الإله
(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...
العربية
المؤلف | عاصم محمد الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزهد |
أيها الطين: ألا أذكرك بجميع المواد التي خُلقْتَ مِنْها؟ ألا أتلو عليك قول الله تعالى فيك وفي أصلك؟ مم خلقت؟ خُلِقْتَ: (مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) [الطارق:6-7]. مم خلقت أيها الطين؟ يجيبك رب الطين: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون:12]. مم خلقت أيها الحمأ المسنون؟ يجيبك رب...
الحمْدُ للهِ سابغِ النُّعْمَى على كُلِّ أَحَدْ..
يخلق الخلق وما شاء قصد..
كُلُّ شيءٍ حَدُّهُ باقٍ وما لِلْفَضْلِ مِنْهُ أيُّ حَدّْ
جل ربي واحدٌ
جل ربي
ما سواه كل شيء مسترَدّ
لا تُعِد الزاد يا ابنَ الطينِ لليومِ..
أعِدَّ الزاد يا ابنَ الطين والتربِ لغد
سوف يأتي اليوم.. كلٌ راحل
سوف سيأتي
وإلى الله المَرَدّْ
لا تقل باقٍ
سيأتي اليوم..
فيه تسمع الكون ينادي: قل هو الله أحد
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته، وأشهد أن محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله، صلى عليه الله، نبي الله
يا من ذرفتَ من العينين أدمعها | والنفسُ ذائبةٌ شوقا لمرآنا |
مشاعري تعبت عن وصف لهفتها | إليكمُ ولهيب الشوق أضنانا |
فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
نسِيَ الطِّينُ ساعةً أنَّهُ طينٌ حقيرٌ | فصالَ تِيهَاً وَعَرْبَدْ |
أيّها الطينُ لستَ أنْقَى وَأَسْمَى | مِنْ تُرَابٍ تدوسُ أو تتوسَّدْ |
سُدتَّ أوْ لم تسُدْ فما أنت إلاّ | حَيَوَانٌ مُسَيَّرٌ مُسْتَعْبَدْ |
يُحكى أن ترابا مزج بماءِ حتى غدا طينا، ثم بقيت هذه الطينة ما شاء الله أن تبقى، حتى غدت طينة سوداء، ثم يبست هذه الطينةُ حتى غدت صلصالا كالفخار، ثم تحول هذا الصلصالُ إلى إنسان.
إنها ليست حكاية كالحكايات، إنها حكاية يرويها الله عز وجل في أصدق كتابٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هي الحكاية مروية فيك أنت ولا غيرك.
أنت طينٌ قد جئتَ من صنع ربي | فعلامَ الصدودُ والنِّسْيَانُ؟ |
أيها الطين، أنتَ، ما لك تنسى؟ | وعلام الطُّغْيَانُ والهجران؟! |
أَنَسِيتَ الّذي اعتراك قديماً | [ما الذي غرّ أيها] الإنسانُ؟ |
فاستفِقْ من هواكَ، وانظر لأصلٍ | واعتَبِرْ منه إنَّهُ العُنْوان |
أيها الطين: إنها رسائلُ طينيةٌ أبعثها على عجل، فكن لبيباً على علاتها فطِنا.
رسالة الطين الأولى: من أي شيء خلقت؟ هذه المادةُ التي خُلقْتَ منها ذكرها الله تعالى في كتابه مراتٍ كثيرة، لأي شيءٍ يذكّرك الله بها؟ وما نوع العظمة التي في هذه الطينة؟ أخُلقت من نور؟ أخلقت من مادة العلو؟ أخلقت من حجر كريم؟ أخلقت من ياقوتة من يواقيت الجنة أم من مرجانها؟ أم خلقت من زبرجدها أم من فضتها؟ من أي شيءٍ أنت؟ ومن ماذا؟
يختصر الله كل سؤالاتك بقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ) [الحجر:26].
حتى إبليس؛ لما علم خلقك، احتقر أصلك، وفاخر بخلقه على خلقك، ولله الحكمة البالغة في تقديمك ورفعتك! ولله الحكمة بأن أمر الذين خُلقوا من نورٍ أن يسجدوا لك! ولله الحكمة البالغة في ذاك لكي يعلم الشيطان الرجيم أن العلو والرفعة ليست بالأصل؛ وإنما بالعمل.
أيها الطين: ألا أذكرك بجميع المواد التي خُلقْتَ مِنْها؟ ألا أتلو عليك قول الله –تعالى- فيك وفي أصلك؟ مم خلقت؟ خُلِقْتَ: (مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) [الطارق:6-7].
