الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
فالذين يستجيبون لله وللرسول ظاهراً وباطناً هم الأحياء في عالم الأموات وإن كانوا أقل الناس مالاً وعلماً وعدة وعدداً، وهم السعداء رغم فقرهم وحاجتهم، وهم الأغنياء وإن قلَّت ذات أيديهم، وهم الأعزة وإن قلَّ الأهل والعشيرة؛ وغيرهم هم الأموات حقيقةً وإن كانوا أحياء الأبدان، يَسْعَوْنَ...
الحمد لله المتفرِّدِ بالعظمة والبقاء والدوام، يكوِّر الليل على النهار، ويكوِّر النهار على الليل، ويصرّف الشهور والأعوام، لا إله إلا هو، الخلقُ خلقه، والأمر أمرُه، فتبارك ذو الجلال والإكرام.
أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، والى علينا نعَمَه، وتابع علينا آلاءه، وبالشكر يزيد الإنعام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قدّر الأمور بإحكام، وأجراها على أحسن نظام، وأشهد أن سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، أفضل الرسل وسيّد الأنام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الأطهار وأصحابه الكرام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليمـــا كثـــيرا على الدوام.
أما بعـد: عبـاد الله: يقول -عز وجل- في محكم كتابه: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ وأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال: 24].
فكيف يدعونا الله إلى الحياة ونحن أحياء؟ وما هي الحياة الحقيقية؟ وهل تعني الحياة الأكل والشرب والعمل وبناء المدن وتشييد المباني وصناعة الآلات؟ وهل تعني الحياة كثرة الاختراعات والانغماس في الشهوات والملذات؟ وماذا يريد الله بهذا الخطاب؟.
إن الله -سبحانه وتعالى- يوجهنا في هذا الخطاب إلى أمر عظيم، ألا وهو بيان أن حياة الإنسان الحقيقية تبدأ عندما يستجيب لأمر الله ورسوله، ويلتزم به، ويطبقه في واقع حياته، قال -تعالى-: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:122].
فالذين يستجيبون لله وللرسول ظاهراً وباطناً هم الأحياء في عالم الأموات وإن كانوا أقل الناس مالاً وعلماً وعدة وعدداً، وهم السعداء رغم فقرهم وحاجتهم، وهم الأغنياء وإن قلَّت ذات أيديهم، وهم الأعزة وإن قلَّ الأهل والعشيرة؛ وغيرهم هم الأموات حقيقةً وإن كانوا أحياء الأبدان، يَسْعَوْنَ بين الناس ذهاباً و إيابا، ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ومَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل:21].
فعلى قدر الاستجابة تكون الحياة، فهي مراتب، كلما زاد العبد في الاستجابة لله وطاعة أوامره زاده الله حياة طيبة سعيدة؛ قال ابن القيم -رحمه الله-: "والخبر أن من ترك الاستجابة له ولرسوله، حال بينه وبين قلبه عقوبة له على ترك الاستجابة، فإنه -سبحانه- يعاقب القلوب بإزاغتها عن هداها ثانيًا كما زاغت هي عنه أولاً؛ قال -تعالى-: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف:5]" بدائع التفسير 2/334.
قال -تعالى-: (واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ وأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال:24].
أيها المؤمنون عبــاد الله: إن من أعظم أسباب مشاكلنا الأسرية والاجتماعية والثقافية؛ بل حتى السياسية منها، ضعف الاستجابة لأمر الله ورسوله، وهو نقسه سبب ضعف هذه الأمة وتفرقها، فهناك من أبناء هذه الأمة مَن لا يقبلون من الدين إلا ما وافق هواهم، وسعت إليه نفوسهم، حقاً كان أو باطلاً.
وانظروا -رحمكم الله- إلى الخصومات بين الناس، وهو مثل بسيط على مستوى البيت أو الأسرة أو الحارة أو المؤسسة، وما بين الأحزاب والجماعات والقبائل؛ ما الذي يضبط العلاقات بين الناس؟ وما هو الشيء الذي يوجه سلوكهم ويتحكم في تصرفاتهم؟ هل هي أوامر الدين كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟ أم أننا نحتكم إلى الهوى وحب الذات والرغبة في السيطرة؟ وتنقلب بذلك حياة الناس إلى تعاسة وشقاء!.
