البحث

عبارات مقترحة:

الرقيب

كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

الواحد

كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...

التواب

التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...

أين قلبك من خطبة الجمعة؟

العربية

المؤلف شعيب العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. فضل يوم الجمعة .
  2. أهمية خطبة الجمعة .
  3. مظاهر تعظيم يوم الجمعة .
  4. وسائل الانتفاع بخطبة الجمعة .
  5. تأثر الصحابة بخطبة واحدة .
  6. خطر عدم التأثر بخطبة الجمعة .

اقتباس

اسأل نفسك -أيّها المبارك-: كم خطبة حضرت؟ يا ابن عشرين سنة كم خطبة سمعت؟ يا ابن ثلاثين؟ يا ابن أربعين، خمسين ستين؟ كم موعظة وعظنا وكم تذكرة ذكرنا؟ جمعات وجمعات تمرّ علينا مرور الكرام، دون أن نعيرها أدنى اهتمام، قد جفّ حلق الخطيب فيها وعظا وتّذكيرا، وفرغت جعبته من المواضيع إنذارا وتبشيرا، فتراه تارة عن...

الخطبة الأولى:

روى الإمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ ضِمَادًا -رضي الله عنه- قَدِمَ مَكَّةَ، قبل إسلامه، وَكَانَ يَرْقِي فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّى رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ، فَلَقِيَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِى عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ، فَهَلْ لَكَ يعني: في أن أرقيك؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ" فَقَالَ ضماد: أَعِدْ عَلَىَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاَءِ، فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ ضماد بعد ذلك: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاَءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ -أي وسط البحر وعمقه من شدّة تأثيرهن- ثمّ قَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَبَايَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَعَلَى قَوْمِكَ؟"

قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَرِيَّةً، فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ، فَقَالَ: صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ: هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلاَءِ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً، فَقَالَ: رُدُّوهَا فَإِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمُ ضِمَادٍ، إنّها كلمات يسيرات، وفي مجلس واحد، تأثر بها ضماد -رضي الله عنه-، نقلته من لجّة الكفر إلى لذة التوحيد، وأخرجته من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، كلمات لطالما ترددت على منابرنا، لطالما تكررت في الجمعة على مسامعنا، فأين أثرها علينا من أثرها عليه؟

عباد الله: لقد منّ الله عليكم بيوم هو خير الأيام، قال عنه نبيكم -صلى الله عليه وسلم-: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة"[رواه مسلم من حديث أبي هريرة].

وزيّنه لكم بشرعة هي أحكم الشّرائع، فكتب عليكم فيه صلاةً، هي أفرض الصلوات صلاة الجمعة، وقدًمها لكم بخطبة، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)[الجمعة: 9].

قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: (فَاسْعَوْا إلى ذكر الله) "أي: الصلاة، وقيل: الخطبة والمواعظ".

وقال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر".

أي: الخطبة، لتخرجوا بعد الذكر بقلوب غير التي دخلتم بها، وبحال غير التي ولجتم بها، متّعظين معتبرين، بالإيمان مثقلين، وعن الذنوب والزلل تائبين.

عباد الله: لقد أضحت خطبة الجمعة –وللأسف- هي الفرصة الوحيدة لكثير من المسلمين في سماع العلم، حين فرطوا في دينهم فما تفقهوا فيه، وأعرضوا عن شريعتهم وما عملوا بها، ويتلوا أوّل الأسفِ؛ أسفٌ وألفُ أسفٍ، حين تقلّب ناظريك في أبناء أمّة الجمعة فلا ترى لها فيهم أثرا، ولا تلحظ لها عليهم خبرا.

عباد الله: ما ينيف عن خمسين خطبة في العام، تتلقاها القلوب كل سبعة أيّام، أين أثرها على قلوبنا؟ أين أثرها على سلوكنا وأخلاقنا؟ أين أثرها على علاقتنا مع ربّنا؟ وآبائنا وأمهاتنا وجيراننا؟

اسأل نفسك -أيّها المبارك-: كم خطبة حضرت؟ يا ابن عشرين سنة كم خطبة سمعت؟ يا ابن ثلاثين؟ يا ابن أربعين، خمسين ستين؟ كم موعظة وعظنا وكم تذكرة ذكرنا؟ جمعات وجمعات تمرّ علينا مرور الكرام، دون أن نعيرها أدنى اهتمام، قد جفّ حلق الخطيب فيها وعظا وتّذكيرا، وفرغت جعبته من المواضيع إنذارا وتبشيرا، فتراه تارة عن شرّ الشرك والظلم، والربا والزنا، والخمر والغنا يحذر، وتراه تارة بفضل التوّحيد والعدل، والبرّ والصلة يبشِّر، وأخرى بعذاب النّار يعظ وبنعيم الجنّة يذكّر، يستلين الناس بالقول إذا قسوا، ويستخضعهم به إذا عصوا، ويستميل أفئدتهم بالرغبة والرهبة إذا تفلّتوا، ولكن:

