الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | فواز بن خلف الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
سبحان من قسم الأرزاق بين عباده؛ فمن الناس من وضع رزقه على المكتب أمامه، وهو مستريح على كرسيه، ومنهم: من يجريه الله عليه بما يكتبه بيده، ومنهم: من وضع الله رزقه أمام الفرن أو لتنور، ومنهم: من رزقه في مصنع الثلج، هذا أبداً عند البرودة وذاك عند الحرارة، ومن الناس جعل رزقه مع الأولاد الصغار في المدارس أو العمال الكبار في المصانع، ومنهم....
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك الخلّاق، الكريم الرزاق، يبسط يده بالرزق لمن يشاء، من عباده ويقدر، ويمتحنهم بالأموال فيغني ويفقر، وهو العزيز الحكيم.
أحمده –تعالى- وأشكره، وأثني عليه ولا أكفُره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن صحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيظل الرزق حبلاً ممدودًا بين السماء والأرض: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)[الذاريات: 22].
البر والفاجر، والمؤمن والكافر، نعمة ورحمة يتفضل بها الله على الخلق أجمعين: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[الذاريات: 58].
فلا إله إلا الله وحده، يختص بالرزق والتقدير، دون شريك ولا معين: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[سبأ: 36].
وسبحانه وبحمده، امتد رزقه فضلاً عن العقلاء، فرزق الطير في أوكارها، والسباع في جحورها، والحيتان في قاع بحارها، وشمل رزقه الدواب بأنواعها، وصدق الله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هود:6].
أيها الإخوة في الله: تأملوا عظمة الله وإحسانه، وكمال قدرته، فالمخلوق الذي لا يحمل الرزق يُحمل إليه الرزق! والذي لا يملك قوت يومه أو غده ييسره الله له: (وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت: 60].
ومن لطائف ما ذُكر في تفسير هذه الآية ما أورده ابن كثير -رحمه الله-: "أن الغراب إذا فقس عن فراخه البَيْض خرجوا وهم ِبيضٌ، فإذا رآهم أبواهم كذلك نفرا عنهم أيامًا، حتى يسودّ الريش، فيظل الفرخ فاتحًا فاه يتفقد أبويه، فيقيّض الله -تعالى- طيورًا صغارًا كالبرغش فيغشاه، فيتقوت به تلك الأيام حتى يسودّ ريشه، والأبوان يتفقدانه كل وقت، فكلما رأوه أبيض الريش نفروا عنه، حتى إذا رأوه قد اسودّ ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق" [ابن كثير].
أرأيتم كيف يتولى الله رزق الضعفاء حين يتخلى عنهم أقرب الأقرباء الرحماء؟! إنها منتهى الرحمة من الله وكمال الربوبية.
ويذكر أحدهم: أنه كان لديه هرٌّ يهتم به، وبطعامه، وكان يعطيه كل يوم ما يكفيه من الطعام، ولاحظ رب البيت أن الهر لم يَعُد يكتفي بالقليل مما يقدّم له من الطعام، فأصبح يسرق غير ما يُعطى له، فرصده صاحبه وجعل يراقبه، فوجده يذهب بالطعام إلى هرٍّ أعمى، فيضع الطعام أمامه ليأكله، فتبارك الله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)[هود:6].
أيها الإخوة: إن الحديث عن الرزق حديث ذو أهمية بالغة، وخاصة في هذا الوقت الذي ضعف فيه إيمان كثير من الناس بربهم، وأن الرزق بيده، وأنه المتكفّل بالأرزاق، مما جعل اعتمادهم وللأسف على خلق مثلهم، يرجونهم أو يخشونهم على أرزاقهم.
لقد أصبح إيمان كثير من الناس بهذه القضية الخطيرة لا يعدو أن يكون كلامًا باللسان، يقال في وقت السَعة والرخاء، فلو أنك سألت أي إنسان في الطريق من الذي يرزقك؟! لقال لك في الحال: الله.
