المؤخر
كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...
العربية
المؤلف | فرج بن حسن البوسيفي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | صلاة العيدين |
فتجتمع المناسبات العظام، من حضور جميع الحجيج على جبل عرفات، ومن صيام الأمة في مشارق الأرض ومغاربها ذلك اليوم، ثم حضورهم صباح يوم العيد في الساحات والمصليات والمساجد، ويخرج صغيرهم وكبيرهم وإناثهم وذكورهم، ذاكرين الله ومصلين، يستقبلون العيد بطاعة الله والصلاة، ويودعونه بصلة الأرحام والتكبير بعد الصلوات...
الخطبة الأولى:
وبعد: تجتمع البهجة والسرور والفرحة والحبور على مسلمي العالم أجمع باجتماع مراسم البهجة والعيد والذبح، وقبلها يصلّي المسلمون صلاة العيد، وقد اجتمع الحجيج لحضور عرفة وإكمال مناسكهم، هذه المناسبات العظام وهذه الرحمات الجسام يمنّ الله بها علينا، و(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7]، (لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ) [الحج:37].
في مراسم الذبح لله رب العالمين اتباع من هذه الأمة لأبيها إبراهيم، أمة الإسلام التي ورثت الإسلام من إبراهيم -عليه السلام-، (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران:67]، ورثنا منه الإسلام عقيدة، والاستسلام لقدر الله، طاعة في رضا.
لقد علم الله صدق إبراهيم وإسلامه واستسلامه، فلم يعذبه بالابتلاء، ولا آذاه بالبلاء، وأعفاه من التضحيات والآلام، وورث -صلى الله عليه وسلم- والحمد لله هذا الإكرام والفضل، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78].
لقد سنّ لنا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- صلاة العيد، وأخبر أمته أن الله أبدلنا بأعياد الجاهلية عيدي الفطر والأضحى، هذان العيدان مناسبة تجتمع فيهما الفرحة والطاعة، حيث التعانق والتسامح والتصافح، وحيث ذكر الله -عز وجل- بصلاة العيد وأداء المناسك وذبح الأضحية، وقبل ذلك ينتهز المسلمون فرصة يوم عرفة، فيصومون راغبين في رحمة الله -عز وجل-، حيث وعد -صلى الله عليه وسلم- أن من صام يوم عرفة تكفر ذنوب سنته الماضية وسنته المقبلة.
فتجتمع المناسبات العظام، من حضور جميع الحجيج على جبل عرفات، ومن صيام الأمة في مشارق الأرض ومغاربها ذلك اليوم، ثم حضورهم صباح يوم العيد في الساحات والمصليات والمساجد، ويخرج صغيرهم وكبيرهم وإناثهم وذكورهم، ذاكرين الله ومصلين، يستقبلون العيد بطاعة الله والصلاة، ويودعونه بصلة الأرحام والتكبير بعد الصلوات.
لو تأملت منظر الحجيج في تلك المسيرة الكبرى حيث يهتفون في عرفات وهم مجتمعون، وقد تجردوا من اللباس إلا من الأزر والأردية، وكلهم قد تساووا في المظهر، فلا عظمة إلا لله، ولا تقديس إلا له سبحانه، فأحدهم يناجي ربه بالعربية، والآخر بالإنجليزية، والثالث بالأوردية، والآخر أبكم يناديه بقلبه، والجميع يرجونه ويخافونه، يناجيه الجميع بلهجات العالم أجمع، فسبحان من لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحين.
هذا التجمع تعجز عنه جميع الملل، فأي دين في الأرض غير الإسلام يمكنه أن يحدث هذا الاجتماع وهذه الوحدة والتماسك؟! وحدة في العبودية، فلا معبود بحق إلا الله، وفي وقت واحد، وهو يوم عرفة، بل وبلباس واحد، يرى المسلم العربي أخاه من جنوب أفريقيا أو من شمال آسيا أو أستراليا وكلهم يهتفون، والهتاف لله وحده، إن أدنى تأمل في هذا المشهد يشعرك أن الإسلام يريد من هذه الأمة الاعتصام والوحدة، وإنه يوحي إليك من مظهر الحجيج العام الوحدة في الاجتماع بالأبدان وفي العبادة وفي المقصد.
صلاة العيد سنة عن نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، وقد واظب عليها، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكبر في الركعة الأولى قبل القراءة سبع تكبيرات، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- يصلون العيد قبل الخطبة، وكان -صلى الله عليه وسلم- يرجع لبيته من طريق غير الطريق الذي ذهب منها لصلاة العيد، وذلك لتكثير الخطى في طاعة الله، فإن المسلم إذا خرج للصلاة فإنه في صلاة ما كانت الصلاة هي التي أخرجته، وله بكل خطوة حسنه، وترفع عنه بكل خطوة سيئة، وكم أضعنا من الخطى والحسنات.