لقد كان المجتمع المسلم الأول يقود الحياة في جميع جوانبها؛ انطلاقاً من أوامر الدين وتوجيهاته، ولم تكن عندهم هذه المزاجية، ولا هذا الكبر واتباع الهوى؛ بل كانوا إذا سمعوا: قال الله، قال رسوله؛ قالوا: سمعنا وأطعنا! وبادروا إلى العمل والتطبيق، ولو كان ذلك الأمر أو ذلك التوجيه يخالف أهواءهم ورغباتهم وأمنياتهم.
ولن يكون مؤمناً ذاك الذي يُعرض عن أوامر الدين وتوجيهاته، ولا يستجيب لها، فإن الاستجابة لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم- هي المحكُّ الحقيقي والمظهر العملي للإيمان: (إنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [آل عمران:169].
يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من المسلمين يلبس خاتماً وهو محرّم على الرجال، فأمره بنزعه، فماذا فعل الرجل؟ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه وقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده"، فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله! لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. رواه مسلم.
فأي اتباع هذا؟ وأي استجابة هذه؟ لم يتعلل، ولم يناقش، ولم يستفسر، ولم يأت بالمبررات كما يفعل بعض أبناء المسلمين اليوم.
والعاقبة هي الحياة الطيبة، ورضوان الله وجنته، قال -تعالى-: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [الرعد:18].
ستذهب اللذات والأموال والجيوش والأتباع، ولن ينفع إلا الاستجابة لأمر الله ورسوله، وإخضاع العبد كل رغباته وشهواته للدين، والمغرور من غرته دنياه.
عبــاد الله: إن معنى الاستجابة لله أن تخضع رغباتك -أيها المسلم- وأهواءك وتصرفاتك لدين الله -عز وجل- في كل صغير وكبير من أمرك، ولا خيار لك في ذلك، وهي الحياة الحقيقية التي دعانا الله إليها، ولكنها ليست أيَّ حياة، وإنما هي الحياة الكريمة العزيزة، الحياة الحقيقية الكاملة، التي يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات، فإن هذه المخلوقات تحيا حياة بهيمية، لا تعرف لها غاية نبيلة تسعى إليها، ولا رسالة تحيا من أجلها وتكافح في سبيلها.
فحسبُ مثل هذا الإنسان دريهمات يملأ بها جيبه، أو لقيمات تملأ معدته الفارغة، وثياب تكسو جسده العاري، وليكن بعد ذلك ما يكون، فهو لا يسعى لأكثر من هذا! وهذه الحياة أبشع صور الحياة، وهي صورة وصف الله بها اليهود بقوله -سبحانه وتعالى-: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) [البقرة:96].
كانوا يجاهرون بمعصية الله بكل وقاحة، كما قال -سبحانه- عنهم: (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) [النساء:46].
فكانت النتيجة: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [آل عمران:112].
أما أهل الإيمان؛ فإنهم يسارعون للاستجابة والعمل، وقد أثنى عليهم ربهم بذلك فقال على لسانهم: (رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وآتِنَا مَا وعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ) [آل عمران:192-193].
وانظروا -رحمكم الله- إلى عظمة هذه الأمة وحسن الاستجابة والاتباع عندما نزل قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:90]، فقد جاء في صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا".
وهذا شيء عجيب في تحقيق الاستجابة والاتباع، فترك الخمر لمن أدمن عليها عشرات السنين بمجرد هذا القول يدل على قوة الإيمان وصدق الامتثال لأمر الله ورسوله.
ويوم فتح خيبر والمسلمون قد بلغ بهم الفقر والجوع مبلغا حتى إن احدهم ليربط على بطنه من شدة الجوع، ولم يكن لهم طعام سوى الماء والتمر، فتح الله عليهم بعض الحصون فوجدوا حميراً، فاختاروا عشرين منها، ونحروها، وسلخوها، ووضعوها في القدور، وأوقدوا تحتها النار، وراحت القدور تغلي، وبطونهم تغلي معها من الجوع.
وحين نضج اللحم وأصبح جاهزاً للأكل، جاء الامتحان الرباني على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فأمر أبا طلحة فنادى: "إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر".
قال أبو ثعلبة -رضي الله عنه-: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر، والناس جياع، فأصبنا بها حمراً إنسية فذبحناها، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمر عبد الرحمن بن عوف فنادى في الناس: "إن لحوم الحمر لا تحل لمن يشهد أني رسول الله" رواه الإمام أحمد والشيخان.
وانظروا: لم يأت الأمر بالتحريم قبل النحر أو قبل الذبح أو قبل السلخ أو قبل الطهي، إنما جاء الأمر الرباني بعد كل هذه الأمور في أعسر امتحان للنفس البشرية، والقدور تفور باللحم، ونفذوا الأمر بدون تردد، فكفئت القدور، ولم يتناول مسلم ولو نهشة واحدة، ولم تسجل مخالفة واحدة، إذ جاء التنفيذ كاملاً من الجميع؛ فكانت النتيجة أن فتح الله لهم الحصون، فغنموا طعاماً وشراباً وأموالاً كثيرة من الذهب والفضة وعتاداً وسلاحاً كثيراً.
ويوم أن جاء الأمر الرباني بتحويل القبلة من المسجد الأقصى الذي تحاك حوله المؤامرات هذه الأيام إلى البيت الحرام ليتميز المسلمون في كل شيء، بلغ المسلمين الخبر في أطراف المدينة وهم في الصلاة، يروي هذه الحادثة الصحابي الجليل عَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- فيقول: "بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ" رواه البخاري.
إنهم لم ينتظروا حتى يكملوا الصلاة، بل استداروا وهم ركوع في الصلاة خشية أن يقعوا في دائرة معصية الله ورسوله، لقد هزموا بالاستجابة لأمر الله ورسوله ثورة نفوسهم وحظوظهم الدنيوية وعصبياتهم الجاهلية.
هذا معقل بن يسار -رضي الله عنه-: زوج أخته رجلاً من الصحابة وأعانه على تكاليف الزواج ويسر له الأمر، حتى إذا مر به زمن طلقها طلاقًا رجعيًا، فلما خرجت من عدتها أراد أن يرجع إليها فذهب ليخطبها، فقال معقل -وقد غضب من فعله، كيف يزوجه ويعينه ثم يطلق، ضع نفسك مكانه!-، قال: زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها؟ لا والله لا تعود إليك أبدًا.
وكان رجلاً لا بأس به، والمرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعُروفِ) [البقرة:232. فلما سمعها معقل قال: الآن أفعل يا رسول الله، فزوجها إياه. رواه البخاري.
عجبًا والله! ما الذي حل غضب معقل، وما الذي أزال حنقه؟! إنه تعظيم أمر الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فماذا نقول اليوم وكثير من الناس تذكره بشرع الله وتدله على الحلال وتحذره من الحرام وهو لا يبالي؛ بل تأخذه العزة بالإثم والعياذ بالله!.
تقول له: الربا حرام، يرد عليك: كل الناس يتعاملون به. الرشوة لا تجوز، يرد عليك: إذا لم آخذها أنا فسيأخذها غيري من الموظفين. شعارهم:
وهل أنا إلا من غزيةَ إن غوت | غوَيْتُ وإن ترشد غزية أرشد |
ذلك الشعار الجاهلي الذي يغيب عقل الإنسان عن الاتباع والهدى والخير.
تقول لأحدهم: الغيبة! النميمة! أعراض الناس! احفظوا ألسنتكم! لا تجوز هذه الأعمال! يرد عليك: قلوبنا صافية ونحن نمزح فقط. الله أكبر! تمزح في كبيرة من كبائر الذنوب.
وهناك من تذكرة بحرمة الدماء والأعراض والأموال فيرد عليك: الحياة فرص! أو أنه يعمل ذلك من أجل فلان وعلان من الناس فلا يحتكم إلى دين أو شرع.
وتجد تلك المرأة التي تؤمر بالطهر والعفاف وبالحجاب، وأنه فريضةٌ من الله وفيه خير الدنيا وسعادة الآخرة، ترد عليك وأنت تسألها: لماذا لا تستجيبين لأمر الله؟ فإذا بها تحدثك عن التطور والحداثة ومسايرة العصر، وأن الإيمان في القلوب، والله -تعالى- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [الأنفال:20-22].
