الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | بندر النودلي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
فاختموا شهر رمضان بخير ختام؛ فإن الأعمال بالخواتيم، وداوموا على فعل الطاعات في بقية الشهور؛ فإن رب الشهور واحد، وهو مطلع عليكم وشاهد، فقد أمركم بفعل الصالحات في جميع الأوقات، فحافظوا على ما جبلت عليه أجسادكم وأرواحكم من الهمة والعزم، ولا تضيعوها فتهدموا ما بنيتم، وتنقضوا ما أبرمتم، فقد أمركم الله...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الواسع العظيم، الجواد البر الرحيم، خلق كل شيئا فقدّره، وأنزل الشرع فيسّره، وهو الحكيم العليم، بدأ الخلق وأنهاه، ويسر الفلك وأجراه.
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس:38-40].
أحمده على ما أولاه وهداه، وأشكره على ما وهب وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا هو الملك العلي الأعلى، الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وهو بكل شيء عليم.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، والمصطفى على العالمين وخليله، صلى الله عليه ما تعاقبت الشهور، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: عباد الله: كنتم بالأمس القريب تستقبلون شهر رمضان المبارك، واليوم تودعونه مرتحلا عنكم، وقد قرب رحيله، وأزف تحويله، وإنه لشاهد لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فمَن أودعه عملا صالحا فليحمد الله على ذلك، وليبشر بحسن الثواب، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ومن أودعه غير ذلك فليتق الله في نفسه، وليتب إلى ربه؛ لعل الله أن يقبل توبته ويتغمده بواسع رحمته.
فاختموا شهر رمضان بخير ختام؛ فإن الأعمال بالخواتيم، وداوموا على فعل الطاعات في بقية الشهور؛ فإن رب الشهور واحد، وهو مطلع عليكم وشاهد، فقد أمركم بفعل الصالحات في جميع الأوقات، فحافظوا على ما جبلت عليه أجسادكم وأرواحكم من الهمة والعزم، ولا تضيعوها فتهدموا ما بنيتم، وتنقضوا ما أبرمتم، فقد أمركم الله بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها قائلا: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238].
وقد أثنى -سبحانه وتعالى- على عباده الذين هم على صلاتهم دائمون، وتوعد المضيعين لها بالويل، فقال -سبحانه-: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون:4-5]، وهم المتهاونون بأوقاتها مع الجماعة؛ ولهذا وصفهم الله -جل وعلا- في الآية التي تليها بالرياء والقسوة وعدم الرحمة، فقال: (الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ) [الماعون:6]، أي: يعملون أعمالهم رئاء الناس، (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) [الماعون:7]، بمنعهم الإنفاق في وجوه الخير والمساعدة.
فاحذروا التثاقل عن الصلاة؛ فإن ذلك من صفات المنافقين، فلا عذر ولا رخصة دونما عذر شرعي لمن سمع النداء فلم يجب، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا مِن عُذْرٍ".
عباد الله: إنه -وإن انقضى شهر رمضان- فإن عمل المؤمن لا ينقضي قبل الموت، قال -تعالى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99]، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
فلئن انقضى صيام شهر رمضان فإن المؤمن لا ينقطع عن عبادة الصيام، فالصيام لا يزال مشروعا ولله الحمد في كل العام، ففي صحيح مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن صام رمضان، ثم أتبعه ستّاً من شوال، كان كصيام الدهر".
وصيام ثلاثة أيام من كل شهر قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثٌ من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله".
وفي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صيام يوم عرفة فقال: "يكفّر السنة الماضية والباقية".
وسئل عن صيام عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية"، وسئل عن يوم الاثنين فقال: "ذاك يومٌ ولدت فيه، ويوم بعثت فيه، أو أنزل علي فيه".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم".
وسئل -عليه الصلاة والسلام-: "أي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟"، فقال: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم".
وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- استكمل شهرا قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان"، وفي لفظ: "كان يصومه إلا قليلا".
واعلموا -أيها الناس- أن صيام الستّ تشرع إذا استكمل المسلم صيام رمضان، فمَنْ عليه قضاء من رمضان فليصم القضاء أولا ثم يصم ستا من شوال، ويدخل في ذلك الحائض والنفساء، ولا حرج في صيامه أياما متتالية أو متفرقة، والمبادرة فيها أفضل، ولا يشرع قضاؤها بعد انسلاخ شوال؛ لأنها سنة فات محلها.
عباد الله: ولئن انقضى قيام رمضان فإن القيام لا يزال مشروعا ولله الحمد في كل ليلة من ليالي السنة، ثابت ذلك من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل، وهي في الثلث الأخير من الليل، أرجى للخير، وأنقى للإخلاص".
ففي الصحيحين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: مَن يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟".
ولا تتركوا السنن الرواتب التابعة للفرائض، وهي اثنتا عشرة ركعة: أربع قبل الظهر، وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر.
فعن أم حبيبة -رضي الله عنها- قالت: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة".
والذكر بعد الصلوات الخمس أمر الله به في كتابه، وحث عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، قال -تعالى-: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) [النساء:103].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن سبّح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبّر ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر".
فاجتهدوا -عباد الله- في فعل الطاعات، واحذروا الخطايا والسيئات؛ لتفوزوا بالحياة الطيبة في الدنيا والفلاح بعد الممات، قال -تعالى- وهو أعلم بسنن الكون: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي مَنّ علينا بإدراك شهر رمضان، ووفق من شاء فيه لنيل المغفرة والرضوان.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: أيها الناس: إنّ شهركم هذا قد قرب رحيله، وأزف تحويله، وإنه شاهد لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال؛ ولقد شرع الله لكم في ختام شهركم هذا عباداتٍ تزيدكم من الله قرباً، وتزيد في إيمانكم قوة، وفي سِجِلِّ أعمالكم حسنات.
شرع لكم زكاة الفطر قبل صلاة العيد، فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والحر والعبد من المسلمين، قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر في رمضان، صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين"
وهي إحسان إلى الفقراء، وكفّ لهم عن السؤال في أيام العيد؛ ليشاركوا الأغنياء في فرحهم وسرورهم، وفيها تكفير للصائم مما يحصل في صيامه من نقص ولغو.
ويجوز إخراجها من قوت البلد من بُرٍّ أو أرز أو زبيب، وقد فرضها -صلى الله عليه وسلم- من الطعام.
وأما زمن دفعها إلى الفقراء فلها وقتان: وقت الفضيلة، وهو صباح العيد قبل صلاة العيد، ووقت الجواز، وهو قبل العيد بيوم أو يومين.
ولا يجوز تأخيرها عن وقت العيد، فإن أخّرها لصلاة العيد دون عذر فلن يقبل منه، قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "مَن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات".
كما شرع الله لكم التكبير عند إكمال العدة من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، قال -تعالى-: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185].
وصفته أن يقول: "الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد".
يُسَنّ جهر الرجال به في المساجد والأسواق والبيوت؛ إعلانا بتعظيم الله، وإظهارا بعبادته وشكره.
وشرع لعباده صلاة العيد، وهي من تمام ذكر الله -عز وجل- أقر بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته رجالا ونساء، يؤديها المسلم بخشوع وحضور قلب، ويُكثِر من ذكر الله ودعائه ورجاء ورحمته، ويتذكر باجتماع الناس في المصلى اجتماع الخلائق في المقام الأعظم بين يدي الواحد الأحد، ولا نافلة قبل صلاة العيد ولا بعدها.
ألا سلامٌ على الأقدام المنصوبة، والأكفِّ المبسوطة، والدعوات المرفوعة.
سلامٌ على الأعين الساهرة، والدمعات السائحة، والقلوب الخاشعة.
سلامٌ على صفوف المساجد وقد ازدحمت بروادها، وعلى رحبات المساجد وقد تباهت بعمَّارها، وعلى صلاة التهجد والتراويح، وعلى جلبة المصلين في المغرب والفجر.
سلامٌ على قلوب ابتهلت إلى ربها وأنابت، وسلامٌ على أحرف من القرآن تُليت فأضاءت، أضاءت جوانح القلوب، وملأت الرحب والفضاء، بين مخافت ومجاهر، ومنبر ومنارة، ومسجد ومنزل وسيارة.
ألا ليت السَّنَة كلّها رمضان! نتنسم فيها نفحات الرحيم الرحمن، وتتنشط نفوسنا من كسلها، وتقبل على ما ينفعها، فتجد المعين على الإيمان.
ألا ليت السنة كلّها رمضان! تُملأ فيها المساجد، وتهدأ في النفوس الثوائر، وتجود الأيادي بالأعطيات، وتُخرج فيها للمستحقين الزكوات، وتُقضى الحاجات، وتُزال الكُربات، ويفطَّرُ الصائمون، ويتداعى للقيام والسهر القائمون، ويعتكف المعتكفون، ويتحرى ليلة القدر المتحرون.
أما ترون لذة العبادة؟ أما تشعرون بمنة الله عليكم وزيادة؟ فكيف إذا أسكنكم دار السعادة، وتأذَّن -سبحانه- لأوليائه بالجنة وزيادة؟.
ألا وصلوا وسلموا على خير من صلى وصام، وخير من زكى وقام، سيدنا محمدا وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم ارض عن الخلفاء الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؛ وعلى الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم اجعلنا ممن قبلت صيامه وقيامه، وغفرت ذلَله وإجرامه.