الجواد
كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...
العربية
المؤلف | سعيد بن عبد الباري بن عوض |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
عباد الله: ظاهرة مؤسفة يتألم لها المؤمن ويحترق لها قلبه حسرة أن تحدث في مثل هذه الأيام المباركة، والليالي الشريفة، ولا يعرف لها سبب وتفسير إلا الغفلة التي قد اشتدت واستحكمت، حتى أعمت صاحبها عن رؤية الشمس في وضح النهار. وهذه الظاهرة -أيها المؤمنون- قد غدت واضحة لا تخفى على أحد ممن له أدنى تأمل وملاحظة، حيث نرى جميعاً أن...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
إخوة الإيمان: لقد من الله علينا بمنن كثيرة، لا تعد ولا تحصى، وأعظمها شأناً، وأجلها قدراً، وأعلاها منزلة هذا الدين العظيم، فأي نعمة فوق أن اختارنا الله لنكون من خير أمة أخرجت للناس.
ولا زالت نعمه سبحانه تترى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا)[إبراهيم: 34].
أيها المؤمنون: ومن نعم الله علينا أن جعل لنا مواسم خير وعطاء، نستجلب فيها رحمته ومغفرته، ونتخفف فيها من أحمال من الذنوب، وأثقال من الأوزار قد أثقلت الكواهل وأقضت المضاجع، ونعود بعدها إن نحن أحسنا استغلالها صفراً من الذنوب؛ كما وعدنا ربنا وأعلمنا بذلك نبينا.
وتلك -أيها المؤمنون- واحدة من النعم العظيمة التي ما قدرها الكثير منا حق قدرها.
ومن هذه النعم والمنن: شهر رمضان وخير ما في هذا الشهر العشر الأواخر منه لوجود ليلة فيه هي خير من ألف شهر، كما أخبر الله -تعالى- بذلك في كتابه، قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَـاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ * لْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَـائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ * سَلَـامٌ هي حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[القدر: 1-5].
عباد الله: ظاهرة مؤسفة يتألم لها المؤمن ويحترق لها قلبه حسرة أن تحدث في مثل هذه الأيام المباركة، والليالي الشريفة، ولا يعرف لها سبب وتفسير إلا الغفلة التي قد اشتدت واستحكمت، حتى أعمت صاحبها عن رؤية الشمس في وضح النهار.
وهذه الظاهرة -أيها المؤمنون- قد غدت واضحة لا تخفى على أحد ممن له أدنى تأمل وملاحظة، حيث نرى جميعاً أن الإقبال على العبادة والطاعة يقل في العشر الأواخر من رمضان، وتأمل عدد المصلين في الأيام الأولى من رمضان، وعددهم في الأيام الأخيرة من رمضان يظهر لك الفرق جلياً.
نقص كبير في عدد الذين يصلون التراويح، وأقل منهم الذين يصلون القيام الآخر.
فأين تلك الأعداد الكبيرة التي كانت تملأ المساجد، حتى لا يجد البعض مكاناً داخل المسجد فيصلي خارجه؟
إنه قد يفهم المرء سبباً لهذا النقص فيما لو حدث بعد انتهاء رمضان، وقد يجد لذلك تفسيراً.
لكن المشكلة أن هذا النقص يحدث في شهر رمضان نفسه والشهر لا زال جارياً، بل وفي أي وقت من رمضان في أفضل ليالي الشهر، في العشر الأواخر التي فيها ليلة القدر التي قال فيها ربنا -تبارك وتعالى-: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[القدر: 3].
وقال صلى الله عليه وسلم: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان"[رواه البخاري ومسلم].
في هذه الليالي التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد فيها -العشر الأواخر- ما لا يجتهد في غيره، كما روت ذلك أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، وكذلك قالت رضي الله عنها: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر"[رواه مسلم].
كل ذلك تحرياً لليلة القدر التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"[رواه البخاري].
لكن الحسرة والخسارة أن تمر علينا ليالي العشر وندرك هذه الليلة العظيمة دون أن يغفر لنا -عياذاً بالله- من ذلك.
وإن ما يزيد الأسى والحزن أن تقضى هذه الليالي في التنقل بين الأسواق بحثاً عن أثاث، أو ثياب، أو غير ذلك، فتهجر المساجد، وتعمر الأسواق.
تهجر المساجد التي قال فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب البلاد إلى الله مساجدها".