ولكن انظر لهذا الإنسان إذا ضيّق عليه في الرزق: يقول: فلان يريد أن يقطع رزقي، فما دلالة هذه الكلمة؟!
إنها كلمة تدل على أن الإيمان بأن الرزق من عند الله ضعيفًا، لم يصل لدرجة اليقين، وأن كلمة "الرزاق هو الله" كلمة تستقر حال السلم والأمن، ولكنها تهتزّ إذا تعرّضت للشدة، والخوف والمحن.
فكم نحن بحاجة عظيمة لنذكر أنفسنا، ونعظ قلوبنا؛ ليرسخ فيها أن الرزق لا يملكه أحد سوى الله، وأن الخلق كلهم لا يملكون لأحد قطميرًا، كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لابن عباس -رضي الله عنهما-: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء" وظيفة، مال، جاه، منصب... "لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك".
الرزق مكتوب محفوظ للعبد منذ أن خلقه الله في بطن أمه، أُرسل إليه الملك فأُمر بأربع كلمات، ومنها: بكتب رزقه حتى يموت، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها".
وأعجب من ذلك قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت!!".
يا سبحان الله! "لأدركه رزقه كما يدركه الموت!" أبعد هذا يُصاب المؤمن بخوف على الرزق؟!
اللهم ارزقنا إيمانًا يباشر قلوبنا، ويقينًا يملؤها، وتصديقًا بوعدك ووعد رسولك يا حي يا قيوم.
في الحديث القدسي المشهور، قال الله -تعالى-: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجِنّكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر".
قال ابن رجب: "المراد كمال قدرة الله وكمال ملكه، وأن ملكه وخزائنه لا تنفد، ولا تنقص بالعطاء، وإن في هذا لحثًا على إنزال الحوائج بالله وسؤاله إياها، ففي الصحيحين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أفرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص مما في يمينه".
وفي بعض الآثار الإسرائيلية: أوحى الله -تعالى- إلى موسى -عليه السلام-: يا موسى لا تخافن غيري ما دام لي السلطان، وسلطاني دائم لا ينقطع، يا موسى لا تهتمن برزقي أبدًا ما دامت خزائني مملوءة، وخزائني مملوءة لا تفنى أبدًا.
وقد أحسن من قال:
لا تخضعن لمخلوقٍ على طمعٍ | فإن ذاك مضرٌّ منك بالدين |
واسترزق الله مما في خزائنه | فإنما هي بين الكافِ والنونِ |
أيها الإخوة في الله: لقد كان إيمان السلف بأن الله هو الرزاق عظيمًا، فلم يلتفتوا لأحد سوى الله في أرزاقهم، وكانوا بما في يد الله أوثق منهم بما في أيديهم، ولذا قال الحسن: "إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله -عز وجل-".
وروي عن ابن مسعود قال: "إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا ليس في البيت دقيق".
وقال الإمام أحمد: "أسرّ أيامي إليّ يوم أُصبح وليس عندي شيء".
وقيل لأبي حازم الزاهد: "ما مالُك؟ قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس.
وقيل: أما تخاف الفقر؟ فقال: أخاف الفقر ومولاي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟!".
وقال أبو سليمان الداراني - رحمه الله -: "من وثق بالله في رزقه زاد في حسن خلقه، وأعقبه الحلم، وسختْ نفسه، وقلّت وساوسه في صلاته".
وصدق رحمه الله:
فلو كانت الأرزاق يجري على الحِجى | هلكنَ إذاً من جهلهن البهائمُ |
ولم يجتمع شرقٌ وغربٌ لقاصدٍ | ولا المجد في كفّ امرئ والدراهمُ |
[الحجى: أصحاب الذكر والعقول].
قال حاتم الأصم: "إن لي أربعة نسوة وتسعة أولاد، ما طمع الشيطان أن يوسوس إليَّ في أرزاقهم".
وقيل لحاتم: "على ما بنيت أمرك في التوكل على الله؟ قال: على خصال أربعة: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلوا من عين الله فأنا مستحي منه".
