرًا- إلى السماء، مستنصرًا بالله على ذلك الظالم، طالبًا من الله العون والكفاية، والله عزيز ذو انتقام، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ لما بعثة إلى اليمن: "واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". فإن لم تأتِ الدعوة فيك قد تأتي في مالك أو في ولدك الحبيب، فتنقلب النعمة إلى نقمة والسعادة إلى شقاوة، ولا يظلم ربك أحدًا: (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر: 52].
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام: مَن للعمال وقد سرقت أموالهم؟! ومن للضعفة وقد بخست حقوقهم؟! ومن لهم وقد أهينت كرامتهم؟! كم تحدّث وقصَّ كثيرون عن حسرات العمال وزفراتهم بسبب تأخر الراتب أو مماطلة المؤسسة أو احتيال الكفيل!
فمن صور ظلمهم الشائعة: إكلالهم وإتعابهم في العمل، ثم طردهم وبلا مقدّمات، فيا قبح من استأجر أجيرًا وأكل جهده ولم يعطه حقه. أتعلم -أيها الظالم- من تخاصم؟! إنك لا تخاصم العامل ولا المؤسسة ولا الوزارة، إنك تخاصم الله -عز وجل-، فأبشر بما يسوؤك: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18].
واستمع إلى هذا الحديث: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره". وما أكثر من يستوفي العمل ولا يفي بالأجر، والله المستعان.
ومن صور ظلم العمال: تغيير عقود العمل، وهذا كثير جدًّا، فالعامل يأتي من بلده على أنه سائق مثلاً، فيفاجأ بتغيير العقد، فيصبح مضطرًا لقبول المهنة الجديدة ولو كانت رديئة.
ومن صور الظلم: تحصيل الفيز والتأشيرات وبيعها على العمال بمبالغ باهظة، لا يستطيعها الموظف فضلاً عن عامل فقير غريب، وهذا يحصل لبعض المتنفذين وأصحاب الوساطات، فإنهم يجمعون فيزًا كثيرة وبطرق معوجة، ويبيعونها على هؤلاء الضعفاء ولا يأكلون في بطونهم إلا النار: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].
ومن صور ظلمهم: استقدام عشرات العمال بل قل: المئات، وإلقاؤهم كالبهائم في الشوارع والطرقات، ومطالبتهم بدخل شهري، ولا يوفّر لهم الكفيل أو المؤسسة السكن المريح ولا المنزل، ولا الخدمات الضرورية التي ينص عليها نظام العمل والعمال في المملكة، بل يجمعون في غرف ضيقة كأنهم ليسوا بمسلمين وليسو إخوانًا لنا.
يا أخي: يجب عليك الإحسان إلى الكافر وقد استخدمته، فما بالك بمسلم يمؤمن بالله واليوم الآخر؟! وهذا المال المجموع من كدهم مع عدم العناية أو مشاركتهم فهو حرام، النار أولى به: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم: 42].
وما تضاعفت الجرائم الاجتماعية والأخلاقية إلا بسبب ترك العمال هكذا سبهللاً، بدون توفير عمل أو مساعدتهم عليه، وإنه لبئس الدرهم أو الدينار الذي تأكله من جسد غيرك دون بَذلٍ أو مساعدة.
ومن صور ظلمهم: التسلط عليهم واحتقارهم وسبهم وشتمهم، بل ضربهم في بعض الأحيان دون مخافة الله، أو احترام -لا أقول: لإسلامهم- بل إنسانيتهم. وقد شاهدنا وشاهدتم من ذلك عجبًا، وربنا لهؤلاء بالمرصاد.
روى مسلم في صحيحه عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: كنت أضرب غلامًا لي بالسوط، فسمعت صوتًا من خلفي: "اعلم أبا مسعود"، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا هو يقول: "اعلم -أبا مسعود- أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام"، فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا. وفي رواية: فسقط السوط من يدي هيبة له. وفي رواية: فقلت: يا رسول الله: هو حرٌّ لوجه الله تعالى، فقال: "أما لو لم تفعل للفحتك النار"، أو "لمستك النار".
ومن صور ظلمهم: عدم دعوتهم وحضهم على الطاعة كالصلاة، فيمكث العامل في بلادنا سنين ولا يأمره كفيله بالصلاة، بل قد يأمره بالعمل وقت الصلاة، ويرى منه أخلاقًا سيئة فينقل ما يراه ويشاهده إلى بلاده، فإن كان مسلمًا فإننا قصرنا في تعليمه، وإن كان كافرًا لم نبال بدعوته، وأريناه من الأقوال والأفعال ما يؤكد الصورة المشوهة عنده عن الإسلام.
فاتقوا الله -عباد الله-، واتقوا الله -معاشر الكفلاء-، واطلبوا المال الحلال، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، وترفقوا بهم، وأحسنوا إليهم، فإنكم بعدلكم وإحسانكم تباركون أموالكم، وتشرحون نفوسكم، وترضون ربكم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من لا يَرحم لا يُرحم"، وقال: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
واحذروا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة، ومستوجب للعنة الله، وسبب في محق المال وفساد النفس والعيال.
لا تظلمنَّ إذا ما كنـت مقتـدرًا | فالظلم آخره يأتيـك بالندمِ |
نامت عيونك والْمظلـوم منتبِـهٌ | يدعو عليك وعينُ اللهِ لَم تنمَِ |
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر البلاد المسلمين...