مم خلقت أيها الطين؟ يجيبك رب الطين: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون:12]. مم خلقت أيها الحمأ المسنون؟ يجيبك رب الحمأ المسنون: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ) [الحجر:26].
أيها الناس: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) [الحج:5].
يذكرك الله عز وجل بأصلك، ويزجرُك بكل هذه الزواجر؛ أتراه، حين فعل ذلك، يريد منك أن تتكبر عليه وعلى عبادته؟ أُقسِم لك أيها الطين، بربِّ الطين، أنك لست أنقى وأسمى مِن تراب تدوس أو تتوسد!.
أخبرني إذن!
هل تأكل النُّضارَ إِذَا جُعْــــ | ـــتَ أو تشربُ الجُمَانَ الْمُنَضَّدْ؟ |
أخبرني!
هل تصنع الحرير الذي تلــ | ـبس واللؤلؤ الذي تتقلّدْ؟ |
أجميل أنت؟ ما أنت أبهى | من ورود الشَّذَى ولا أنت أجود |
أعزيزٌ أنت، للبعوضة من خدّيـــ | ـــكَ قوتٌ وفي يديك المهنَّد! |
أغنيّ أنت؟ هيهات تختال | لولا دودة القز بالحباء المبجد |
أقوي أنت؟ إذن مر النو | مَ إذ يغشاك والليل عن جفونك يرتَدّْ |
وامنع الشيب أن يلمّ بفوديــ | ــكَ ومُر تلبث النضارة في الخد |
أعليمٌ؟ فما الخيال الذي يطْرُقُ ليلاً | في أيّ دنيا يولد |
ما الحياة التي تبين وتخفى | ما الزمان الذي يُذمّ ويحمد |
أيها الطين لست أنقى وأسمى | من تراب تدوس أو تتوسّدْ |
سدتَّ أو لم تسد فما أنت إلاّ | حيوانٌ مُسَيَّرٌ مُسْتَعْبَدْ |
إنّ قصرا سمكته سوف يندكُّ | وثوبا حبَكْتَهُ سوف ينقد |
لا يكن للخصام قلبك مأوىً | واعْبُدِ اللهَ إنَّهُ مَن يُعْبَدْ |
يقول الأحنف -رحمه الله-: عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين؛ كيف يتكبر على الله! عجبت! كيف تكون طينته سببا في كبريائه؟
أيها الطين:
انظُرْ خَلاءَكَ! إنَّ النَّتْنَ تَثْرِيبُ | |
لو فكّر الناسُ فيما في بطونهمُ | ما استشعرَ الكِبْرَ شبّانٌ ولا شِيبُ |
هل في ابن آدمَ مثلُ الرأس مَكْرُمَةً | وهْوَ بخمسٍ من الآفات مضروب؟ |
أنف يسيل وأذن ريحها سَهكٌ | والعين مُرمَصَةٌ والثغرُ ملعوبُ |
بالله أيها الطين: خبرني:
كيف يزهو مَن رجيعُهْ | أَبَدَ الدّهر ضَجِيعُهْ |
فهو منه وبجوفِهْ | وأخوه ورضيعُه |
وهو يدعوه إلى الــ | ــحش بصغر فيطيعه |
رسالة الطين الثانية: وما كانت دارك يا بن الطين إلا غرورا! إن بكاءً يبكيه المولود يوم ولادته، هو أصدق نغمةٍ خرجت من بني الإنسان، إنها أصدق لهجة عرفها أبناء الطين، تذهب الضحكات، والبسمات، والخطرات، والسهرات والغدوات، وتبقى الصيحات والحسرات! كل هناءاتك المزورة في هذه الدنيا، ليس لك منها إلا الذكرى التي تتجرعها يوم الغدو الأكبر على الله، تغدو وتروح في هذه الدنيا وليس لك منها إلا ما عمِلْتَ! أي شيء يملأ بطنك وحسك وأفراحك يا ابن الطين، وأنت تعلم أنك لست بباقٍ على هذي الحياة؟ أي شيء يملأ أمانيك وأنت الذي تعلم أن عمرَك ليس بيدك، وأن مفتاح آخرتك هو ملكُ غيرك؟!.
أيَّ شيء يا ابن الطين يُرضي كبرياءك، في هذه الدنيا، أي شيء؟ أغرك عنفوانك؟ أغرك شبابك؟ أخبرني! أغرك ماء الحياة الذي يلمع في خديك؟ أغرتك العروق الخضر التي تلمع في ساقيك؟!.
