الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لا فضلَ لأمةٍ أن تضعَ على موائِدها ألوانًا من الأطعمة مُختلفات، ولا أن تمتلِك أصنافًا من المراكِب مُمتطيَات، ولا أن تقتنِيَ ألوانًا من الملابِس مُكتسَيَات؛ وإنما الفضلُ كل الفضلِ -بعد الإيمان بالله وتوحيده- أن يكون لها رجالٌ سليمةٌ أبدانُهم، مُضيئةٌ أبصارُهم، مضَّاءةٌ عزائِمُهم. ولا تكونُ أمةٌ قويَّةً بعد الإيمان بالله وتوحيده إلا حين يكونُ اقتصادُها قويًّا، ولا يكونُ اقتصادُها قويًّا إلا حين يكونُ ما تُوفِّرُه وتُحافظُ عليه أكثرَ مما تصرِفُه وتستهلِكُه حُكوماتٍ وشعوبًا، وجماعاتٍ وأفرادًا؛ لأن ما تُوفِّرُه الأمةُ وتُحافظُ عليه من قُوتِها وإنتاجِها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله العليِّ القدير، أبدعَ الخلقَ وأحكمَ التدبير، سبحانه وبحمده (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر: 3]، أحمده -سبحانه- وأشكرُه على فضلِه العميم وخيرِه الوَفير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلكُ وله الحمدُ يُحيِي ويُميت وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأزواجه وأصحابِه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ وعلى طريق الحقِّ يسير، وسلَّم التسليمَ الكثير.
أما بعد:
فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فمن اتَّقى الله وقاه، ومن توكَّل عليه كفاه، ومن شكرَه زادَه، ومن استقرضَه جزاهُ، فاجعَلوا التقوى عِمادَ قلوبِكم، وجلاءَ أبصاركم، لا عمل لمن لا نيَّة له، ولا أجرَ لمن لا احتِسابَ له، وظاهرُ العِتاب خيرٌ من مكنون الحِقد، ونُصحُ الناصِح خيرٌ من مُجامَلة الشانِئ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد: 28].
أيها المسلمون: لا فضلَ لأمةٍ أن تضعَ على موائِدها ألوانًا من الأطعمة مُختلفات، ولا أن تمتلِك أصنافًا من المراكِب مُمتطيَات، ولا أن تقتنِيَ ألوانًا من الملابِس مُكتسَيَات؛ وإنما الفضلُ كل الفضلِ -بعد الإيمان بالله وتوحيده- أن يكون لها رجالٌ سليمةٌ أبدانُهم، مُضيئةٌ أبصارُهم، مضَّاءةٌ عزائِمُهم.
ولا تكونُ أمةٌ قويَّةً بعد الإيمان بالله وتوحيده إلا حين يكونُ اقتصادُها قويًّا، ولا يكونُ اقتصادُها قويًّا إلا حين يكونُ ما تُوفِّرُه وتُحافظُ عليه أكثرَ مما تصرِفُه وتستهلِكُه حُكوماتٍ وشعوبًا، وجماعاتٍ وأفرادًا؛ لأن ما تُوفِّرُه الأمةُ وتُحافظُ عليه من قُوتِها وإنتاجِها هو قوةٌ لها ولأجيالِها.
ونبيُّكم محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه -رضوان الله عنهم- كان طعامُهم في أغلب أيامِهم الأسودَيْن: التمر والماء، وهم الذين فتَحوا الفُتوحات ومصَّروا الأمصار، وإدارةُ تموين جيوشِهم لا تُقدِّم لهم في أغلب أيامِهم سوى جِرابٍ من تمرٍ وقليلٍ من الماء.
نعم -رعاكم الله-؛ تعظُم الأمة دولةً وشعبًا، وترقَى في سماء العزَّة والمنَعة جماعاتٍ وأفرادًا بِخصالٍ من أكبرها: الاقتصادُ في الإنفاق، والترشيدُ في الاستِهلاك.
أما الإسرافُ، والتبذيرُ، والإفراطُ في الاستِهلاك فما هو إلا استِسلامٌ للشهوات والملذَّات، وانقِيادٌ للأهواء والرَّغبَات، من غير مُراعاةٍ للمصالح، ولا تقديرٍ للعواقِب، ولا حفظٍ للمُروءات، ولا مُراعاةٍ للحُقوق.