قال الشافعي - رحمه الله -:
توكلتُ في رزقي على الله خالقي | وأيقنتُ أن الله لا شك رازقي |
وما يكُ من رزقي فليس يفوتني | ولو كان في قاع البحار العوامق |
سيأتي به الله العظيم بفضله | ولو لم يكن مني اللسانُ بناطق |
ففي أي شيء تذهب النفس حسرة | وقد قسم الرحمن رزق الخلائق؟ |
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يزرق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا".
ألا ما أحوجنا إلى صدق التوكل على الله، والرضا بما قسم.
وللأسف فما أكثر الذين تغيرت قلوبهم، فأصبحوا يتوكلون ويؤملون في دنياهم وأرزاقهم على خلق مثلهم، ونسوا الخلاّق الرزاق، مدبر الأمور، ومصرّف الدهور سبحانه.
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه ويعلمهم بفعله وقوله أن الرزق بيد الله، ومن عند الله، ولم يخطر ببال أحد منهم أن كائنًا من كان بقوّته وذكائه وشطارته -كما يقال- يستطيع أن يأكل لقمة لم يكتبها الله له، وعندهم درسٌ وعبرة من قصة قارون الذي نسب المال والرزق إلى خبرته وعلمه وقوته، فقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)[القصص: 78].
فكانت النتيجة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ)[القصص: 81].
هذا جزاء من نسب الرزق إلى نفسه وعلمه وقوته وجهده أن خسف الله به وبداره الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
وفي المقابل نجد الكثير من الناس قد اتخذوا الأسباب الجالبة للرزق، وعلموا أن ذلك من صدق التوكل على الله، ولكنهم -عياذا بالله- لم يتورعوا في مكاسبهم وأموالهم أن يحصلوها، ولو من الحرام، فأقبلوا على المكاسب الخبيثة من بيع المحرمات من دخان وجراك وشيش، ومن بيع أشرطة الغناء والأفلام والمجلات السيئة، وغيرها من المحرمات التي بيعها حرام، وشراؤها حرام، وثمنها حرام وخبيث.
وتقحّم هؤلاء الناس الذين يزعمون طلب الرزق تقحّموا الربا، الذي أعلن الله الحرب على أهله، الربا الذي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخذه ومعطيه، وكاتبه وشاهديه، ولو كان يسيرًا.
الربا الذي استباح بعض الناس العمل في بنوكه، مديرًا أو موظفًا أو حارسًا!!
فآكل الربا إن مات آكلاً له، فإنه يسبح في نهر من دم، ويلقم الحجارة في فمه حتى تقوم الساعة.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "درهم ربا أشد عند الله من ست وثلاثين زنية".
وقال: "الربا ثلاثٌ وسبعون بابًا أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه".
* لقد تساهل الكثير في الكسب وتحصيل المال من أي طريق، وصدق فيهم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ليأتينّ على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال؟ أمن حلال أم من حرام".
فتساهلوا في الغش والخداع، وفرحوا بالرشوة والغلول وأكل مال اليتيم والسرقة، ونشطوا في بيع المحرمات والإعانة عليها ونشرها، وتسابقوا في الوظائف المختلطة لنسائهم وبناتهم؛ كل ذلك بحجة طلب الرزق، وكأن الرزق لا يكون إلا بطريق الحرام.
وضعف يقينهم في أن الرزق من الله، وأنه لن يبارك في مال ورزق جاء من الحرام.
ومن ظنّ أن الرزق يأتي بحيلةٍ | فقد كذّبته نفسه وهو آثم |
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبينًا قاعدة عظيمة من قواعد الكسب وطلب الرزق: "من كانت الدنيا همّه، فرّق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة".
أيها الإخوة في الله: ما خلق الله حياً من الأحياء إلا وقد تعهد برزقه أياً كان رزقه قليلاً أو كثيراً، قال الله -تعالى-: - (وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ)[النحل: 71].
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رسالة جاء منها: "وأقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق".