أيَّ شيء غرك؟ أشبابك؟ ما أنت أحسنُ شباباً من سليمان بنِ عبد الملك
حين نظر في المرآة يوما ثم أعجبته نفسه؛ ثم قال لنفسه: "أنا الملك الشاب، أنا الملك الشاب"، فقالت له جارية له:
أنتَ نعمَ المتاعُ لو كنتَ تبقى | غيرَ أنْ لا بقاءَ للإنسانِ |
ليس فيما بدا لنا منكَ عيبٌ | كان في الناس غير أنَّك فانِ |
فاغتم غماً شديداً، ثم مات من ليلته. ما أنت أحسنُ منه!.
أيها الطين: قل لي: أيَّ شيء غرك في هذه الدنيا؟ أغرك مالُك؟ إن كان كذلك فإني أخبرك أن قارون الذي كان من قوم موسى ما نفعه أن كان من قوم موسى!.
أغرك مالك؟ يقول لك قارون بلسان متقطع: "إن مفاتيح كنوزي -غير كنوزي- قد ناء بها العصبة أولو القوة، ولكنها خَسَفَتْ بي حين كفرت بها".
أغرك مالك؟
لا تغرنْكَ كثْرةُ الزّادِ زهواً | إن عقبى الأزوادِ يومُ حساب |
لك أن تعد كلَّ ما ملك المالكون من آدم -عليه السلام- إلى يومنا هذا؛ أين كانت أزوادهم وأموالهم وممالكهم؟
ذهب الردى فيها وما ملكوا | وتحولوا من بعدهنّ حديثا |
يبتني هارون الرشيدُ قصرَه العظيم، ليفاخر به، ثم يروحُ عليه الغاوونَ من الشعراء ليملؤوا كبرياءه بما شاده من أبهة وعز ومنعة، ثم يقول: أدْخِلوا عليّ أبا العتاهية! أدْخِلُوه عليّ! ليدخل عليه، ثم يقولُ له: ما كنتَ قائلاً فيما رأيتَ يا أبا العتاهية؟ ليقولَ أبو العتاهية بيتين هدم بهما قصر هذا الملكِ العظيم وما ملَكْ!
عش ما بدا لك سالماً | في ظِلِّ شاهقةِ القُصُورِ |
يُغدَى عليكَ بما أردتَّ | مع الرواح مع البكورِ |
وإذا النفوسُ تَقَعْقَعَتْ | في ظِلِّ حَشْرَجَةِ الصُّدُور |
فهناك تعلم مُوقِنَاً | ما كُنْتَ إلا في غُرور |
ليُهدم القصرُ بعدها، ألا ما أحقر قصرا هدمه بيتان! ما كان مالُكَ يا ابنَ الطين إلا غرورا!.
أيها الطين: ما أحقر دنياك! وأحقِرْ بها وأنت تلهث وراءها! ملعونة هذه الدنيا "وملعونٌ ما فيها، إلا ذكر الله، وما والاه، وعالما أو متعلماً" كما روى الترمذي.
أيها الطين: هذه الدنيا؛ أما جاءك من نبأها اليقين؟ أما جاءك عنها أنها إذا حلَت أوحلَت، وإذا كست أركست، وإذا جلَت أوجلت، وإذا أينعَت نعَت...؟.
أيها الطين: إنه ليأخذنا الخجل من الله أن تأخذنا هذه الدنيا، وهي لا تزن في ميزان الله جناح بعوضة! ولو كانت تزن ذاك "ما سقى منها كافرا شربة ماء"!.
أيها الطين: إنه ليأخذنا الخجل أن تأخذَنا هذه الحياةُ الدنيا، بكل زورها وخداعها وننسى أن عملاً يسيرا نتزود به للآخرة خير منها والذي فيها!.
أيها الطين: هل تنتظر صيحة تصخ من حولك، أو زلزلة تدفن جيرانك، أو بركاناً يثور فيك حتى يأخذك الخجل؟ هل تنتظرْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا؟ أَوِ الدَّجَّالَ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ! أَوِ السَّاعَةَ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ!.
أيها الطين: يأخذنا الخجل والله، أن نعقد أدنى مقارنة بين صفقات الدنيا والآخرة، إن تكبيرة الإحرام خير من الدنيا وما فيها، إذن؛ فما أجر الصلاة كلِّها؟ تفٍّ على دنيانا حين لا نُروى بها يوم الظمأ!
تُفٍّ عليها حين لا توفي لنا يوم السغب
تف عليها حين لا نرضى بها يوم الغضب
تف عليها حين نعلم أن حسرتنا من الدنيا السبب!
