الباطن
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن محمد الهرفي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
والرجولة وقوف في وجه الباطل، وصدع بكلمة الحق، والرجولة ثبات على الحق، الرجولة هي خصال الشجاعة ومعاني الشهامة والمروءة، والكرم والنجدة والوفاء، الرجولة وصفٌ اتفق العقلاءُ على مدحه والثناء عليه، ويكفيك إن ..
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:فإن أصدق الحديث كتابُ الله، وأحسن الهدي هديُ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشرَ الأمور محدثاتها، وكلَ محدثة بدعة وكلَ بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله: بعث اللهُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متمِّماً لمكارم الأخلاق قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". التي كانت العرب تتميز بها عن سائر الأمم قبل الإسلام، فالعربُ أمةٌ لهم أخلاقٌ وقيمٌ رفيعة، فاستحقوا أن يُبعثَ فيهم خيرُ الرسل وتختم فيهم النبوات، ثم إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتمَّ تلك الأخلاقَ وهذبها، وكان هو -بأبي وأمي- خُلقًا تاما يمشي على الأرض. ولكن حديثُتا في هذه الخطبة سينصب على تلك الأخلاق التي كانت قبل البعثة، فإن الناظر لحال الكثير من الناس، يجد أنهم يفتقرون لأخلاق عنترةَ بن شداد وحاتمِ الطائي وعبدالمطلب بن هشام والْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ وغيرهم ممن جمع بعض مكارم الأخلاق.
إنك -أيا المسلم- إذا نظرت إلى هؤلاء العظام، علمت أنك تستطيع أن تجمع صفاتهم بقولك: كانوا رجالًا، وإن الأمم والرسالات تحتاج إلى الرؤوس المفكرة قبل حاجتها إلى المعادن المذخورة، إنها تحتاج إلى رجال، وإن رجلاً واحداً قد يساوي مائة، ورجلاً قد يُوازي ألفاً، ورجلاً قد يزن أمّة [استفدت من كلام القرضاوي من كتاب من أجل صحوة راشدة ( 147)]
عباد الله: والرجولة وقوف في وجه الباطل، وصدع بكلمة الحق، والرجولة ثبات على الحق، الرجولة هي خصال الشجاعة ومعاني الشهامة والمروءة، والكرم والنجدة والوفاء، الرجولة وصفٌ اتفق العقلاءُ على مدحه والثناء عليه، ويكفيك إن كنت مادحا أن تصف إنسانا بالرجولة، أو أن تنفيَها عنه لتبلغَ الغاية في الذمّ. الرجل أعز من كل معدن نفيس وأغلى من كل جوهر ثمين، ولذلك كان وجودُه عزيزا في دنيا الناس، حتى قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً" [متفق عليه].
الرجل الكفءُ الصالح هو إكسير الحياة وروح النهضات وعماد الرسالات ومحور الإصلاح. وهنا قصةٌ لطيفةٌ يظهر فيها جانبٌ من جوانب الرجولة، فقد حاصر خالد بن الوليد الحيرةَ فطلب من أبي بكر مدداً، فما أمدّه إلا برجل واحد هو القعقاعُ بن عمرو التميمي وقال: لا يُهزم جيشٌ فيه مثله، وكان يقول: لَصَوْتُ القعقاع في الجيش خيرٌ من ألف مقاتل!
ليست الرجولة بِبسطة الجسم، وطول القامة، وقوة البنية، وليست الرجولة بالسن المتقدمة فكم من شيخ فانٍ وقلبُه قلبُ طفل صغير، يفرح بالتافه ويبكي على الحقير ويتطلَّعُ إلى ما ليس له ويقبض على ما في يده قبض الشحيح حتى لا يشركه غيره.
فالرجولة قوة نفسية تحمل صاحبها على معالي الأمور وتبعده عن سفاسفها، قوةٌ تجعله كبيرا في صغره غنيا في فقره قويا في ضعفه، قوةٌ تحمله على أن يعطيَ قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه.
من الرجال المصابيح الذين همو | كأنهم من نجوم حَيَةٍ صُنعوا |
أخلاقهم نورهم، من أي ناحية | أقْبَلْتَ تنظر في أخلاقهم سطعوا |
معاشر المسلمين: إن رجلاً واحداً قد يساوي مائة، ورجلاً قد يوازي ألفاً، ورجلاً قد يزن شعباً بأسره، وقد قيل: رجلٌ ذو همة يحيي أمة.
يُعدُّ بألفٍ من رجالِ زمانهِ | لكنه في الألمعيةِ واحدٌ |
الرجولةُ وصفٌ يمس الروح والنفس والخلق أكثر مما يمس البدن والظاهر، فرُبَّ إنسان أُوتي بسطة في الجسم وصحةً في البدن يطيش عقلُه فيغدو كالهباء، ورُبَّ عبد معوَّقُ الجسد قعيد البدن وهو مع ذلك يعيش بهمة الرجال. فالرجولة مضمون قبل أن تكون مظهرًا، فابحث عن الجوهر ودع عنك المظهر؛ فإن أكثر الناس تأسرهم المظاهر ويسحرهم بريقها.