ومن السنة أن تكون صلاة العيد في المصلى، وكان الصحابة رضي الله عنهم يكبرون ويدعون ويهللون إذا خرجوا للعيد، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكبر في الطريق وفي المصلى، حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير.
ومن السنة أيضًا التكبير بعد الصلوات الخمس، من ظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من اليوم الرابع، والتكبير في المساجد والجماعات، ومن يصلي منفردًا في بيته، وعلى هذا عمل أهل مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصحابة والتابعين وتابعيهم -رضي الله عنهم أجمعين-.
وينبغي للمسلم أن يتنظف ويتزين لهذا اليوم العظيم، ومن تمام الزينة إزالة الأوساخ والروائح الكريهة بالاستحمام، فقد استحب ابن عمر الاستحمام والاغتسال ليوم العيد، ومن عنده الجديد من الثياب فعليه به، فإن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
من تمام الخير والفرحة والأجر والسنة أن يذبح المسلم المستطيع، (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)[البقرة:286]، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78]، كما أنه ليس من اللائق بالمسلم القادر على الذبح أن لا يذبح، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "سنّة أبيكم إبراهيم"، قالوا: ما لنا منها؟ قالوا: ما أجرنا منها؟ قال: "بكل شعرة حسنة"، قالوا: فالصوف؟ قال: "بكل شعرة من الصوف حسنة".
من الأدب مع الله أن نجود في طاعة الله بأحسن ما يمكن من أجود أنواع الأموال، (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92]، ولقد ذم الله أناسًا ينفقون الرديء من أموالهم: (وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ) [البقرة:267]، وضحّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أقرنيين أملحين، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيّن عورها، والعرجاء البيّن عرجها، والمريضة البيّن مرضها، والكبيرة التي لا تنقي"، والمرض الخفيف أو العرج الذي لا يؤثر على مشيها لا بأس بذلك.
من العيوب التي تمنع من جعل الدابة أضحية ذهاب أكثر الأذن، فإذا قطع أكثر من الثلث فلا تصلح كأضحية، سواء أكان هذا العيب في الأذن على شكل قطع أو خرق أو شق، وكل ذلك إذا ذهب بأغلب أذنها. وإذا عرف المسلم أحكام الذبح فمن السنة أن يباشر ذبح أضحيته بنفسه، ولو ذبح له غيره فلا بأس، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم-يذبح أضحيته بنفسه.
ولا تصح الأضحية إلا بعد ذبح الإمام، فمن ذبح قبل الإمام فلا تجزئة كأضحية؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين".
واعلموا أنه لا يجوز بيع جلود الأضحية، إذ كيف تتقرب إلى الله بذبحها ثم تبيع شيئًا منها؟! ولا بأس أن تتصدق به، أو تعطيه، أو تنتفع به، أو تتصدق به للمسجد، وجاء في حديث مختلف فيه بين الصحة والضعف: "من باع جلد أضحيته فلا أضحية له"، وأمر سيدُنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيدَنا عليا أن لا يعطي الجزّار منها شيئًا مقابل جزارته. ومن السنة فيها توجيهها للقبلة، وأن يذكر اسم الله عليها.
هذه أيام رحمة وتسامح وفرح وسرور، أيام أكل وشرب، لا يجوز ويحرم صيام يوم العيد. ومن كان متخاصمًا مع قريبه أو صديقه أو جاره فليسامح، وليتخلق بخلق الله، فإن الله غفور رحيم، "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى:40]، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات:10]، الرحم من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله.
كما تقربت إلى الله بالنسك والذبح والصلاة فتقرب إلى الله بصلة رحمك ومسامحة من أساء إليك، قال -صلى الله عليه وسلم-:"لا يحل لامرئ مؤمن أن يعرض عن أخيه فوق ثلاث، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"، رضا الناس غاية لا تدرك، فتقربوا إلى الناس بالابتسامة والكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة صدقة، واتقوا النار ولو بشق تمرة، والهدية تؤلف بين القلوب، فتهادوا تحابوا، وألقِ السلام على من عرفت ومن لا تعرف، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة:2].
انظر إلى أحوال البائسين لترفع عنهم بأسهم، أنفق على المحتاجين، وساعد ذوي العاهات وكبار السن، "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". زوروا الغرباء والمنقطعين عن أهليهم، وارفعوا عنهم حزن الغربة والحنين إلى الديار والوطن، وأدخلوا عليهم الفرحة ببعض الأطعمة والكلام الطيب، ولا تنسوا إخواننا في فلسطين وسائر بلاد المسلمين من صالح الدعاء، فإنهم ـ كان الله في عونهم ـ تمرّ عليهم الأعياد أعياد الفرحة بالحزن، واللقاء بالفراق، وبزيارة الأحياء الأموات.