فسبحان من قسم الأرزاق بين عباده؛ فمن الناس من وضع رزقه على المكتب أمامه، وهو مستريح على كرسيه، ومنهم: من يجريه الله عليه بما يكتبه بيده، ومنهم: من وضع الله رزقه أمام الفرن أو التنور، ومنهم: من رزقه في مصنع الثلج، هذا أبداً عند البرودة وذاك عند الحرارة، ومن الناس جعل رزقه مع الأولاد الصغار في المدارس أو العمال الكبار في المصانع، ومنهم: من رزقه في لجة البحر فهو يغوص ليستخرجه، ألا وفوق طبقات الهواء، فهو يركب الصعاب ليأتي به، ومنهم: من رزقه وسط الصخر الصلد، فهو يكسره ليستخرجه، ومنهم: من رزقه في الأرض وآخر مع دواب الأرض، وثالث مع كنوز وجواهر الأرض.
تعددت الأسباب وكثرت الطرق والرزاق واحد، هو الله -جل جلاله-.
فالناس كل الناس في سباق، فما منا إلا من يجد أمامه من سبقه، ووراءه من تخلف عنه، كل أمريء منا سابق ومسبوق والمؤمن الصادق لا ييأس من نفسه ولا يبك حظه، فإن صار عالياً فغيره من هو دونه، ودون الدون من هو أسفل منه.
قال الله -تعالى-: (وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ)[النحل: 71].
والله هو الذي قسم الأرزاق، وكتب لكل نفس رزقها وأجلها، ومع ذلك لم يأمرنا بالقعود وترك العمل وبذل الأسباب حتى يأتي الرزق، بل قال الله -تعالى-: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ)[الملك: 15] أي أعملوا، والأمر من الله: (فَامْشُوا).
ولم يقل: اسعوا، فنمشي لدنيانا وأرزاقنا مشياً، أما لعبادة ربنا وما يقربنا إليه من الطاعات والعبادات، فقال: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[الجمعة: 9].
مشي للرزق، وسعي للعبادة، بخلاف ما عليه المتكالبين على الدنيا من السعي لها والمشي، بل القعود عن العبادة والطاعة.
نسأل الله لنا ولهم الهداية والسلامة والعافية.
وكما أن الرزق مقسوم، حق نؤمن به، فلابد من اتخاذ الأسباب، والناس في أمر الأسباب ذهبوا مذهبين كلاهما بعيد عن الصواب، فمنهم: من ظن أنه ما دام الرزق مقسوماً فما عليه إلا أن يقعد وينتظر، فيترك العمل ويحتج ببعض الآيات والأحاديث عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-؛ ومنها: قوله عليه الصلاة والسلام: "لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا أي جائعة وترجع بطاناً أي ممتلئة".
وغفلوا عن أن هذا الحديث وأمثاله حجة عليهم لا لهم، فالطير هل قعدت في أعشاشها؟ وانتظرت أرزاقها؟ أم أنها غدت وراحت؟ وهل تملك الطير إلا الغدو والرواح؟!.
ومن الناس في المقابل من اتكل على الأسباب وحدها، وظن أن النتائج منوطة بها أبداً، ونسوا أن وراء الأسباب مسبباً، ولأرزاق الخلائق مدبراً.
فهم بهذا الظن خسروا وإن ربحوا في دنياهم، خسروا شيئاً من دينهم وتوحيدهم وإن ربحوا في مكاسبهم وتجارتهم وأعمالهم، والصواب: هل العمل بالأسباب مع صدق التوكل على الله والثقة بما عنده، والإيمان بأن كائناً من كان لا يأكل نعمة لم يكتبها الله له، ولو بذل مهما بذل، فالله هو المعطي وهو المانع، وما يمنع أحداً شيئاً إلا عوضه خيراً منه.
أيها الإخوة: وكما أمرنا الله بالسعي والقرب في الأرض لطلب المعاش والرزق؛ فللرزق أسباب شرعية، جاءت في الكتاب والسنة، من عمل بها كان حرياً برزق الله وسعته، ومن لم يأت بها كان أبعد عن الرزق إلا أن يشاء الله، ابتلاءً وامتحاناً، وإمهالاً واستدراجاً من الله.
وعرض هذه الأسباب نافع لكل من لم يجد عملاً أو وظيفة، ونافع لكل من ركبته ديون لا يستطيع أداءها، ونافع لكل من لم يستحصل حقاً له عند آخر فهو ينتظره على أحر من الجمر، ونافع كذلك عن من لا يكفيه راتبه ولا يغطي حوائجه من كثرة المصروفات ونحوها، وبالجملة فعرض هذه الأسباب الجالية للرزق، والتي هي بمثابة مفاتيح للرزق، فيه خير عظيم لمن تدبرها وعمل بها.
وأول هذه الأسباب: الاستغفار والتوبة.
فمن أهم ما يستنزل به الرزق: الاستغفار والتوبة إلى الله -تعالى-، قال سبحانه حكاية عن نوح -عليه السلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً)[نوح: 10-12].
قال القرطبي رحمه الله: "في هذه الآية دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار".
وقال ابن كثير: "أي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم وسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض".
وذكر الإمام القرطبي عن أبي صبيح قال: "شكا رجل إلى الحسن –الجدوبة-، فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: أدع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله، فقيل له: أتاك رجال يشكون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله -تعالى- يقول في سورة نوح: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً)[نوح: 10-12].
الله أكبر ما أعظم ثمار الاستغفار وأجلها وأكثرها.
ولكن –وللأسف- فكثير من الناس يستغفرون الله باللسان، ولكن لا حقيقة للاستغفار في قلوبهم، ولا واقع للتوبة في حياتهم، فهم وإن استغفروا وتابوا فاستغفارهم وتوبتهم ناقصة، فبعضهم لا يقلع عن الذنب أصلاً، وبعضهم إذا أقلع فإنه لا يندم على ما فات من الذنب والمعاصي والسيئات، بل لربما تمنى أن يعاود الذنب مرة أخرى.
فتوبة واستغفار هذا حالها حري أن لا يحقق الله لصاحبها ما وعد به المستغفرين التائبين الصادقين في توبتهم واستغفارهم، بل لربما ضيق الله عليهم في أرزاقهم ومعاشهم؛ لأنهم غير صادقين من قلوبهم في توبتهم واستغفارهم.
قال تعالى حكاية عن هود -عليه السلام-: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)[هود: 3].
فالمكثر من التوبة والاستغفار يفرج الله همه، وينفس كربه، ويرزقه من حيث لا يحتسب.
ومن أسباب الرزق ومفتاح من مفاتيحه: التقوى:
التقوى التي عرفها العلماء بقولهم: امتثال أمر الله، واجتناب نهيه، والوقاية من سخطه وعذابه عز وجل، ولذا من صان نفسه عن المعاصي هو متق لله، ومن قام بالواجبات والأوامر وحافظ عليها كان من المتقين لله -تعالى- أما من عرض نفسه بالمعصية لسخط الله وعقوبته فقد أخرج نفسه عن وصف المتقين، والدليل على ارتباط التقوى بالرزق قول الله -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2-3].
أي من جهة لا تخطر له ببال، يأتيه الرزق من حيث لا يأمل ولا يرجو، ولهذا السبب شواهد عظيمة كثيرة من قديم وحديث، ولكن الخلل في عدم صدق التقوى وتحققها، فما أكثر المنغمسين في المعاصي مشاهدة واستماعاً وكلاماً واجتماعاً وأفعالاً، ثم يقولون لا نجد رزقاً، لم نجد عملاً، لم نحصل وظيفة.
ولو اتقوا الله لجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ولرزقهم من حيث لم يحتسبوا.
قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[الأعراف: 96].
فالعمل بتقوى الله والحكم بما أنزل الله، وتنفيذ أحكام كتابة سبب لحلول الرزق وسعته، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم)[المائدة: 66].
أي لأكثر الله الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض ولأسبغ عليهم الدنيا إسباغاً.
ومن أسباب الحصول على الرزق: التوكل على الله -تعالى-:
والتوكل: تفويض الأمر إلى الله والاعتماد على الله وحده، وعدم التعلق: (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ)[العنكبوت: 17].
لا عند غيره، والمتوكل الصادق هو الذي يفرغ قلبه من التعلق بغير الله، ويربطه الله وينتظر الفرج والرزق منه لا من غيره - جل وعلا - مع بذل الأسباب والأخذ بها، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً".
فهذه الطيور الصغيرة صادقة في توكلها، متوكلة عليه حق توكله سبحانه وتعالى، ولذا رزقها الله كل يوم رزقاً، قال تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق: 3].
أي يكفيه رزقه ودينه وما أهمه.
أما من ضعف توكله على الله وأعتمد على الآخرين، وركن إلى الواسطة الفلانية، وتعلق قلبه بالموظف الفلاني، أو النتائج لتلك الشركة أو الدائرة؛ فقد يخذله الله؛ لأنه ما صدق التوكل على الله، ولا أعتمد بقلبه على الله، ولم يترقب الفرج والرزق من الله.
ومن أسباب الرزق العظيمة: التفرغ لعبادة الله جل جلاله:
ومعنى: التفرغ العبد لعبادة الله، أي أن يكون العبد حاضر القلب عند العبادة، هذا هو المقصود بالتفرغ لعبادة الله، وليس المقصود بالتفرغ ترك السعي لكسب المعيشة، والجلوس في المسجد ليلاً ونهاراً، كلا، بلا المراد أن يكون العبد حاضر القلب والجسد أثناء العبادة، خاشعاً خاضعاً لله رب العالمين؛ عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الله - تعالى - يقول: "يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملأت يدك شغلاً، ولم أسد فقرك"[حديث صحيح].
وفي رواية أخرى: "يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً. يا ابن آدم لا تباعدني فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً" [صحيح].
فبعض الناس -عياذاً بالله - قد ملأ الله يديه شغلاً، فأعماله وتجارته وارتباطاته الدنيوية ليس لها حد، ومع هذا قد ملأ الله قلبه فقراً، لم يرزقه الله القناعة، أو البركة فيما آتاه؛ لأنه ما فرغ قلبه لعبادة الله بحضور قلبه فيها.
ومن أسباب الرزق: المتابعة بين الحج والعمرة:
بمعنى أن يجعل أحدهما تابعاً للآخر، أي إذا حج يعتمر، وإذا أعتمر يحج، وهكذا.
والدليل على ذلك قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- : "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة".
فجعل المتابعة بين الحج والعمرة نافية للفقر والذنوب، مذهبة لهما.
ومن الأسباب الشرعية للرزق: صلة الرحم.
فهي من مفاتيح الرزق، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه"[صحيح].
وفي رواية: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في العمر"[أحمد في المسند وهو صحيح] أي تطيل عمره بالبركة فيه.
والرحم هم أقارب الرجل سواء من جهة أبيه أو أمه، سواء كانوا يرثونه أم لا، وسواء كان ذا محرم أم لا، سواء كان طائعاً أو عاصياً، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة فتنموا أموالهم، ويكثر عددهم إذا تواصلوا"[رواة ابن حبان وهو صحيح].
ومن أسباب الرزق ومفاتيحه: الإنفاق في سبيل الله:
قال الله -تعالى-: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ: 39].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : عن ربه - عز وجل -: "يا ابن آدم أنفق ينفق عليك"[رواه مسلم].
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما طلعت شمس قط إلا وبجنبتيها ملكان، إنهما يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: أيها الناس، هلموا إلى ربكم، فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وما غربت شمس قط إلا وبجنبتيها ملكان يناديان: اللهم عجّل لمنفق خلفاً، وعجل لممسك تلفاً"[رواه ابن السني في القناعة وقال مخرجه صحيح].
ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لبلال: "أنفق يا بلال! ولا تخش من ذي العرش إقلالاً".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل بفلاة من الأرض، فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله. فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله! لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: أسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها؟ قال: إما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأردّ فيها ثلثه".
وفي رواية: "أجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل".
فالصدقة والإنفاق في سبيل الله من أسباب الرزق وسعته.
وكذلك الإحسان إلى الضعفاء والفقراء؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم"[البخاري].
وفي رواية: "أبغوني في ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم"[حديث صحيح].
أيها الإخوة الكرام: هذه بعض الأسباب الشرعية الجالبة للرزق، فإذا ما ضاقت الدنيا بعبد في بقعة من البقاع؛ فمن أسباب طلب الرزق: الهجرة: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً)[النساء: 100].
أي يجد في الأرض التي هاجر إليها من الخير والنعمة ما يكون سبباً لرغم أنوف من أخرجوه من بلده، ويجد أيضاً سعة في الرزق؛ كما حصل لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لما هاجروا من بلادهم مكة إلى المدينة، فحصلوا من الخير والنعمة والفضل ما أرغموا به أنوف كفار قريش، وزادهم الله سعة في أرزاقهم.
أيها الإخوة الفضلاء: هذه أبرز أسباب زيادة الرزق، والقضية تحتاج إلى صبر ومصابرة، وعمل وامتثال، لأن البعض يقول: تبت ولم أجد الرزق! وصلت رحمي وما توسع رزقي، تصدقت اليوم فما زاد رزقي؟! فالله وعد: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً) [النساء: 122] (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا)[النساء: 87].
ونتائج كثير من الأعمال لا ترى فوراً، بلا قد يؤجل الله الرزق لعبده في وقت هو أحوج ما يكون إليه.
أيها الأحبة في الله: طوبي لعبد قنعه الله بما آتاه، يقول الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه-: "قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافاً، وقنعه الله بما آتاه".
أتدرون ما الكفاف؟ قيل: هو الذي لا يفضل عن الحاجة ولا ينقص وسئل سعيد بن عبد العزيز: ما الكفاف من الرزق؟ قال: شبع يوم، وجوع يوم، وهكذا كان عيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والطريق إلى القناعة والرضا بما قسم الله هو قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- : "إذا نظر أحدكم إلى من فُضّل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من أسفل منه".
وفي رواية لمسلم: "أنظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم".
وإليكم نموذجاً عملياً لهذه القاعدة العظيمة النبوية:
يقول عون بن عبد الله بن عتبة: "كنت أصحب الأغنياء، فما كان أحد أكثر هماً مني، كنت أرى دابة خيراً من دابتي، وثوباً خيراً من ثوبي، فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء، فاسترحت وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أصبح آمناً في سربه، معافاً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
فكيف لا يقنع برزقه من يسمع هذا القول عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!
النفس تطمع في الدنيا وقد علمت | أن السلامة منها ترك ما فيها |
والله لو قنعت نفسي بما رزقت | من المعيشة إلا كان يكفيها |
والله والله أيمان مكررة | ثلاثة عن يمين بعد ثانيها |
لو أن في صخرة صماً ململمة | في البحر راسية ملس نواحيها |
رزقاً لعبد براها الله لانفلقت | حتى تؤدي إليه كل ما فيها |
أو كان فوق طباق السبع مسلكهما | لسهّل الله في المرقى مراقيها |
حتى ينال الذي في اللوح خط له | فإن أتته وإلا سوف يأتيها |
أيها الإخوة: هذه المفاهيم الشرعية حول قضية الرزق ينبغي أن يتذكرها المسلمون دائماً وأبدا، وهم يطلبون الرزق ويسعون له، فإن تدبرها وتأملها والإيمان بها يريح النفس من العناء، وحين تختل هذه المفاهيم وتنسى هذه القيم يُصاب الناس بأدواء الدنيا المهلكة التي حذر منها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم".
أسأل الله أن يرزقنا إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، ورزقاً حلالاً...