ألا يأخذك الخجل أن تأخذَك هذه الدنيا وترضى بها، ورسول الله يقص عليك أن موضع سوطِ أحدنا في الجنة خيرُ من الدنيا وما فيها؟ وتأخذك الغفلة أن تعبد الله ليوم هذا السوط الكريم ألا يأخذك الخجل من الله أن نعبد هذه الدنيا وقد أقسم رسول الله عن حورية من السماء أنها لو اطلعت على هذه الأرض لملأت ما بينهما ريحا، ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفُها على رأسها خير من الدنيا وما فيها؟ بلى؛ يأخذنا الخجل.
والله لم تخرج إلى الدنيا للذ | ة عيشها أو للحُطَامِ الفاني |
لكنْ خَرَجْتَ لكي تعدّ الزاد للـ | أخرى فجئتَ بأقبح الخسران |
أهمَلْتَ جمْعَ الزاد حتى فات بلْ | فات الذي ألهاك عن ذا الشانِ |
والله لو أنّ القلوبَ سليمةٌ | لتقطَّعَتْ أَسَفَاً مِن الحرمان |
لكنها سَكْرَى بحُبِّ حَيَاتِها الد | نيا وسوف تفيق بعد زمان |
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَامَاً وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20].
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أحلامُ نوْمٍ أو كَظِلٍّ زائلِ | إنَّ اللبيبَ بمثلها لا يُخدعُ |
روى الترمذي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: نام رسول الله يوما على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتَّخذنا لك وطاءً؟ فقال: "ما لي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".
رسالة الطين الثالثة: "والله، ما الفقرَ أخشى عليكم! ولكنْ أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم".
يقسم رسول الله أنه لم ولن يخشى علينا الفقر، فلم الخشية إذن؟ إن رب الطيورِ التي تغدو خماصا وتروح بطانا هو ربنا، فلم الخشية إذن؟ أتخشى أن تموت جوعا؟ حسبك، حسبك! فقد حدثنا الصادق المصدوق أنه "لن تموتَ نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها".
أتخشى حين تلهث وراء الدنيا أن يموت أولادك جوعا؟ حسبك حسبك، شكا رجل إلى إبراهيمَ بنِ أدهمٍ كثرةَ العيال، فقال: ابعث إلي منهم من ليس رزقه على الله.
أتخشى أن تموت فقرا؟ لن تموت! ولو مُت فقرا، إنه لخير لك من أن تموت ومالُك يغدى به ويراح، وليس لك منه يوم القيامة إلا الحساب! أتخشى أن تموت فقرا؟ والله لو مُت فقرا إنه لخير لك من أن تدخر أموالك، لتموت، ثم تأتي يوم القيامة وقد أثقلتك السؤالات عنها: من أين لك هذا؟ وفيم أنفقته؟ أتخشى أن تموت فقرا؟ لن تموت، ولو مت إنه لخير لك من أن يكون عليك غُرمها ولغيرك غُنمها!.
إنها ليست دعوةً للزهد المنحرف عن السواء، فإنه "نعم المالُ الصالح للرجلِ الصالح"؛ ولكنها دعوةٌ لترك التنافس في جمعها لذات جمعها، حتى لا يحق بنا قول مَن قال:
وذي حرصٍ تراه يلمُّ وفْرَاً | لوارثه ويدفع عن حماهُ |
ككلْبِ الصيد يمسك وهْوَ طاوٍ | فريستَهُ ليأكلَها سواه |
لن تندمَ حين لا ينفع الندم، حين تؤثر أزمانك بالتزود ليوم الرحيل، لن تندمَ حين لا ينفع الندم حين تعملُ لأخراك، بدلا من أولاك، لن تندمَ حين ترى غيرك يجمع كل ثرواته في الدنيا، ثم تنصرف عن ذلك ليس كرها في الدنيا، وإنما حباً لما عند الله، والله لن تندم! لن تندم حين تكونُ لك خبيئة عمل لا يعلم بها إلا الله لتأتيَ يوم القيامة، وقد ابيض منها وجهك، وافتر منها مبسمك!.
أتراك تندم؟ والله لن تندم! لن تندم حين تقفُ قليلا وتحاسب نفسك عما مضى وتقول لنفسك:
يا زائر القبر عن قليلِ | ماذا تَزَوَّدتَّ للرحيل |
لتجدها في ميزان صحائفك يوم الورود على الله.