الإسرافُ عدوُّ حفظِ الأموال والموارِد، وهو طريقُ الفقر والإفلاس، حفظُ المال حفظٌ للدين والعِرض والشَّرَف، وقد قال الحُكماء: "من حفِظَ مالَه فقد حفِظَ الأكرَمَيْن: الدينَ والعِرض".
وخاطبَ حكيمٌ بعضَ أقربائِه قائلاً: "لأن تبيتُوا جِياعًا لكم مالُ خيرٌ من أن تبيتُوا شِباعًا لا مالَ لكم".
وعمرُ الفاروقُ -رضي الله عنه- يقول: "الخرَقُ في المعيشة أخوفُ عندي عليكم من العوَز، ولا يقلُّ شيءٌ مع الإصلاح، ولا يبقَى شيءٌ مع الفساد، وحُسنُ التدبير في المعيشة أفضلُ من نصفِ الكسْبِ".
معاشر المُسلمين: ضياعُ الأموال وضعفُ الاقتصاد سببُه الإسرافُ والتبذير والإفراطُ في الاستِهلاك، وضبطُ اقتِصاد الأمة وحفظُ ثرَواتها لا يتحقَّق إلا حين تُكفُّ أيدي العابِثين من المُسرِفين والمُفسِدين هيئاتٍ ومُؤسَّساتٍ، وأسرًا وأفرادًا.
عباد الله: الإسرافُ: مُجاوزةُ القدر، ومُجاوزةُ الحدِّ في الأقوال والأفعال والتصرُّفات. الإسرافُ: جهلٌ بمقادِر الحقوق، وجهلٌ بمواضِعِها ومواقِعِها. والإسرافُ: صرفٌ فيما لا ينبَغي، وصرفُ ما ينبغي زائدًا على ما لا ينبغي.
وحين أباحَ لنا دينُنا الطيبات، وامتنَّ علينا ربُّنا بالزينة نهانا عن الإسراف، فقال -عزَّ شأنُه-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].
يقول وهبُ بن مُنبِّه: "من السَّرَف: أن يلبَسَ الإنسانُ ويأكل ويشرَب مما ليس عنده، وما جاوزَ الكفافَ فهو تبذير".
معاشر المسلمين: تأمَّلوا هذا الحديث: أضافَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- كافرًا، فأمرَ له بشاةٍ فحُلِبَت، فشرِبَ حِلابَها، ثم أخرى فشرِبَ حِلابَها، حتى شرِبَ حِلابَ سبع شِياه، ثم أن أصبحَ فأسلمَ، فأمرَ له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بشاةٍ فشرِبَ حِلابَها، ثم أخرى فلم يستتِمَّه. فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن المؤمن ليشرَبُ في معىً واحد، والكافر يشرَبُ في سبعة أمعاء". أخرجه مسلم.
يقول الحافظُ ابن رجب -رحمه الله-: "إن المؤمن يأكل بأدب الشرع فيأكلُ في معىً واحدٍ، والكافرُ يأكل بمُقتضى الشهوة والشَّرَهِ والنَّهَم فيأكلُ في سبعة أمعاءٍ".
ويقول بعضُ أهل العلم: "إن هذا الرجل عندما انتقلَ من ضلال الجاهليَّة إلى نورِ الإسلام، وعندما عرفَ ربَّه، وتكاليفَ دينه، وحسابَ آخرتِه غلبَه التفكير، فكان لارتِفاع همَّتِه إلى حياةٍ أرقَى أثرٌ بالغٌ في عُزوفِه عن الاستِزادة مما قُدِّم له".
تأمَّلوا -رحمكم الله- هذه السبعة الأمعاء وما عليه أهل هذا العصر حين سادَت المادَّة وحبُّ المادة من السَّرَف الباذِخ والإحصائيَّات الآثِمة في الاستِهلاك، مما يُلقَى في صناديق القِمامة ومُلقَى النِّفايات، لا يُستثنَى في ذلك لا دولٌ مُتقدِّمة ولا غيرُ مُتقدِّمة، ولا كُبرى ولا صُغرى. وكم بين الأغنياء والفُقراء من فجَوات، لم يكن لها سببٌ إلا الإسرافُ والتبذير، ومنهجُ السبعة الأمعاء.
