العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | عبد الله بن ناصر الزاحم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
أيها المسلمون: لقد حرصَ أعداءُ هذه الأمةِ على إفسادِها، وهدمِ كيانِها، وشلِّ حركتِها، والقضاءِ عليها، وضربِها في أعزِّ ما تملك من حيثُ لا تشعر، وذلك بإفساد شبابها، ونخرِ أجسامهم وعقولهم، وكانت المخدراتُ من الأسلحةِ الفتاكةِ التي صدَّرُوها إلى العالمِ كافةً، وإلى المجتمعاتِ المسلمةِ بصورةٍ خاصة، فهي في عصرنا هذا من أكبر الأخطارِ المحدقةِ بالأمة، وهي الشبحُ الذي يُهدِّدُ الشعوبَ الإسلامية؛ لأنها إذا...
الخطبة الأولى:
أما بعدُ:
فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
معاشر المؤمنين: يقول الحق -تبارك وتعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين: 4].
ويقول جل وعلا: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70].
وميز الله الإنسان عن سائر مخلوقاته بالعقل؛ لذا جاءت الشرائعُ السماويةِ بالمحافظة على هذا العقل، وحمايته عن كل داء وبليَّةٍ تؤثِّرُ فيه أو تُعطِّل فوائدَه؛ حفاظا على كرامةِ الإنسان، فالعقل هو مناط التكليف، فقد رَفَعَ الله القلم عن فاقدِه، وأمر بالوِلاَيَةِ والوصايةِ عليه.
ومن تأمل في تلك الحياة وجد أن العقل هو الأساس الذي تُبنَى عليه شؤونها، وهو سبب النجاح فيها، ففاقده غير مكلف بالأحكام الشرعية، ولا يُحسن التصرف في نفسٍ ولا مال، ولا يُؤمَنُ على عِرض، ولا يوجد في البشرية من يرضى أن يوصف بالجنون مهما كان عقلُهُ وعلى أيَّةِ مِلّةٍ كان؛ فكيف بمن يتسبَّبُ بنفسه، ويبذُلُ مالَهُ لفُقْدَانِ عقله.
بل إن العَبَثَ بالعقل وإفسادَهُ تُعدُّ من أفظع الجرائم، وهي في الدين من الكبائر، ومن أعظم الوسائل التي تُفسِدُ العقلَ: تعاطي المسكرات أو المخدرات؛ لذا جاءت نصوصُ الشرعِ بتحريم كلِّ مُسكِرٍ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90].
وقال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة: 91].
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) [البقرة: 219].
وفي الصحيحين: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ".
وفي رواية مسلم: "وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَةِ".
وفي رواية أخرى: "إِنَّ عَلَى اللَّهِ -عز وجل- عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: "عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ".
وسماها الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمَّ الخبائث، فمن تعاطى المسكرات أو المخدرات فقد أدخل على نفسه النقص في دينه وماله وعقله، وربما انسلخ من ذلك كلِّه -نسأل الله السلامة والعافية-.
عباد الله: كم سمعنا وقرأنا عن مدمنين أضاعوا أموالهم ثم باعوا ممتلكاتهم، وختموها ببيع أعراضهم وكراماتهم.
اللهم احفظنا وذرياتنا وجميعَ المسلمين بحفظك.
أيها الأحباب: إن متعاطي المخدرات لا يُعَدُّ من الأسوياء، فأين هو من اجتماعات المسلمين ومناسباتهم؟! أين هو من عمله أو دراسته؟! أين هو من طاعة ربه؟! أين هو من بر والديه وصلةِ رحمه؟! أين هو من أعمالِ الخير والإحسان؟!
بل إنه خطر على أموالِ والديه وأهله، ولا يأمنه أقربُ الناس إليه على أعراضهم، فكم من الأعراضِ جُرِحت وانتُهكت من المدمنين وبسببهم؛ مُقابلَ مُتعةٍ مُحرَّمة، أو وهو سادرٌ في سكرته.
فماذا أبقتِ المخدراتُ من صفاتِ الخير ودرجاتِ الكمالِ لمتعاطيها؟!