ليوم الحشر قد عملت رجال

فصلوا من مخافته وصاموا

ونحن إذا نهينـا أو أمرنـا

كأهل الكهف أيقاظ نيام

ولا عجب، لا عجب، إن كان حالنا مع خطبة الجمعة والتأثر بها على هذا المستوى الدنيء، ذلك أنّك وأفواجا وأفواجا من النّاس يتأخرون عنها، وترى هذا حين الخطبة لسقف المسجد مبحلق، وذاك عينه على ساعته محدق، وآخر في نوم عميق مستغرق، ولو سألت بعض المصلين بعد الصلاة عن موضوع الخطبة لما عرف ولا للإجابة أدرك، الإمام في واد وهو في وادٍ غيرِ الذي سلك، إلا من رحم الله، فإنّا لله ما أشبه حالهم بحال من قال فيهم الباري -جل جلاله-: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ) [محمد: 16].

يا أمّة الجمعة: عظموا هذا اليوم حقّ تعظيمه، واقدروه حقّ قدره، فإنّ تعظيمه من تعظيم الله ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب وكونوا كنبيّكم الذي قال عنه ابن القيم -رحمه الله-: "وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره"[زاد المعاد: 1/375].

ومن أعظم مظاهر تعظيم هذا اليوم: تعظيم الخطبة التي اختصّت به.

يا أمّة الجمعة: لا بدّ أن نعيد النظر في نياتنا ومقاصدنا، ونصحح تصوراتنا ومفاهيمنا لخطبة الجمعة، لا ينبغي أن يكون حضورنا لأجل إبراء الذّمة، وإسقاط الطلب بأداء الفرض فحسب؛ لا ينبغي أن يكون حضورنا للجمعة حضور عادة ورثت عن الآباء والأجداد، لا ينبغي أن يكون حضورنا مجاملة للنّاس وتسليما لأعراضنا من قدحهم فينا إذا تخلفنا عنها، كلا، بل لابد أن يكون الحضور حضور عبادة لله وحده، مخلصين له الدين، منتفعين بالموعظة ومستفيدين.

قال ابن حزم -رحمه تعالى-: "إذا حضرت مجلس علم فلا يكن حضورك إلّا حضور مستزيد علما وأجرا لا حضور مستغن بما عندك، طالبا عثرة تشِيعها، أو غريبة تشنّعها فهذه أفعال الأرذال الذين لا يفلحون في العلم أبدا فإذا حضرتها على هذه النية فقد حصلت خيرا على كل حال".

أما توطين النفس على عدم الانقياد للحقّ فلا ينفع معه تذكير ولا وعظ، وخير ما يستعين به العبد على الانتفاع من الذكرى حسن الاستماع والإنصات، قال الله -تعالى-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].

أي وجه سمعه وأصغى بها إلى ما يقال له وهذا شرط التأثر بالكلام، قال الله -عز وجل-: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام: 36].

قال بن القيم -رحمة الله-: "فالسماع رسول الايمان إلى القلب وداعيه ومعلمه، وكم في القران من قوله: (أَفَلَا يَسْمَعُونَ) [السجدة: 26].

ولهذا جاء التحذير مما يضاد هذا المعنى من الانشغال بغير الجمعة، قال صلى الله عليه وسلم: "من مسّ الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له".

وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب: أنصت، فقد لغوت".

أيها المباركون: احرصوا على الانتفاع من خطبة الجمعة، وأحضروا قلوبكم، ولا تكونوا من الغافلين، لا تكونوا من الذين لا يطيب لهم مراجعة حساباتهم الماليّة إلا حين يرتقي المنبرَ الإمام، لا تكونوا أحلاس بطونٍ لا يحلو لهم الفكر حينها إلا فيما سيتناوله بعد الصلاة من الشراب والطعام، لا تكونوا من الذين لا يلتذ لهم نعاس ولا يهنأ لهم نوم إلا حين يلقى على مسامعهم ميراث النبوة من الحلال والحرام، قد تسلط عليهم إبليس فأحكم فيهم اللجام، ولو كان الواحد منهم في مجلس لغو، أو غيبة، أو لهو، أو ريبة، إذا هو من أنشط النّاس، فهذه رزية وأي رزية وبلية ما بعدها بلية، روي أن رجلاً قال لخالد بن صفوان: مالي إذا رأيتكم تذاكرون الأخبار، وتدارسون الآثار، وتناشدون الأشعار، وقع عليَّ النوم؟ فقال: لأنّك –كذا- في مسلاخ إنسان.

وذكر نوعا من أنواع الحيوانات التي عرفت بالبلادة -أكرمني الله وإياكم-، ولقد شرع لكم نبيكم من الآداب ما يتحقق به حضور القلب من الاغتسال قبل الجمعة والتطيب، ولبس نظيف الثياب والقرب من الإمام، ويجد العبد بذلك من راحة القلب، وخفة النفس، وانشراح الصدر، ما يتهيأ معه تمام التهيؤ لسماع موعظة الجمعة، والانتفاع بها، ألا فاحرصوا على سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-.

أيها المباركون: احرصوا على الانتفاع من خطبة الجمعة، وليستشعر كل واحد أنّه المقصود بالموعظة، وأنّك المخاطب بالتذكرة، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: إذا سمعت الله يقول: (يأيها الذين ءامنوا) فأرعها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه.

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك واحضر حضور من يخاطِبُه به من تكلّم به سبحانه منه إليه، فإنّه خاطب منه لك على لسان رسوله".

فإن من أعظم الخذلان أن يسمع العبد النصح والإرشاد فيجول في خاطره، أن يا ليت فلانا هنا فيسمع، أو يقول في نفسه، الخطيب يقصد زيدا أو عمرا.

أيها المباركون: احرصوا على الانتفاع من خطبة الجمعة، واستعينوا على ذلك بغرس الخشية من الله في قلوبكم، وتضميخ الخوف من الله على أفئدتكم، فلا ينتفع بالموعظة أحد كأهل خشية الله، مصداق ذلك قوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) [الأعلى: 9-10].

وقال: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) [ق: 45].

أيها المباركون: احرصوا على الانتفاع من خطبة الجمعة بتوقي الذنوب، فإنّ الذّنوب تغطي على القلوب، فإذا أظلمت مرآة القلب لم يبن فيها وجه الهدى؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صُقِل قلبه، فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، وذاك الران الذي ذكر الله في القرآن: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].

وقال الحسن البصري -رحمه الله عنه-: "هو الذنب على الذنب، حتى يعمى القلب، فيموت".

رأيت الذنوب تميت القلوب

وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب

وخير لنفسك عصيانها

وقد قدمنا قول الباري -جل وعلا-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ)[ق: 37].

الخطبة الثانية:

يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: إليكم هذه تأملات، وانظروا في هذه الصفحات من الرعيل الأول من السلف الصالح من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأتباعهم، وحالهم في الاستجابة للتذكرة والتأثر بالموعظة.

تأملوا -عباد الله- ما رواه البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، فرأى رؤيا فقصّها عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ".

كلمة واحدة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتدرون كيف تعامل معها ابن عمر؟

قَالَ سَالِمٌ: "فَكَانَ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً".

فكم سمعنا من موعظة، لا أقول عن قيام الليل، وإنما عن المحافظة على الصّلاة في وقتها، أو في جماعة المسلمين؟ لكن الحال هي الحال والتأخير هو التأخير، ومنّا من لا يصلي الفجر إلا بعد شروق الشمس، وإنا لله.

وتأملوا -عباد الله- ما رواه البخاري عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمرنا بالصدقة انطلق أحدنا إلى السوق فتحامل: أي يؤجر أحدنا نفسه لرجل عنده متاع ليحمله له، فإذا حمله له أخذ أجرة التحميل فتصدق بها.

تأملوا -عباد الله- إلى ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى، ونَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ".

لا يدع صيام ثلاثة أيام من كل شهر استجابة لوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له، فما عسى يقول من عجز عن صيام يوم عرفة، أو عاشوراء، أو ستّ من شوّال، وقد أزف على الترحال؟

تأملوا -عباد الله- ما رواه أبو داود عن أم سلمة قالت: لما نزلت: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ)[الأحزاب: 59] خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية، ونساءنا وبناتنا ما زلن يناقشن في الجلباب، ولم يقتنعن بعد بوجوب بالحجاب، والمنابر تكاد تنطق مللا من كثرة ما ينهى فيها على التّبرج، وآباءنا ساكتون، وكأن الأمر لا يعنيهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

في جانب المنهيَّات؛ ما جاء النهي عنه والزجر عن فعله -أيضًا- كانوا أهل مسارعة ومواظبة ومبادرة عجيبة في هذا الباب، ولهذا جاء في الصَّحيحين عن عمر -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ عَنْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ" وقد سمعَه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في بعض الرِّوايات- يحلف بأبيه، ولنلاحظ هنا: أنَّ هذا أمرًا اعتادوا عليه في جاهليَّتهم قبل الإسلام، اعتادوا على الحلف بالآباء ودَرَجَ اللِّسان على ذلك، يقول عمر: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ عَنْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ" قال عمر: "فَوَ الله مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا" يعني: لا من قولي، ولا أيضًا حاكيًا لقول غيري، ولا تزال ألسنة كثير منّا مصرة على المناهي اللفظية، وألفاظ شركية وخاصة الحلف بغير الله.

تأملوا ما جاء في الصَّحيحين من حديث أنس، وقد كان رضي الله عنه خادمًا عند أبي طَلْحة، وكان يومًا يسقيهم الخمر قبل التَّحريم، وبَيْنَا هو كذلك يسقيهم الخمر؛ إذ أتى آتٍ، وقال: حُرِّمت الخمر، فأمروا فورًا بإراقتها؛ مع تعلُّق النُّفوس واعتيادهم على ذلك فأراقوها فورًا في نفس اللَّحظة، وكان ذلك آخرُ عهدهم بها، فما بال شبابنا على الخمور عاكفون، وعلى المخدرات مدمنون، ومال آخرين بالتدخين والشيشة يجاهرون، ألا يستحون من الله أم منه لا يخافون؟

تأملوا -عباد الله-: ما ذكر عن بدء زهد عبد الله بن المبارك وتوبته، فقال: كنت يوما مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت العود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق، ويقول: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16].

قلت: بلى والله، وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أوّل زهدي، ونحن كم سمعنا من خطبة حول الغناء، كم ذكرنا ونصحنا في ترك المعازف، ولكن سيارات بعض تخلو من كل شيء إلا من أشرطة المعازف والغناء فهل أنتم منتهون ولآلات اللهو متلفون؟

ألا فيا أمة الجمعة، يا أمة التوحيد: احرصوا على الاستفادة مما يلقى على مسماعكم من العلم في خطبة الجمعة، واعملوا به، ولتكن خطبة الجمعة حجة لكم عند الله يوم المعاد لا حجة عليكم، واعلموا -بارك الله فيكم- أنَّ نبيكم -صلى الله عليه وسلم- أخبر بأنّكم يوم القيامة تسألون عن العلم الَّذي حصَّلتموه؛ فعن أبي بَرْزَةَ الأسْلَمي -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ" وذكر منها عليه الصلاة والسلام: "عَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ".

ولمّا تيقّن أبو الدَّرداء -رضي الله عنه- هول الأمر همست شفتاه، قوله: "إنَّما أخشى يوم القيامة أن يُنَادِينِي ربِّي على رؤوس الخلائق؛ فيقول: يا عُوَيْمِر، ماذا عملت فيما علِمت؟".

ألا فيا عباد الله: اعملوا بما تتعلمون من خطبة الجمعة عسى أن لا تكونوا ممن ضرب الله فيهم أسوأ مثل وأشّده، فقال: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)[الجمعة: 5].

وقال: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث)[الأعراف: 176].

فهذان مثلان لمن ءاتاه الله آياته وعلمه علما ولم يعمل به، وأسمعه الذكرى والموعظة ولم ينتفع بها -عافاني الله وإياكم-.

ألا فيا عباد الله: اعملوا بما تتعلمون من خطبة الجمعة، فإنه لا خيار لكم إلا العمل: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [الأحزاب: 36].

أما من لم يقم لما يسمع من الموعظة وزنا، فما أعظم ما ينتظره من الوعيد، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) [الكهف: 57].

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) [السجدة: 22].

لتكن هذه الخطبة مفتاح ما تتلقون من الخطب فيما يأتي، وليكن لخطبة الجمعة شأن في حياتنا، استعدادا لحضورها، وإصغاء عند سماعها، وعملا بما فيها من العلم بعد الفراغ منها، ولو أنّ عبد عكف على خطبة الجمعة يصلح بها نفسه في كل أسبوع؛ لصدق فيه قول الباري: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة: 1240- 125].