العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | فواز بن خلف الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إن هذه الدموع التي سالت من عينه - صلى الله عليه وسلم - تمثل إحساساً نبيلاً، ومشاركة أسيفة للمحزونين والمكروبين، وهي لا تتعارض أبداً مع كونه - صلى الله عليه وسلم - مثلاً للشجاعة ورباطة الجأش، والرضى بقضاء الله وقدره، ولكنه بكاء المصطفى الكريم في مواطن الرحمة والإشفاق...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره…
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها ولا يثبت إلى عليها, الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل جعلنا الله وإياكم من المتقين.
أيها الأخوة في الله: لقد عشنا في الجمعة الماضية مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يضحك ويبتسم، وها نحن نعيش معه اليوم متأثراً باكياً ، تدمع عيناه وينجرح فؤاده خوفاً من الله وخشية، ورحمة بأمته وشفقة. وكما أن الضحك آية فالبكاء آية من آيات الله في الأنفس (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) [النجم: 43].
أيهـا المسلمـــون: إن الله أنعم عليكم بنعمة البكاء لتشكروه عليها، إذ كيف يعيش من لا يبكي، كيف تتفاعل نفسه مع الأحداث المواقف؟! بمَ يترجم عن الحزن والأسى؟ بماذا يعبر عن الخشية والخوف من الله جل وعلا؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أني أعوذ بك من علم لا ينفع, ومن نفس لا تشبع ومن عين لا تدمع, ومن دعوة لا يستجاب لها".
أيها الأخوة في الله: البكاء قافلة ضخمة، حطت ركائبها في سوق رحبة، فاتباع الناس منها على ثلاثة أضرب:
فضرب من الناس اشتروا بكاء العشاق والمشغوفين، أصحاب الهوى والتيم، أهل الصبابة والغرام، الذين هربوا من الرق الذي خلقوا له، وبلوا أنفسهم برق الهوى والشيطان، فأشترى هؤلاء القوم هذا الضرب من البكاء شراء مفتقراً لشروط الصحة، فابتاعوا بيعاً فاسداً، ثم زادوا السقم علة، والطين بلة، حيث أوقفوا هذه الدموع واحتسبوها في غير وجهٍ شرعي، فبطل الوقف وخسر الواقف، وهام الموقف عليه، فما أعظمها شقوة، وما أوعرها هوة.
وَمَا فِي الأَرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ | وَإِنْ وَجَدَ الهَوَى حُلْوَ المَذَاقِ |
تراهُ باكياً في كلِّ وقتٍ | مخافة َ فرقة ٍ أوْ لاشتياقِ |
فيبكي إنْ نأى شوقاً إليهمْ | ويبكي إنْ دنوا خوفَ الفراقِ |
فتسخنُ عينهُ عندَ التنائي | وتسخنُ عينهُ عندَ التلاقي |
أعاذنا الله وإياكم من هذه الحال، ومن حال أهل النار.
وضرب من الناس: ابتاعوا بكاء أهل الحزن على مصائبهم ورزاياهم، وعلى هذا الضرب جل الناس، فاقتصروا على سلعة، وافقت جبلتهم التي جبلهم الله عليها، فأصبحوا لا لهم ولا عليهم.
وضرب ثالث: اشتروا بكاء الخشية من الله - عز وجل -، تلكم البضاعة التي زهد فيها معظم القوم إلا من رحم الله. آيات تتلى وأحاديث تروى ومواعظ تلقى، ولكن تدخل من اليمنى وتخرج من اليسرى، لا يخشع لها قلب ولا تهتز لها نفس، ولا يسيل على أثرها دمع "اللهم نعوذ بك من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع".
عبـاد الله: لقد أثنى الله - جل وعلا - في كتابه على البكّائين من خشية الله، وفي طاعة الله. الأتقياء الأنقياء، ذوى الحساسية المرهفة، الذين لا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم، من حب الله، وتعظيم له، وخشية وإجلال، فتفيض عيونهم بالدموع، قربة إلى الله وزلفى لديه. قال الله – تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء: 107 - 109] وقال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مريم: 58]. وقال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) [المائدة: 83]، وقال تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [النجم: 59 - 62]، ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر الناس ينبعثوا غازين معه، فجاءه عصابة من أصحابه، فقالوا يا رسول الله: أحملنا، فقال لهم: "والله لا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا وهم يبكون، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملاً، فأنزل الله عز وجل: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) [التوبة: 91، 92].
عبـاد الله: البكاء من خشية الله وصف شريف، ومسعى حميد، به وصف الله أنبياءه، والذين أوتواً العلم من عباده، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "رجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" [متفق عليه, ويمتاز البكاء في الخلوة، لأن الخلوة مدعاة إلى قسوة القلب، والجرأة على المعصية، فإذا ما جاهد الإنسان فيهاً، واستشعر عظمة الله فاضت عيناه، فاستحق أن يكون تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله. قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله" [رواه الترمذي] صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلقد قال ذلك بأبي هو وأمي -صلوات الله وسلامه عليه-، قال لك وهو أتقى الناس الله، وأخشى الناس لله، وأكثر الناس بكاء من خشية الله، ولقد كان للحبيب -صلى الله عليه وسلم- عين سحاء بالدموع، تارة رحمة للميت وتارة خوفاً على أمته وإشفاقاً، وأخرى من خشية الله عز وجل، وتارة عند سماع القرآن أو حضور الجنائز، يبكي وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكما أن بكاؤه إذا بكى من غير شهيق أو رفع صوت كانت تدمع عيناه حتى تهملا.
ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال له: "أقرأ على القرآن" فقال: أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري"، فقرأ من سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41] فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حسبك فإذا عيناه تذرفان".
قال ابن بطال والذي يظهر أنه بكى رحمة بأمته: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128] ويصدق ذلك ما رواه عبد الله عمرو بن العاص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تلا قوله عز وجل في إبراهيم عليه الصلاة والسلام (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم: 36], وقال عيسى عليه الصلاة السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118] فرفع الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يديه وقال: "اللهم أمتي أمتي" وبكى - عليه الصلاة والسلام - فقال الله - عز وجل -: "يا جبريل أذهب إلى محمد – وربك أعلم – فسله ما يبكيك، فأتاه جبريل -عليه الصلاة والسلام- فسأله فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما قال وهو أعلم – فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك".
فما أعطف ذلك القلب وما أرحمه وما أشفقه، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته, ونسأل الله أن يجمعنا به في مستقر رحمته.
وقد كسفت الشمس على عهده - عليه الصلاة والسلام - فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الكسوف, وجعل يبكي في صلاته ويقول: "رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم؟ رب ألم تعدني ألا تعذبهم وهم يستغفرون ونحن نستغفرك؟". وها هو عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه- يصف لنا صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخشوعه وبكاءه فيها فيقول: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى سمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء" أي كصوت القدر إذا أشتد غليانه.
وعن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة -رضي الله عنها- فقال عبيد حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبكت، فقالت: :قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة : "ذريني أتعبد لربي" قالت: قلت والله أني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت: فقام، فتطهر ثم قام يصلي؛ فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى، فلم يزل يبكى حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد أنزلت على الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 190]".
لقد كانت الصلاة مبعث راحته وتلاوة القرآن أنس فؤاده "أرحنا بالصلاة يا بلال" وإليها "كان يفزع إذا حزبه أمر", وكان للنبي صلى الله عليه وسلم بكاء ودموع على أصحابه رضوان الله عليهم تقول عائشة رضي الله عنها: :حضر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر سعدَ بن معاذ وهو يموت في القُبة التي ضربها عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، قالت: والذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر وإني لفي حجرتي فكانوا كما قال الله (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29].
أما سعد بن عبادة سيد الخزرج -رضي الله عنه- فقد أشتكى – أي مرض – فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم-، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله, فقال: "قد قضى؟" قالوا: لا يا رسول الله, فبكي النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما رأي القوم بكاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بكوا. إنها رحمة ألقاها الله في تلك النفس الطاهرة والقلب الرؤوف صلى الله عليه وسلم.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قبَّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن مظعون وهو ميت, حتى رأيت الدموع تسيل على وجهه -صلى الله عليه وسلم-، وكان أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من دفن بالبقيع رضي الله عنه. وعن أسماء قالت: دخل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعا بني جعفر وكان جعفر قد قتل في مؤتة, قالت: فرأيته شمهم وذرفت عيناه, فقلت يا رسول الله: أبلغك عن جعفر شيئاً؟ قال: نعم قتل اليوم، فقمنا نبكي، ورجع صلى الله عليه وسلم فقال: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً".
أيها الأخوة في الله: ولا يعرف المرء قدر أمه وما كان ينبغي لها من إحسانه وتحنانه بها ولها؛ إلا إذا فقدها حين ينزلها القبر ويحثوا عليها التراب. فها هو الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يزور قبر أمه فبكى وأبكى من حوله -حزناً على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به-, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت". قال تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [التوبة: 113] .
وتبلغ الرحمة مداها وتعلو ذرى سناها حينما يبكي محمد صلى الله عليه وسلم على الأطفال ومن أجلهم, فقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه بكى على ابنه إبراهيم حينما رآه يجود بنفسه، فجعلت عيناه تذرفان الدموع ثم قال: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون" [رواه البخاري ومسلم].
