العربية
المؤلف | يزيد بن الخضر ابن قاسي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
لا بد أن نقف على حقيقة قد يغفل عنها الكثيرُ من الناس، وتتمثل هذه الحقيقة في طرحنا لسؤال على أنفسنا: هل نستحق هذه الأمطارَ حقيقة؟ وهل يظن الواحدُ منا أن هذا المطرَ الذي نزل هو جزاءٌ نستحقه لما قدمناه من أعمال؟ وهل يصدق فينا قولُه تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) [الجن:16]، أي: لو استقاموا على طريقة الهدى وملةِ الإسلام قولا وعملا واعتقادا لأسقيناهم ماءً كثيرا، فهل تشملنا هذه الآيةُ الكريمة؟ وخاصة بالنظر إلى حالنا وحال المسلمين اليوم من...
الخطبة الأولى:
عباد الله: إننا في هذه الأيام نتقلب في نعمة من نعم الله وافرة، فسماؤنا تمطر، وأشجارنا تثمر، وأرضنا تخضرّ، وما هذا إلا نعمة ورحمة من المنعم الرحمن المنان.
فوالله، ثم والله، لولا الله ما سقينا، ولا تنعّمنا بما أوتينا. (أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) [الواقعة:68-70]، أجاج أي: شديد الملوحة.
اللهم لك الشكر على آلائك التي لا تعد ولا تحصى، اللهم لو شئت لجعلت ماءنا أجاجاً، ولكن رحمتك أدركتنا فجعلته عذباً زلالاً، فلك الشكر لا نحصي ثناءً عليك، فما بنا من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك.
عباد الله: وكيف لا نشكر الله وقد كنا بالأمس القريب فقط نشكو الجدب والقحط وقلة المياه، وكانت مشكلة نقص المياه تُعد من أكبر أزمات البلاد، مما دفع أهلَ التدبير والتسيير للتخطيط والتفكير للخروج من هذه الأزمة، فجنّدوا الرجال وخصصوا الأموال وجهزوا الآلات بل حتى اقترح مشروع استيراد المياه.
فنزلت رحمة الله الواسعة فرويت الأرض، وجرت الوديان، وامتلأت الآبار، وسالت العيون، وفاضت السدود برحمة من الله وفضله.
أيها الإخوة المسلمون: إن رحمة الله بنا عظيمة، ونعمه علينا كثيرة، فالواجب علينا أن نشكر الله على هذه النعمة، وأن ننسب الفضل له، فما مطرنا إلا بفضل الله ورحمته. جاء في صحيح البخاري ومسلم عن زيد الجهني أنه قال: صلى بنا رسولُ الله-صلى الله عليه وسلم- الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت بليل، أي: بعد ليلة ممطرة، فلما انصرف النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا أو كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب".
كان أهل الجاهلية يظنون أنّ نزول الغيث بواسطة كوكب من الكواكب اسمه النوء، فكانوا يعتقدون أنّه هو الموجد والفاعل المحدث للمطر، فأنكر الله عليهم ذلك، وأبطل قولهم وجعله كفرا.
فالشاهد من الحديث أن على كل المسلم أن ينسب نزول المطر لله وحده لا شريك له، وأن يشكره تعالى ويقول: مطرنا بفضل الله ورحمته، وأن لا يعلق نزول المطر بشيء من المخلوقات كوكب كان أو نجم أو طبيعة كما يزعم البعض، وما الطبيعة؟ بل رب الطبيعة وحده لا شريك الله.
أيها الإخوة المسلمون: إن المؤمن المستبصر دومًا وأبدا يتأمل ويتدبر في مخلوقات الله، ويتخذ من كل حركة وسكون في هذا الكون آية تدل على عظمته -سبحانه وتعالى- وقوّته وقدرته وكرمه وفضله.
وفي كل شيء له آية | تدل على أنه الواحد |
قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة:164].
وفي نزول المطر عبر وآيات عظيمة ذكرها الله في كتابه العزيز فينبغي أن نعتبر بها حق الاعتبار.
ومن هذه العبر والآيات ما جاء في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف:57].
نعم ففي إنزال المطر دليل ومثال على قدرة الله العظيمة، ويتجلى ذلك في إنشائه سبحانه للسحب بعدما كانت ماءً يتبخر، فتتراكم وتتجمع على أشكال مختلفة، ثم تأتي الرياح بأمره فتسوقها إلى بلد محدّد دون بلد آخر، وإلى مكان محدد دون مكان آخر، فينزل المطر بقدر معلوم وفي أوقات معلومة، ذلك تقدير العزيز العليم.
ومن العبر والآيات كذلك قوله -عزّ وجل-: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد:12، 13]. نقف وقفة مع هذه الآية الكريمة لما تتضمن من معاني عظيمة.
قال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً)، نعم نخاف البرق وما يتبعه من الرعد والصواعق، ونخشى أن يتحول ذلك إلى عذاب، ومن منّا لا يخاف من هذا كله؟! ومن يأمن مكر الله؟! فلا يأمن مكر الله إلا القوم الظالمون، ولكننا في نفس الوقت مع هذا الخوف نطمع فيما يعدنا الله من المطر، وما يتبعه من فضل وخير وبسط في الرزق.
ثم قال: (وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ)، نعم ينشئ السحاب الثقال، هذه السحب التي نراها كل يوم بأشكال متنوعة وأحجام كبيرة مختلفة، كم طنًّا تزن؟ إن المِتر المكعّب يزن طنًّا، فكم فيها من الأطنان؟! ومن يحملها بهذه الأوزان؟! إننا لا نستطيع أن نتصوّر وزنها، غير إنها ثقال كما قال ربنا المتعال.
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ)، إن الرعد وما أدراكم ما الرعد ليسبح بحمد الله -عز وجل-، ذلك الصوت المخيف الذي يخافه كبيرنا وصغيرنا، والذي يفزعنا في يقظتنا ومنامنا ليُسبِّح بحمد الله -عز وجل-، فهل تدبرنا هذا؟, (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) نعم، إن الملائكة لتسبح خوفاً من الله، (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء:20].
(وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) مع أنّ الله عنده هذه الآيات كلها من رعد وبرق وصواعق والملائكة تخافه وتسبحه، ولكن الناس يجادلون في الله، أي: يكذبون به وبقدرته وعظمته ودينه، (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) أي: شديد القوة سبحانه، إنها قوةٌ لا حدود لها، فما يعجزه شيء سبحانه.
ومن آياته في إنزال المطر إحياؤه للأرض بعد موتها، نرى الأرضَ جرداءَ قاحلة قد تشققت، ونال منها القحطُ وجفت، وعجز في إصلاحها الناس، ويئس منها المزارع، فبينما هي كذلك إذا بها تهتز خضراء رابية، قال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت:39]. خاشعة أي: يابسة.
وفي إحيائه للأرض بعد موتها العبرة ومثال لقدرته في إحيائه للموتى يوم القيامة، ولذا نجد أن الله كثيرا ما يربط بين إحياء الأرض بعد موتها وبين إحياء الموتى من قبورهم، (فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). نعم، إن إحياء الله الأرض بعد موتها لدليل واضح على قدرته سبحانه على إحياء الموتى، وقال تعالى: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) [الزخرف:11]، أي: كذلك خروجكم من قبوركم بعد موتكم، فالذي أحيى الأرض بعد موتها قادر على بعثكم بعد موتكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما في من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة المسلمون: لا بد أن نقف على حقيقة قد يغفل عنها الكثيرُ من الناس، وتتمثل هذه الحقيقة في طرحنا لسؤال على أنفسنا: هل نستحق هذه الأمطارَ حقيقة؟ وهل يظن الواحدُ منا أن هذا المطرَ الذي نزل هو جزاءٌ نستحقه لما قدمناه من أعمال؟ وهل يصدق فينا قولُه تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) [الجن:16]، أي: لو استقاموا على طريقة الهدى وملةِ الإسلام قولا وعملا واعتقادا لأسقيناهم ماءً كثيرا، فهل تشملنا هذه الآيةُ الكريمة؟ وخاصة بالنظر إلى حالنا وحال المسلمين اليوم من كثرة الذنوب والعصيان والفسوق والطغيان والظلم والعدوان والتقصيرِ في حق الله والبعدِ عن دينه. فهل تشملنا هذه الآيةُ الكريمة؟ كلا وكلا، بل هي رحمة الله الواسعة التي أدركتنا، بل هي رحمة الله التي غلبت غضبه، فوالله ثم والله لولا رحمةُ الله وحلمُه ما رأينا هذا الخيرَ كلَه.
ويشهد لهذه الحقيقة ويبرهن عليها ما جاء في سنن ابن ماجه بسند حسن أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "لم ينقص قومٌ المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم ما أمطروا".
اسمعوا جيدا -أيها الإخوة المسلمون- إلى قوله: "ولولا البهائم ما أمطروا"، نعم هذه هي الحقيقة، لولا هذه البهائمُ والحيوانات، ولولا رحمة الله ما رأينا هذا الخيرَ كله.
وبهذا -معشر المسلمين- ندرك مدى رحمة الله الواسعة، ومدى حلمه الكبير مع تقصيرنا في حقه.
اللهم إنا نسألك أن ترحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، وأن تعفو عنا وتهدينا سبل السلام، وأن ترد المسلمين إلى دينك ردا جميلا، وأن لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
أيها الإخوة المسلمون: لقد علّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدعية وأذكارا تقال آناء الليل وأطراف النهار، ومنها ما هو مخصوص بحسب الحال والمكان، وما ذلك إلا ليبقى المسلم دائما متصلا ومتعلقا بربه -جل وعلا-، ذاكرا وداعيا إياه مستغيثا ومناجيا.
روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-كان إذا رأى المطر قال: "اللهم صيبا نافعا". وعندما يتوقف كما تقدم يقول: "مطرنا بفضل الله ورحمته". وكان إذا نزل المطر خشي منه الضرر دعا وقال: "اللهم حولينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر".
وإذا هبت الريحُ نهانا عن سبّها لأنها مأمورة، وكان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني نسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به". وجاء في الأثر بسند صحيح عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: "سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته".
فلا ينبغي للمسلم أن تفوته مثل هذه الأدعية و الأذكار.
والدعاء عند نزول الغيث مستجاب، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اطلبوا إجابة الدعاء عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة ونزول المطر". فهذا من فضائل نزول الغيث، فما لنا لا نغتنمها؟!.
ولا بأس أن نُذَكّر إخواننا ببعض الرخص الصحيحة التي تؤدّى عند نزول الغيت، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الجمع بين الصلاتين في المسجد، وذلك لرفع المشقة عن أمته، وكما رخص للمسلم أن يصلّي في رحله أو بيته.