أهل هذا الوقت يُسمُّون الصَّرف بالاستِهلاك، والدولُ المُنتِجة تسعَى إلى تسويق إنتاجِها بإغراء الناس من أهلِهم ومن غير أهلِهم بمزيدٍ من الاستِهلاك، وقد قرَّروا في مبادئِهم الاقتصاديَّة وقواعِدهم التسويقية ذات السبعة الأمعاء أنهم يَزيدُون في الإنتاج كلما أسرفَ الناسُ في الصَّرف، وما أقربَ هذا الاستِهلاك من الهلاك.
إن ما يقوم عليه سوقُ التسويق والإغراءُ في الصَّرف يستدعِي من العُقلاء والحُكومات التدخُّلُ لحماية الجميع، والإسهامَ في الإرشاد، وترشيد الجميع.
وإن ما يفعله المُفسِدون المُسرِفون في سياسات السبعة الأمعاء من سِباق التسلُّح، وأسلِحة التدمير، وسياسات إغراق الأسواق، والإسراف في القتل، والاحتِطاب الجائِر، والرَّعيِ الجائِر، والسَّقْيِ الجائِر، والضغط على الخدمات والمرافق، كلُّها صورٌ مُخيفةٌ من هذا الإسراف.
ولأمرٍ ما قال -عزَّ شأنُه-: (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [الشعراء: 151، 152]، وقال -جل وعلا-: (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِين) [الأنبياء: 9]، وقال -سبحانه-: (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) [غافر: 43].
نعم، إن من اللافت في أبناء هذا العصر: الاستِرسالَ في الإسراف، فترَى الواجِدَ يُسرِف، والذي لا يجِدُ يقترِضُ من أجل أن يُسرِف، ويصرِف على ما لا يحتاجُه.
معاشر المُسلمين: الإسرافُ يُفضِي إلى الفقر والفاقَة، وكم من بُيوتٍ أسَّسَها آباءٌ مُقتدِرون وفي إنفاقِهم راشِدون، فخلفَهم أبناءُ يُسرِفون غلبَ عليهم التَّرَف، فأطلقوا لشهواتهم العنان، فتقوَّضَت البيوت، وهلكَ المُسرِفون.
الإسرافُ يُنبِتُ في النفوس أخلاقًا مرذولة؛ من الجُبن، والجَور، وقلَّة الأمانات، والإمساك عن البذل في وجوه الخير. إن شدَّة التعلُّق باللذَائِذ من العيش يُقوِّي الحِرصَ على الحياة، ويُبعِدُ عن مواقِع البذل والفِداء والعطاء.
وللإسراف أثرٌ على الصحَّة؛ فقد دلَّت المُشاهَدات على أن المُسرِف في مأكلِه لا يتمتَّع بالصحَّة التي يتمتَّعُ بها المُقتصِدُ المُعتدِل، وفي الحديث: "ما ملأَ ابنُ آدم وعاءً شرًّا من بطنِه، بحسبِ ابنِ آدم لُقيمات يُقِمنَ صُلبَه؛ فإن كان لا محالَة فثُلُثٌ لطعامه، وثُلُثٌ لشرابِه، وثُلُثٌ لنفَسِه". صدق المُصطفى -صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي.
الإسراف يُسهِّل على النفوس ارتِكابَ الجَور؛ لأن المُنغمِس في الإسراف يحرِصُ على إشباع رغبَاتِه ولا يُبالِي أن يأخُذه من أي طريقٍ، فتمتدُّ يدُه إلى ما في يدِ غيرِه بطُرقٍ مُلتوية ووسائل مُريبة.
الإسراف يدفعُ بصاحبِه إلى الإمساك عن فعل الخير وبذل المعروف؛ لأن من أخذَت ملذَّاتُه بمجامِع قلبِه كان أعظم همِّه إعطاءَ نفسه مُشتهاها في مطعومِه وملبُوسِه ومركوبِه ومفروشِه.