والله! لو عاش الفتى في عمْرِهِ | ألفاً من الأعوام مالِكَ أمْرِهِ |
متنعِّمَاً فيها بِكُلِّ لذيذةٍ | متلذذا فيها بسكنى قصْرِهِ |
لا يعتريه الهمُّ طول حياته | كلا ولا ترد الهموم لعمره |
ماكان ذلك كلُّه في أن يفي | فيها بأوَّلِ ليلةٍ في قبره! |
لن تندم حين تعبد الله سنياتٍ يسيرات، لتكون مُعَادِلةً عند الله للخلد الأبدي السرمدي، قَدِّرْ ثُمَّ قَدِّرْ ثُمَّ قَدِّرْ! فو الله! لن تستطيعَ أنت ودنياك وكلّ ما استطعته من كتابة أرقام أن تقترب من رقم الخلود في دار الخلود! ولذا فإنك لن تندم حين تحمل عصا الرحيل ليوم الرحيل!.
أيها الطين: إني أهبك المعادلة العظمى، كلما آثرت أخراك على دنياك كلما امتلأت عليك دنياك! "من كانت الدنيا أكبرَ همِّه؛ شتت الله شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ماكتب له. ومن كانت الآخرةُ أكبرَ همه؛ جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".
لما عقر سليمان -عليه السلام- خيله غضباً لله حين أشغلته عن ذكره لكي لا تشغله مرةً أخرى أعاضه الله عنها متن الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب!.
ولما ترك الصحابة رضوان الله عليهم ديارهم وخرجوا منها في مرضاة الله سبحانه أعاضهم عن ذلك بأن ملكهم الدنيا وفتحها عليهم!.
كالفضاءات البعيدهْ..
كان فتح الله للجيل المجيد بحقبة الماضي المجيدهْ..
هنِئُوا بدنياهمْ وآخرة تكون بهم سعيدهْ
ولما بذل الشهداء أبدانهم لله حتى مزّقها أعداؤهم شكر الله لهم ذلك بأن أعاضهم عنها طيراً خضراً، أقر أرواحهم فيها، ترِد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها إلى يوم البعث، فإذا كان يومُ البعث رد عليهم أبدانهم خير ما تكون وأجمله وأبهاه!.
أيها الحبيب: أين هي خشيتك؟ أين دمعتك؟ أين خلوتك بربك؟ أين صحوتك؟ هل تذكر تلك الدموع التي أسبلتها حين كنت وحدك خوفاً من ربك؟ أين ذهبت ذكرياتك الجميلة في وحدتك؟ تقرأ القرآن ثم تحاسب نفسك، وتخضب خديك بالدموع؟!.
كنت أتذكرك -أيها الحبيب- حين قرأتُ عليك يوما حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، ومنهم: "رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه"؛ ثم أراك وقد فاضت عيناك من خشية الله.
كنت أتذكرك ونحن نتلو قول الله يوماً: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)، ثم أراك تخشع، وأراك تتمتم كأنك تقول: قد آن يا ربي! قد آن!.
ما أجمله من حين! وما أجملها من ذكرى! تهزني هذه الذكرى الجميلة التي أتذكرها قبلَ عقد من الزمان، حين فتحت أحد الأبواب لدار تحفيظِ قرآن صيفية، فرأيت خمسة من الشباب الصغار يتلون كتاب الله وحدهم، وكل واحد منهم يتلو ما تيسر له!.
كم كانت الذكرى جميلة حين فتحت عليهم الباب فإذا بي أجدهم قد أطرقوا رؤوسهم من خشية الله، ولهم أنين تقطعت منه القلوب! كم كان أثرها محفورا! والله! لن تغيب عني هذه الذكرى، فكيف تغيب عن علام الغيوب؟!.
أيها الحبيب:
هل أنت معتبرٌ بِمنْ خربَتْ | منه غداة قَضَى دَسَاكِرُهُ |
وبمن أذلَّ الدهرُ مَصْرَعَهُ | فَتَبَرَّأَتْ مِنْهُ عَسَاكِرُهُ |
وبمن خلت منه أَسِرَّتُهُ | وتعطَّلَتْ منه منابرُه |
أين الملوك وأين عِزُّهُمُ | صاروا مصِيراً أنت صائره |
يا مؤثر الدنيا لِلَذَّتِهِ | والمستعدُّ لِمنْ يُفاخِرُهُ |
نل ما بدا لك أن تنال من الدُّ | نيا فإن الموت آخرُهُ |
لما مات الإمام الجنيد -رحمه الله- رآه بعض الناس في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: يا بني، طاحت تلك الإشارات، وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم التي عكفنا عليها، ونفدت تلك الرسوم، وما نفعنا إلا ركيعاتٌ كنا نركعها في الأسحار.
اعمل ليوم أن تكون إذا بَكَوْا | في يوم موتك ضاحكا مسرورا! |
اللهم أيقظ قلوبنا من رقدة الغفلة، وأعِنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك...