التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | عبد الكريم بن صنيتان العمري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
هذه المعصية لها آثارها السيئة على الأفراد والمجتمعات، فبها يضيع الشباب ذكورا وإناثا ويعيشون حياة التشرد والضياع، وبها تختلط الأنساب وتنتهك الحرمات ويُعتدى على الأعراض، وبها تفشو وتنتشر الأمراض والأوبئة الفتاكة التي لا تنحصر في مرتكبي هذه الفاحشة، بل تنتقل إلى كل من يتعامل معهم من أهل وأزواج وأبناء، فإذا لم ينزجر الزناة بما وعدهم الله به من عقوبات أخروية لضعف إيمانهم أفلا ينزجرون بهذه الآثار السيئة التي يجلبونها على أنفسهم وذويهم وهم...
الخطبة الأولى:
قال الله عز وجل: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النور:32]، وقال عز وجل: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا)[النساء:3].
هذا أمر من الله تعالى لعباده بالزواج، وتحصين النفس من الوقوع في المحظور، واتباع سنن المرسلين، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) [الرعد:38].
وسيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- تزوَّج وزوَّج بناته -رضي الله عنهن-، ولما بلغه -صلى الله عليه وسلم- خبر الثلاثة الذين جاؤوا يسألون عن عبادته فقال أحدهم: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا غضب -صلى الله عليه وسلم-، وأنكر ذلك وقال: "ولكني أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" متفق عليه.
ذلك أنَّ للزواج مقاصد عديدة وأهدافًا نبيلة، منها:
أولاً: صيانة المتزوج نفسه وحفظها من أن تقع فيما حُرِّم عليها، فإن النفس الإنسانية قد أودع الله فيها غريزة لا يمكن إشباعها أو الحد منها؛ إلا عن طريق الزواج واختيار المرأة المناسبة له، فلو بقي الرجل أو المرأة دون لقاء مشروع لحصل الفساد الأخلاقي وانتشرت المحرمات، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" رواه الترمذي.
ومهما بلغ الإنسان من التقوى والصلاح فإنه لو أرسل نظره إلى امرأة, أو أطلق بصره إليها, فقد يبدو له من محاسنها المثيرة ما يحرك غريزته، ولذلك خاف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته من هذه المفسدة، وأرشدهم إلى طريق بها تزول وتنحسم، ويأمن المرءُ على نفسه من ارتكاب الخطأ والتلبس بالإثم، فعن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى امرأة، فأتى امرأته زينب -رضي الله عنها- فقضى حاجته منها، ثم خرج إلى أصحابه فقال: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتُدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه" رواه مسلم.
وقد حذَّر العلامة القرطبي رحمه الله كل مسلم من أن يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا فعل ذلك ميل نفسٍ أو غلبة شهوة، حاشاه عن ذلك، وإنما فعل ذلك ليسُنّ سنةً، وتقتدي به أمته، فيحسم كل واحدٍ عن نفسه ما يخشى وقوعه.
وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم الشباب بالمبادرة إلى الزواج والمسارعة إليه متى ما وجد الشاب ميلاً غريزيًا في نفسه إلى المرأة ودافعًا إليها، فقال: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" متفق عليه.
ثانيًا: ومن مقاصد النكاح وأهدافه حصول الأنس والمودة والراحة والطمأنينة بين الزوجين، وقد صور ذلك القرآن الكريم، وبينه بألطف عبارة وأدق تصوير وأغزر معنى، فقال جل في علاه: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21].
فكل واحد من الزوجين يأنس بالآخر، ويطمئن إليه، ويجد معه الألفة والود والحنان، قال تعالى: ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [البقرة:187]. والاستقرار العاطفي والمشاعر القلبية والأحاسيس الفياضة الندية يجدها الرجل والمرأة بالزواج، وتتحقق عندهما ببناءِ وتأسيس الأسرة المسلمة التي تسير على النهج الإلهي والإرشاد النبوي في حياتها.
ثالثًا: في الزواج تكثير للنسل والذرية، والنبي صلى الله عليه وسلم حث أمته على ذلك وقال: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" رواه ابن حبان، فرغَّب في نكاح المرأة التي توفرت فيها صفة الود والحب لزوجها والأنس به وطيب معاملته، التي تلد كثيرًا، فإن المكاثرة مما أكد عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم لما ذكره من مباهاته بأمته عند عرض الأمم يوم القيامة.
ثم إن الوالدين ينالهما من الأولاد الذين يحصلون بسبب الزواج خير عظيم وفضل عميم، فبالإضافة إلى أنهم من زينة الحياة الدنيا، ويسعى الوالدان إلى تربيتهما التربية الإسلامية الصحيحة، لينشؤوا على البر والفضيلة والخير والصلاح، ويكونوا قرة أعين لوالديهم كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74]، فإنه ليس أحب إلى الإنسان من ولد صالح يسعى في بره وطاعته وخدمته في حياته، ثم إن مات الوالد قبله دعا الولد له بالمغفرة والرحمة والرضوان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، وذكر منها: "أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم. فيُثاب الولدُ على دعائه لوالديه، ويلحق دعاؤه الوالدين فينتفعان به.
وإن مات الولد قبل والديه وصبرا واحتسبا نالا من الله تعالى عظيم الأجر والثواب، وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:"إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته وهو أعلم: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد" رواه الترمذي، وجاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، هذا ابني فادع له، فلقد دفنت ثلاثة قبله، فقال - صلى الله عليه وسلم : "دفنت ثلاثة؟" قالت: نعم، قال: "لقد احتظرت بحظار شديد من النار" رواه مسلم. أي: امتنعت من النار بمانع وثيق.
رابعًا: أن في الزواج فتحًا لطريق أخرى من طرق تحصيل الأجر والثواب، فإن الرجل قد أوجب عليه الشرع الإنفاق على أهله وأولاده، ورعايتهم وحسن تعليمهم وطيب معاملتهم، وهو بهذه الأعمال ينال الأجر والثواب، ويحتسب ذلك عند الله تعالى، وقد قال : "دينارٌ أنفقته في سبيل الله، ودينارٌ أنفقته في رقبة، ودينارٌ تصدقت به على مسكين، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك" رواه مسلم، وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة" متفق عليه.
خامسًا: يحصل بالزواج توثيق العلاقات بين سائر أفراد المجتمع المسلم، فإنه بالزواج تتقارب الأسر، ويدنو بعضها من بعض، وتتعارف وتتصل بعد أن كانت متباعدة، وبذلك تسود المجتمع روابط المودة والمحبة والصلة والقربى، فيصبح متماسكًا قويًا، ويصدق فيه قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه مسلم.
تلك أهم أهداف النكاح ومقاصده، وعلى كل مسلم وبالأخص الشباب أن يسارعوا إلى الزواج لإعفاف أنفسهم وحفظها والاقتداء بالمصطفى الكريم - صلى الله عليه وسلم -.