الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
عباد الله: ما قيمة المال إذا فقد الأمن؟! ما طيب العيش إذا انعدم الأمن؟! وكيف تنتعش الحياة بدون الأمن؟! وكيف يتبادل الناس المنافع؟ وكيف تعمر الديار وتصل الأرحام إذا فقد الأمن؟ إن الأمن مِن نعم الله العظمى، وآلائه الكبرى، لا تصلُح الحياة إلا به، ولا يطيب العيش إلا...
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً, وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول, وفوق ما نقول, ومثلما نقول, عزّ جاهك، وجلّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك, ولا إله غيرك ولا معبودٌ بحق سواك، الأرض أرضك، والسماءُ سماؤك، وما بنا من نعمة فمن فيض جودك وعطاؤك, والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين, هدى الله به البشرية, وأنار به أفكار الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: إن من أعظم نعم الله على عباده أن يصبح الإنسان آمنا على نفسه، مطمئنا على عرضه، لا يخاف ظلم ظالم، ولا جور جائر، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن من اجتمع له الأمن في وطنه والصحة في بدنه مع وجود قوت يومه، فقد جمعت له الدنيا ولم يفته منها شيء حيث يقول كما جاء في الحديث: "من أصبَح منكم آمنًا في سِربِه، معافًى في جسدِه، عنده قوتُ يومِه، فكأنّما حيزَت له الدّنيا بحذافيرها" [رواه الترمذي وقال: "حديث حسن، ٍوالسلسلة الصحيحة للألباني (2318)].
والأمن في البلاد مع الصحة في الأبدان نعمة يجب أن تشكر، فإن من فاتته هذه النعمة لم يسعد من الحياة من شيء، ولذلك جاء في الحكم: "نعمتان مجحودتان الأمن في الأوطان والصحة في الأبدان".
ولهذا كانت أوَّل تضرُّعات الخليل عليه السلام لربّه جل وعلا أن يبسُطَ الأمنَ على مهوى أفئِدَة المسلمين، فقال: (ربِّ اجعل هذا البلدَ أمنًا) فاستجاب الله دعاءَه، فقال سبحانه: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)[آل عمران:97].
وفضَّل الله البيتَ الحرام بما أحلَّ فيه من الأمنِ والاستقرار، فقال: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)[البقرة: 125].
وامتنَّ الله على ثمودَ قومِ صالح نحتَهم بيوتَهم من غير خوفٍ ولا فزع، فقال عنهم: (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ) [الحجر:82].
وضرب الله تبارك وتعالى مثلا كذلك ببلاد سبأ؛ إذ كانوا يعيشون آمنين في بلاد لهم، فيها آية جنتان عن يمين وشمال، فلما أعرضوا عن دين الله، مزقهم كل ممزق، وجعلهم أحاديث، وفي ذلك يقول عز وجل: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [سبأ: 18-19].
ويوسفُ عليه السلام يخاطبُ والدَيه وأهلَه ممتنًّا بنعمة الله عليهم بدخولهم بلدًا آمنًا مستقرًّا تطمئنّ فيه نفوسهم: (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) [يوسف: 99].
والعربُ قبلَ الإسلام كانت تعيش حالةً من التمزُّق والفوضى والضّياع، تدور بينهم حروبٌ طاحنة، ومعاركُ ضارية، وعلَت مكانةُ قريش من بينهم لاختصاصها بالأمن، ولاحتضانها بلدًا آمنا، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت:67].
والأمن في حياة الناس مطلب هام وضروري؛ تسعى إليه جميع الدول والشعوب والمجتمعات، بكل طاقاتها وخبراتها، وقوانينها وتشريعاتها، فلا حياة بدون أمن واستقرار.
وإن من أعظم نعيمِ أهل الجنة في الجنّة أمنُ المكان، فلا خوفَ ولا فزعَ، قال تعالى: (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ)[الحجر:46].
وقال سبحانه: (وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)[سبأ:37].
وقال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ)[الدخان:51].
أيها المؤمنون -عباد الله-: لقد جاءت الشريعة الإسلامية بأحكامها وتشريعاتها لتنشر الأمن والأمان بين الناس، فشرعت القوانين، وسنت الأحكام، وخاطبت القلوب والعقول، ورتبت على ذلك الثواب والعقاب، في الدنيا والآخرة، وصانت لأجل ذلك الدماء والأعراض والأموال، وحفظت الحقوق، وحذرت من التعدي والظلم والبغي من الإنسان على أخيه الإنسان.
بل حذرت الشريعة الإسلامية حتى من مجرد ترويع المسلم وتخويفه، ولو على سبيل المزاح، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لا جاداً ولا هازلاً"[أخرجه والترمذي في الفتن (2160) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2808)].
وفي بعض أسفاره صلى الله عليه وسلم ينام رجلٌ من الصحابة على دابته، فأخذ شخص سهامه من كنانته، فاستيقظ مُرتاعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل أن يروّع مسلماً"[أخرجه الطبراني في الأوسط (2/188) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2806)].
بل يحذر صلى الله عليه وسلم المسلم أن يشير على أخيه بالسلاح، حتى لا يكون ذلك سبباً في ترويعه وتخويفه، وإقلاق سكينته، أو سبباً لسفك دمه، وتعريضه للخطر، فيقول: "من أشار على أخيه بالسلاح لعنته الملائكة حتى ينتهي، ولو كان أخاه من أبيه وأمه"[أخرجه مسلم (2616)].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار"[البخاري (7072)].
فإذا كان هذه التحذير والوعيد من مجرد ترويع المسلم وتخويفه، فكيف بمن يستحل دم المسلم وعرضه وماله، ويكون سبباً في ترويع الناس، ونشر الخوف في المجتمع بأفعاله وسلوكه، فكم من دماء سفكت، وأعراض انتهكت، وأموال نهبت ظلماً وطغياناً.
بل من حرص الإسلام على إشاعة الأمن في كل مكان، فقد دعا إلى تأمين الناس في طرقاتهم ومساجدهم وأسواقهم، حتى لا يتعرضوا لأذى، وأوجب حقوقًا للمجالس بالطرقات؛ لينعم بهذا السلوك الإنسان والحجر والشجر والطير، وغير ذلك من دواب الأرض؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والجلوس في الطرقات" فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بدٌ نتحدث فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه" قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غَض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"[مسلم(3566)].
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته فرأينا حُمّره -أي طائر- معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمّرة تعرّش –ترفرف- فجاء النبي صلي الله عليه وسلم، فقال: "من فجع هذه بولدها، ردوا ولدها إليها"[أبو داود (5268) وقال الألباني: صحيح، انظر: السلسلة الصحيحة (25)].
يا لروعة هذه القيم والأخلاق: "من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها".
فكم من أم فجعت في أولادها؟ وكم من أب عاش حياة الخوف على أبنائه؟ وكم من زوجة سلبت الأمن والراحة خوفاً على زوجها؟ وكم من إنسان روع وخوف في أهله؟ وكم من يتيم فقد من يعوله؟ وكم من مجتمع روع أبناءه بسبب تفجيرٍ هنا أو حربٍ هناك أو قطع طريقٍ أو سلبٍ أو نهبٍ وتعدٍ على الحقوق أو اختطاف في هذا المكان أو ذاك؟
عباد الله: أي جريمة يرتكبها هذا الإنسان بسفك دماء الآخرين؟ وأي تصرف عدواني يقوم به، وأي غاية يسعى إليها بأفعالٍ من شأنها تقويض المجتمع، وتصدع أركانه، وتهدم بنيانه؟!
قال عليه الصلاة والسلام: "لن يزال المؤمن في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا"[البخاري (6862)].
وقال صلى الله عليه وسلم: "لزوالُ الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلم"[الترمذي وصححه الألباني في غاية المرام (439)].
ويقول عليه الصلاة والسلام: "لو أنّ أهلَ السماء وأهلَ الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار"[الألباني في صحيح الترغيب (2438، 2442)].
بل شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم قانون الأمن العام لجميع أفراد المجتمع، حتى لا يكون أحدهم سبباً في ترويع الآخرين بأي صورة من الصور؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" [مسلم(161)].
ألا فنكف أيدينا وألسنتنا عن ترويع المسلمين وتخويفهم وأذيتهم؛ لنلقى الله بأعمالٍ تبيض وجوهنا بين يديه، ولنقم بواجبنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يدي الظالم والمعتدي حتى يرتدع عن أعماله، ولننشر في مجتمعنا الحب والأمن والأمان.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ما فسد من أحوالنا.
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: ما قيمة المال إذا فقد الأمن؟! ما طيب العيش إذا انعدم الأمن؟! وكيف تنتعش الحياة بدون الأمن؟! وكيف يتبادل الناس المنافع؟ وكيف تعمر الديار وتصل الأرحام إذا فقد الأمن؟
إن الأمن مِن نعم الله العظمى، وآلائه الكبرى، لا تصلُح الحياة إلا به، ولا يطيب العيش إلا باستتبابِه.
ألا إن أعظم أمن يجب على الجميع أن يسعوا لتحقيقه: الأمن من عذاب الله ومكره، قال تعالى: (أَفَمَن يُلقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ القِيَامَةِ)[فصلت:40].
وقال تعالى: (إِنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَليْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الأحقاف:13].
وإن هذا الأمن لن يتحقق إلا بعقيدة سليمة، وعبادة صحيحة، وعمل صالح، قال تعالى: (مَن جَاء بِالحَسَنَةِ فَلهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ)[النمل:89].
ونعمةُ الأمن تُقابَل بالذكر والشكر: (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)[البقرة:239].
وأمَر الله قريشًا بشكر نعمةِ الأمن والرخَاء بالإكثار من طاعته، قالَ جل جلاله: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش:3، 4].
والمعاصي والأمنُ لا يجتمِعان، فالذنوب مُزيلةٌ للنِّعم، وبها تحُلّ النقم، قال سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[الأنفال:53].
وما نزل بلاءٌ إلاَّ بذنب، ولا رُفِع إلا بتوبة.
والطاعةُ هي حِصن الله الأعظمُ الذي من دخله كان من الآمنين.
فلنتب إلى الله، ولنحسن العمل، ولنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ولنأخذ على يدي الظالم حتى يعود إلى الحق، ولنثق بالله، ورحمته ولطفه بعباده، وأن أمره فوق كل أمر، وقوته فوق كل قوة، وإرادته فوق كل إرادة.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
ثم اعلموا أن الله تبارك وتعالى قال قولاً كريماً تنبيهاً لكم وتعليماً وتشريفاً لقدر نبيه وتعظيماً: (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وخلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وارض اللهم عن بقية الصحابة والقرابة، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وفضلك يا أرحم الراحمين.
والحمد لله رب العالمين.