وقال -تعالى-: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص:50].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عبــــــاد اللـه: اعلموا أن للاستجابة لأمر الله ورسوله ثماراً في الدنيا والآخرة، فمن استجاب لله؛ استجاب الله له، يقول -تعالى-: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) [آل عمران:195].
وقال -عز وجل- مبيناً نتيجة الفريقين: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [الرعد:18].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي"، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبي؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" رواه البخاري.
والاستجابة سبب من أسباب إجابة الدعاء؛ فهي طريق لرضا الله -تعالى-، فتحقيق الإيمان وامتثال أوامر الله -تعالى- جعلها الله -تعالى- من شروط إجابة الدعاء، فقال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186].
ومن فوائد وثمار الاستجابة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- مغفرة الذنوب, قال -تعالى- على لسان الجنِّ: (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف:31].
إن الإعراض عن منهج الله وعدم الاستجابة لأوامر الشرع في أقوالنا وأفعالنا وتصرفاتنا يجلب على الأمة والمجتمع كثيراً من الويلات والمصائب، وتحل العداوة والبغضاء بين الناس بسبب ذلك، بين الرجل وزوجته وأولاده، وبين المدير وموظفيه، وبين المعلم وطلابه، وبين الجار وجيرانه، وبين الحاكم والمحكوم، وهي سنة الله في خلقه، حكاها في كتابه فقال -تعالى-: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [المائدة:14].
عبــاد الله: ومن ثمرات الاستجابة النصر والتمكين لهذه الأمة أفراداً وشعوباً ومجتمعات، وما فتحت ممالك الأرض شرقاً وغرباً في بلاد فارس والروم وأفريقيا والأندلس والصين وشرق آسيا وأوربا إلا بالاستجابة لأمر الله ورسوله، وما تطورت حضارة المسلمين في جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والأدبية إلا بسبب ذلك.
ولم تكن الاستجابة لأمر الله ورسوله في يوم من الأيام عائقاً لبناء هذه الحياة بمفهومها الحقيقي، ذلك أن الإسلام يملك الطاقات الفكرية والروحية والأخلاقية التي تكفل الحياة الطيبة للإنسان المسلم -وحتى غير المسلم- بما أوجبت من حقوق وواجبات وبما شرعت من قيم وأخلاق.
وما ضعفت أمتنا وساءت أحوالنا واستبد بنا غيرنا، وما تسلط علينا الظلمة وسفكت دماؤنا واحتلت أراضي المسلمين واستبيحت مقدساتهم، ما حدث ذلك كله إلا عندما تعلقنا بغير الإسلام، واعتقدنا أن هذه الحضارة المادية هي طريق الحياة السعيدة، فزادت تعاستنا، وكثرت مشاكلنا، واستمر ضعفنا.
فما أحوجنا اليوم إلى أن نقيم شرع الله في حياتنا! فيعرف كل واحد منا حقوقه وواجباته فيلتزم بها ويؤديها كما أُمِر، وما أحوجنا إلى إحياء قيم الخير في نفوسنا لنسعد في حياتنا! وما أحوجنا اليوم إلى الانطلاق من توجيهات هذا الدين لبناء الحياة وتعمير الأرض والاعتزاز بهذا الدين ودعوة البشرية قاطبة إليه وتعريفهم به!.
وإن من الأمور التي تدعو للتفاؤل وتبشر بالخير أن تجد كثيرا من رجال الإسلام ونسائه وشبابه قد أدركوا أهمية الاستجابة لله ورسوله في استقامة النفس وصلاح الدنيا ودوام النعم، فالتزموا بذلك، ولم تغرهم كثرة الشهوات والشبهات، ولم تستعبدهم المادة ولا الحضارة المادية، وأيقنوا أن ما عند الله خير وأبقى، وهو الحياة الحقيقية في الدنيا قبل الآخرة.
قال -تعالى-: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى:47-48].
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح فساد أحوالنا، واجعلنا يا ربنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى كل خير.
هذا؛ وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.