وتعمر الأماكن التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "أبغض البلاد إلى الله أسواقها"[رواه مسلم].
وفي أي الليالي؟ في أعظم ليالي السنة وأفضلها، وفي أي ساعة؟ في الساعة التي ينزل فيها ربنا -تبارك وتعالى- إلى السماء الدنيا ليعطي السائلين ويغفر للمذنبين في الثلث الأخير من الليل الذي قال فيه رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "ينزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"[متفق عليه].
فلا إله إلا الله كيف انتصر الشيطان على كثير من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فصرفهم عن مثل هذه الفرصة العظيمة.
إنه –والله- لو لم يكن للشيطان مع أولئك إلا هذا الموقف الذي حرمهم فيه هذه الأجور العظيمة لكان ذلك غبناً لهم ومكسباً للشيطان، فكيف وهو قد أوقعهم مع ذلك في كثير من المعاصي ثم صرفهم عن الفرصة التي يمكنهم فيها طلب العفو والحصول على عفو شامل لتلك الذنوب التي أوقعهم فيها، بحرمانهم من قيام تلك الليلة التي من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
فالله الله -أيها المؤمنون- لا تفوتنكم هذه الفرصة العظيمة، فو الله لا يدري أحدنا هل يدركها مرة أخرى؟ أم يكون ساعتها تحت الأرض مرهون بما قدم لنفسه؟ وهي ليالي معدودة تمر سريعة، فالموفق من وفقه الله لاغتنامها -جعلنا الله وإياكم ممن وفقوا لقيام ليلة القدر-.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق الإنسان من تراب، وفاوت بين الناس في الأخلاق والآداب، كما فضل بعض الأزمنة على بعض بحكمته، ووفق من شاء لطاعته برحمته. أحمده سبحانه على كل حال، وأشكره على دوام الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله المتفرد بالجلال والكمال، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، يعلم ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، بلغ البلاغ المبين، صلى الله عليه وعلى خلفائه الراشدين، وآل بيته الطيبين، وصحابته الكرام الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
معاشر المؤمنين: فإن لهذه العشر فضائل وخصائص تجعل المؤمن الحريص على آخرته، لا يفرط في دقائقها قبل ساعاتها، فمن هذه الخصائص:
أولاً: اجتهاد النبي –صلى الله عليه وسلم- فيها فوق ما كان يجتهد في غيرها، كما روت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "وكان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره"[رواه مسلم].
وما أشرنا إليه كذلك من شد المئزر منه عليه الصلاة والسلام كذلك اجتهاداً منه في طاعة ربه، فلنقتد به ولنتأس به.
ثانياً: ومن خصائص هذه العشر: أن فيها ليلة القدر كما ذكرن وهذه الليلة لها خصائص كثيرة منها:
أنه نزل فيها القرآن، قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَـاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[القدر: 1].
وقال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَـاهُ في لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ)[الدخان: 3].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-".
وصفت هذه الليلة بأنها خير من ألف شهر في قوله تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[القدر: 3].
وهذا كما قال أهل العلم يعني أنها تعدل بضعاً وثمانين سنة.
وصف الله هذه الليلة بأنها مباركة كما قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَـاهُ في لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ)[الدخان: 3].
تنزل فيها الملائكة والروح، وهو جبريل -عليه السلام-، فتنزل الملائكة في هذه الليلة بكثرة، والملائكة لا تنزل إلا مع نزول الرحمة والبركة.
وصفها بأنها سلام، يعني سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو يعمل فيها أذى كما قال أهل العلم.
وتكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب لما يقوم به العبد من الطاعة والقربة لله -تعالى-.
ومن خصائصها قول الله -تعالى- فيها: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[الدخان: 4]
أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها.
كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير، وكل ذلك مما سبق علم الله به وكتابته له، ولكن يظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم.
من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، وقد ذكرنا الحديث الوارد في ذلك في الخطبة الأولى.
ثالثاً: من خصائص العشر كذلك اختصاص الاعتكاف فيها بزيادة الفضل على غيرها من أيام السنة.
وقد اعتكفها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كما روت ذلك أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله -تعالى- ثم اعتكف أزواجه من بعده"[متفق عليه].
هذه -أيها المؤمنون- بعض خصائص هذه العشر، والسعيد من وفقه الله للطاعة وتقبل منه، والشقي من ضيع هذه الليالي في معصية الله، أو بلا قربة لله.