عباد الله: لقد أثنى الله تعالى على من اتصف بالرجولة فقال (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23] وقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور:36-37]
عباد الله: لقد ظهر لنا -مما سبق- أن وصف الرجولة هو وصف زائد على وصف الذكورة، وإن الرجولة حزمة كاملة لا بد من أخذها جملةً دون تجزئة، ولأجل هذه الصفات العظمية رفع الله الرجال على النساء درجة، صفات الرجولة الحقَّة هي تلك التي تجسدت في خاتم الأنبياء والمرسلين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتي وصفته بها أم المؤمنين السيدة خديجة بقولها: "إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِين عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ".
عباد الله: لن تترعرع الرجولة الفارعة، ويتربى الرجال الصالحون، إلا في ظلال العقائد الراسخة، والفضائل الثابتة، والحقوق المكفولة. وأما والله لو ظفر الإسلام في كل ألف من أبنائه برجل واحد فيه خصائص الرجولة، لكان ذلك خيراً له وأجدى عليه من هذه الجماهير المكدَّسةِ التي لا يهابها عدو، ولا ينتصر بها صديق.
الخطبة الثانية
الحمد لله..
عباد الله: إن الرجولة نعتٌ كريم لا يستحقه الإنسان حتى يستكملَ مقوماته ويتصف بمواصفاته، وأذكر هنا بعض المقومات:
فمنها:
1- الإرادة وضبط النفس: فالرجل هو الذي يتحكم في هوى نفسه وتصرفاته ويحسب لكل فعل حسابه، وإذا كان كل الناس يحسنون الغضبَ والانتقامَ للنفس عند القدرة، إلا أن الذي لا يجيده إلا الرجالُ هو الحُلُم حين تطيش عقولُ السفهاء، والعفو حين ينتقم الأشداء، والإحسانُ عند القدرة وتمكن الاستيفاء.
2.علو الهمة: وهي علامةُ الفحولة والرجولة وهي أن يستصغرَ المرءُ ما دون النهاية من معالي الأمور، ويعمل على الوصول إلى الكمال الممكن في العلم والعمل، وقد قالوا قديما: "الهمةُ نصف المروءة"، وقالوا: "إن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال". أما غير الرجال فهِمَمُهُمْ سافلةٌ لا تنهض بهم إلى مفخرة، ومن سفُلت همتُه بقي في حضيض طبعه محبوسا، وبقي قلبه عن الكمال مصدودًا منكوسا، وصدق ابن الجوزي لما قال: "من تذكر حلاوة العاقبة نسي مرارة الصبر، الرجولة بالهمة لا بالصورة، ونزول همة الكساح حطه في بئر الأنجاس" [المدهش].
فلا تحسبوا أن المعالي رخيصةٌ | ولا أن إدراك العُلى هيِّنٌ سهلُ |
فما كلُّ من يسعى إلى المجد ناله | ولا كلُّ من يهوى العلا نفسُه تعلو |
3- النخوة والعزة والإباء: فالرجال هم أهلُ الشجاعة والنخوة والإباء، وهم الذين تتسامى نفوسُهم عن الذل والهوان. والراضي بالدون دني. وقد كان للعرب الأوائل اعتناءٌ بالشجاعة والنخوة، وكانت من مفاخرهم وأمجادهم، قال عنترة بن شداد:
لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ | بل فاسقني بالعز كأسَ الحنظل |
4- الوفاء: والوفاء من شِيَمِ الرجال، التي يمدحون بها، كيف لا وقد كان أهل الشرك يفتخرون به قبل أن يستضيئوا بنور الإسلام، ولكنه عزَّ جدا حتى ألَّف أحدُهم كتابا بعنوان "تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" [محمد بن خلف ابن المرزبان المتوفى سنة 30] لما رأى أن الوفاء فارقَ وارتحل.
وهناك مقومات أخرى كثيرة كالجود وسخاوة النفس، والإنصاف والتواضع، وغيرها من كل خلق كريم وكل سجية حسنة كلما اكتملت في إنسان اكتمل باكتمالها رجولته.
لقد كانت الرجولة إرثا يتوارثه الناس لا تعدو أن تكون بحاجة إلا إلى مجرد التهذيب والتوجيه، أما اليوم فقد أفسدت المدنية الناس، وقضت على معالم الرجولة في حياتهم، فنشكو إلى الله أننا صرنا فيه بحاجة إلى التذكير بالشيم والمكارم وأخلاق تحلى بها أهلُ الجاهلية قبل الإسلام.
وحين تخلت الأمة عن أخلاق الرجال وساد فيها التهارج، هوت وانهارت قواها حتى رثاها أعداؤها. يقول كوندي - أحد الكتاب النصارى: "العرب هَوَوْا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات":. ولنا وقفاتٌ في خطب قادمة إن شاء الله مع بعض صفات الرجولة.