إن هذه الدموع التي سالت من عينه صلى الله عليه وسلم تمثل إحساساً نبيلاً، ومشاركة أسيفة للمحزونين والمكروبين، وهي لا تتعارض أبداً مع كونه صلى الله عليه وسلم مثلاً للشجاعة ورباطة الجأش، والرضى بقضاء الله وقدره، ولكنه بكاء المصطفى الكريم في مواطن الرحمة والإشفاق، ومن لا يرحم لا يُرحم (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29]. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: ما النجاة؟ ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعكم بيتك، وأبك على خطيئتك" [رواه أحمد والنسائي].
أيها المسلمــون: هذه حال النبي صلى الله عليه وسلم في بكائه من خشية الله، أخذها الصحابة رضوان الله عليهم. فقد روى الحاكم والبزار بسند حسن عن زيد بن أرقم قال: كنا مع أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فاستسقى، فقدم له قدح من عسل مشوب بماء، فلما قربه إلى فيه بكى وبكى، حتى أبكى من حوله، فما استطاعوا أن يسألوه عن سبب بكائه، فسكتوا وسكت، ثم رفع القدح إلى فيه مرة أخرى، فلما قربه من فيه بكى وبكى، حتى أبكى من حوله، ثم سكتوا فسكت بعد ذلك، وبدأ يمسح الدموع من عينيه رضي الله عنه، فقالوا: ما أبكاك يا خليفة رسول الله؟ قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكان ليس معنا فيه أحد، وهو يقول: إليك عني إليك عني، فقلت يا رسول الله: من تخاطب وليس ههنا أحد؟ قال صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا تمثلت لي فقلت لها: إليك عني، فقالت: إن نجوت مني فلن ينجو مني من بعدك، فخشيت من هذا.
أيها الأحبـــة: قام محمد بن المنكدر ذات ليلة فبكي، ثم اجتمع عليه أهله ليستعلموا عن سبب بكائه، فاستعجم لسانه، فدعوا أبا حازم، فلما دخل أبو حازم هدأ محمد بن المنكدر بعض الشيء، فسأله عن سبب بكائه فقال: تلوت قول الله جل وعلا: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر: 47] فبكى أبو حازم ، وعاد محمد بن المنكدر إلى البكاء، فقالوا: أتينا بك لتخفف عنه فزدته بكاء.
عبــاد الله: هذا بكاء السلف، وهذه دموع البكائين تسيل، ولسان حالهم يقول:
نَزَفَ البُكاءُ دُموعَ عَينِكَ فَاِستَعِر | عَيناً لِغَيرِكَ دَمعُها مِدرارُ |
مَن ذا يُعيرُكَ عَينَهُ تَبكي بِها | أَرَأَيتَ عَيناً لِلبُكاءِ تُعارُ |
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أنه لابد من القلق والبكاء، إما في زاوية التعبد والطاعة، أو في هاوية الطرد والإبعاد، فإما أن تحرق قلبك بنار الدموع على التقصير، والشوق إلى لقاء العلي القدير، وإلا فأعلم أن نار جهنم أشد حراً: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة: 82].
اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع. وبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الخطبـة الثـانيـــة:
الحمد لله تبارك وتعالى، يقضي بما شاء ويفعل ما يريد، وربك يخلق ما يشاء ويختار، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحاسب على الفتيل والقطمير، وكفى بالله حسيباً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من سعى وطاف، وأفضل من بكى لله وخاف صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله واخشوه واعلموا أن للبكاء من خشية الله فضل عظيم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع"، وقال: "حرَّم على عينين أن تنالهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس الإسلام وأهله من أهل الكفر". ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "رجل ذكر الله خالياً ففضلت عيناه" فهنيئاً لمن خرج من عينه قطرة دمع من خشية الله. هنيئاً لمن بكى خوفاً من الله، قال بعض السلف: "ابكوا من خشية الله, فإن لم تبكوا فتباكوا".
ولكن أنَّى لعين تنظر إلى ما حرم الله أن تبكي من خشية الله، وأنَّى لقلب غافل معرض، ممتلئ بالأحقاد والضغائن متلبس بالكبر والعجب, أنَّى له أن يخشع وينيب لله؟!
ونعوذ بالله من بك ماء النفاق، وهو أن تدمع العين والقلب قاس، فيظهر صاحبه الخشوع وهو من أقسى الناس قلباً.
إذا اختلطت دموع في خدود | تبين من بكى ممن تباكي |
"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" فالله الله بصلاح القلوب وخشيتها، ولن يكون لها ذلك إلا بالإكثار من ذكر الله وتلاوة القرآن والخشوع في الصلاة, وإطابة المطعم وحضور مجالس الذكر وعيادة المرضى, والإحسان إلى الفقراء وزيارة المقابر وتشيع الجنائز وتذكر الموت, وغيرها من الأعمال الصالحة.
اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم ارزقنا قلوباً خاشعة وألسنه ذاكرة وأعيناً دامعة ودعوة مستجابة ورزقاً حلالاً..