معاشر المسلمين: إن من جالِبات الهُموم والغُموم للبيوت: التفاخُرَ في الإنفاق، والمُباهاة في الصَّرف، في تنافُسٍ مُشين، وإسرافٍ ظاهرٍ، ما يقودُ إلى تراكُم الديون، وإثقال الكواهِل، وفساد الأمزِجة؛ بل قد يقودُ إلى أكل الحرام، وفساد الذِّمَم، والتقصير في جنبِ الله. يستَدينُ ليُسافِر، ويقترِض ليُقيمَ حفلاتٍ باذِخة، ما قادَه إلى ذلك إلا المُباهاة أو العاداتُ السيِّئة، مما أثقَلَ كواهِلَ أرباب الأُسَر ونغَّصَ عيشَهم لسنواتٍ وسنواتٍ؛ بل إن لم يكن مدَى الحياة.
وما كان ذلك -وربِّكم- إلا بسبب الإسراف، والتبذير، وعدم الترشِيد.
إن البيوت التي تُمعِنُ في التشبُّع والامتِلاء، وتبتكِرُ من وسائل الطَّهي وأنواع المآكِل، وضُروب التجديد والتطوير في المُستهلَكات لا تصلحُ لأعمالٍ جليلة، ولا تُرشَّحُ هِمَمهم لبذلٍ أو تضحية.
وبعد:
معاشر الأحبَّة: فإليكم شذَرات من ثقافتِنا المُسلِمة وتُراثنا المُؤمن: ثقافة المعى الواحِد؛ يقول ابنُ هُبَيْرة: "لا ينبغي للمُسلم أن يتناوَل فوق حاجتِه؛ لأنه قُوتُه وقوتُ غيره، فالقسمةُ بينَه وبين غيرِه لا يُمكنُ تقديرُها إلا بالإشاعة بحسب الاحتِياج، فإذا أخذَ من شيءٍ هو مشاعٌ بينَه وبين غيره أكثرَ من حاجته فقد ظلمَ غيرَه بمقدار التفاوُت".
وقيل لسمُرة بن جُندب -رضي الله عنه-: إن ابنَك باتَ البارِحة بشِمًا. قال: "أما لو ماتَ لم أُصلِّ عليه".
يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية مُعلِّقًا: "يعني: أنه أعانَ على قتل نفسِه فيكونُ كقاتِل نفسِه".
ويقول أبو إسحاق النظَّام: رآني جارِي المروَزي وقد مصَصتُ قصبَ سُكّر، فجمعتُ ما مصَصتُه معه لأرمِيَ به. فقال: "إن كنت لا تنُّور لك ولا عِيال، فهَبْه لمن له تنُّورٌ وعِيال، وإياك أن تُعوِّد نفسَك هذه العادَة في أيام خِفَّة ظهرِك؛ فإنك لا تدرِي ما يأتيك من العِيال، وتضييعُ القليل يجرُّ إلى تضييع الكثير".
وهل الإسرافُ إلا هدرٌ وخرابٌ، وإفسادٌ للأنفُس والبيئة، وحِرمانٌ للأجيال، وحقٌّ على أمةٍ تُريدُ النُّهوضَ من كبوَتها أن تُقلِعَ عن التبذير والإسراف في الصَّرف والإنفاق، ويكونُ بذلُها في وجوه البِرِّ والإصلاح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام: 141].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله يُقلِّبُ الليل والنهار، ويُسيِّرُ الأفلاكَ وما تجرِي به الأقدار: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [آل عمران: 13]، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهَّار، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُصطفى المُختار، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعِين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ من الصائِمين والقائِمين والمُستغفِرين بالأسحار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون: إن من المطلوب أن يعِيَ المُسلم أن النهيَ عن الإسراف والتبذير والأمرَ بالاقتصاد له غايتُه الكُبرى، وأهدافُه العُليا، إن المسلَكَ الوسط لا بُدَّ أن تتجلَّى فيه همَّةٌ عاليةٌ، مشغولةٌ بطُموحاتٍ كُبرى عن صُنوفِ اللَّهو، وأنواع الملذَّات الرَّخيصة، وتتعلَّق بهُموم الأمة وشؤُونِها في أمور دينِها ودُنياها.
وفي هذا السِّياق -عباد الله- يتوجَّهُ المُسلم بهمِّه وهمَّتِه إلى أهلِه في الشام في نجدَتهم، وإغاثتِهم، ونُصرتِهم جهادًا في سبيل الله، وابتِغاءَ مرضاتِه، ولن يكون الشامُ -بإذن الله- ساحةً للطائفيِّين الظالمين. لا بُدَّ من كلمة حقٍّ في وجهِ العُدوان الظالم والطُّوفان الغاشِم.
يُريدون للأمة أن تقعَ فريسةَ الضياع في صِراعاتٍ أهليَّة، وحروبٍ مذهبيَّة، واقتِتالٍ طائفيٍّ بغيضٍ. يُريدون أن يسُومُوا الأمةَ سُوءَ العذاب اقتِتالاً وحُروبًا، وتشريدًا وتدميرًا، وتقطيعًا وتمزيقًا. لقد زوَّرُوا المبادِئَ الإسلامية، وأفسَدوا العلاقات الأخَويَّة، وعبَثُوا بالروابِط الوطنيَّة.
إنه ليسُوؤُك ثم ليسُوؤُك أن ينبَرِيَ بين فترةٍ وفترةٍ مُتزعِّمٌ ليقُول: إن تحريرَ فلسطين يبدأُ من هنا أو من هُناك، ثم يُشيرُ إلى عاصمةٍ إسلاميةٍ أو شعبٍ مُسلمٍ في عبثيَّة لا يكادُ يُصدِّقُها عاقلٌ -فضلاً عن مسلم-، عبثيَّة وهمجيَّة تجعلُ المُسلمَ هدفًا، والتيارَ الإسلاميَّ جحيمًا، في سُلوكٍ دمويٍّ يُمزِّقُ وحدة الأمة، ويفضحُ مكرَ الأعداء، ويكشِف العُملاء.
إنه مشروعٌ مُريبٌ من مشارِيع الاستِقواء بالخارج، وجرِّه لديار المُسلمين.
اسألوا الشعبَ السوريَّ: ماذا فعلَ به هؤلاء في تعدٍّ على حدود الشرع، وتجاوُزٍ لكل الأصول والقواعد الإسلاميَّة المُحترَمة. تقتيلٌ وتدميرٌ، وتعذيبٌ وتشريدٌ، يجرُّون الأمةَ كلَّها لتكون وقودًا لحربٍ مُدمِّرةٍ لا نهايةَ لها، ولا مصلحةَ فيها.
إنهم أداةٌ طيِّعةٌ لمشروع التضليل الكبير لتكون عِصاباتٍ ضارِبة تحصُدُ رِقابَ المُؤمنين، وتقتُلُ الأبرياءَ من المُسلمين في مسلَك دمويٍّ رهيبٍ.
نعم، لا بُدَّ من موقفِ صدقٍ، وكلمةِ حقٍّ في وجهِ هذا الطُّغيان الظالِم والعُدوان الآثِم على إخوانِنا في سُوريا. إنها حروبٌ مُعلَنة على الإسلام والمسلمين. إن الوعيَ بهذه الحقائِق هو الذي يحفظُ على الأمة وحدتَها وتماسُكَها واستِقرارَها ومنعَتَها.
إن أهلَ العلم، وقادةَ الفِكر، وأصحابَ الرأي، ورجالَ السياسة، ومُؤسَّسات الإعلام كلُّهم جميعًا مدعُوُّون على الأصعِدة كافَّة للقيام بمسؤوليَّاتهم، وإعلان موقفِهم، وقولِ كلمتِهم من أجل حفظِ أمَّتهم، وصيانة وحدتِها، وحماية شعوبِها.
يجبُ القيامُ بالمسؤوليَّة ببيان حقيقة ما يجرِي، ووضع النِّقاط على الحرُوف، وحفظِ الشَّعبِ السُّوريِّ الشَّقيق، وإنقاذِه من القتل والقهر والعذاب والتشريد، جهادًا في سبيل الله، وإعلاءً لكلمته، ونُصرةً لإخواننا المظلومين.
وبعد:
فإننا نعلمُ علمَ اليقين أن من وقعَ في مراتِع الظُّلم هو الذي يشربُ من كأسِها، والشرُّ لا يأتِي بخيرٍ، ولا غرْوَ فإن الابتِلاءَ الذي تُبتلَى به الأمة ليُمحِّصُ الله الذين آمنوا، وليَميزَ الخبيثَ من الطيب، ويُديلَ أهل الحق على أهل الباطل ممن استحوَذَ عليهم الشيطان (فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المجادلة: 19].
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال -وهو الصادقُ في قِيلِه- قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.