أيها المسلمون: لقد حرصَ أعداءُ هذه الأمةِ على إفسادِها، وهدمِ كيانِها، وشلِّ حركتِها، والقضاءِ عليها، وضربِها في أعزِّ ما تملك من حيثُ لا تشعر، وذلك بإفساد شبابها، ونخرِ أجسامهم وعقولهم، وكانت المخدراتُ من الأسلحةِ الفتاكةِ التي صدَّرُوها إلى العالمِ كافةً، وإلى المجتمعاتِ المسلمةِ بصورةٍ خاصة، فهي في عصرنا هذا من أكبر الأخطارِ المحدقةِ بالأمة، وهي الشبحُ الذي يُهدِّدُ الشعوبَ الإسلامية؛ لأنها إذا انتشرت في المجتمع تقضي فيه على الدين والأخلاق والموارد.
والمجتمع الذي تنتشر فيه المخدراتُ يسُودُهُ القلقُ والتَّوتُرُ، ويُخيِّمُ عليه الشقاقُ والتمزق.
ولو نظرنا إلى انتشارِ الجرائمِ وتفشِّيها في المجتمعات، لوجدنا أنَّ تهريبَ المخدراتِ والمسكراتِ وترويجها وتعاطيها من أهم الأسباب الرئيسة في ظهوره تلك الجرائم؛ فالمهربُ لا يتورَّعُ عن ارتكابِ أبشع الجرائم ليُوصِلَ ما لديه من سمومٍ إلى المكان المقصود، والمروِّجُ لا يتوقف عن ابتكارِ الطُّرُقِ والوسائلِ للوصولِ إلى فريسته، والمُدمِنُ ليس لديه شعورٌ بالمسؤولية، نتيجةَ تعاطيه تلك السموم، لذا فإنه ُيقدِمُ على طلب المال وتحصيلِهِ من أيِّ مصدر وبأي وسيلة، حتى لو استدعى ذلك أن يرتكبَ الجرائمَ بشتى صورها، فالمخدراتُ تُحرِّكُ النَّزَعاتِ العُدوَانيَّةِ والإجراميةِ في كل من يتعامل معها.
أيها الأحباب: إن غرس الإيمان بالله -تعالى- واليوم الآخر وبكتاب الله -تعالى- وبسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- في نفوس الناس أساسُ الصلاح والوقاية من كل فسادٍ وخطرٍ يهدد المجتمع بأسره، فيجب على كل مسلم أياً كان عملُهُ وعِلمُه، وفي أي مكانٍ وُجِد، أن يغرِسَ الإيمانَ في نفوسِ من حولَهُ من الأفرادِ والأُسَرِ والمجتمعات، لتخليصهم من اقتراف المنكرات، وقيامهم بطاعة الله -تعالى-، والاستقامةِ على شرعه ومنهجه القويم، فهذا بإذن الله -تعالى-يحفظ المسلمَ من الشرورِ والضياع، ويكفَلُ له السعادة في الدنيا والآخرة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)[فصلت: 30-31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون-: حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه، ويعلم سره ونجواه:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71ٍ]
عباد الله: لقد كانت هذه البلاد قبل عقود قريبة من السنوات لا تعرفُ المخدرات، ولكن حينما كثُر الوافدون، وفيهم من لا يدين بدين، ولا يرقُبُ في المؤمنين إلاً ولا ذمَّة، وفيهم المجرمُ والمدمن، ومن يبحث عن المالِ بأسرع وقت، دخلت المخدراتُ في البلاد، وزادَ الطين بِلَّةً من سافر من أبناء هذه البلاد إلى دول الكفر والانحلال؛ باحثاً عن المتعة المحرمة، فوقعوا في شِبَاكِ المتربصين بهم، وانغمسوا في أوحال المسكرات والمخدرات، وعادوا وهم يحملون الدمارَ لبلادهم، والعارَ على أهليهم، نسأل الله لهم الهداية والعافية.
ومن أهم أسباب الوقوع في هذا الوباء أيضاً: الرفقة السيِّئة، فإذا صَحِبَ الشاب رفقةً سيِّئةً تتعاطى المخدرات، أغروه بها، وأوهموه كَذِباً بأنها تَجلِبُ السعادة، وتُقوِّي الذاكرة، وغير ذلك من الأكاذيب، مما يجعلُهُ يُجرِّبُ إما مجاملةً أو خشية اتهامهم له بعدم الرجولة أو الجبن أو نحو هذا، وما هي إلا فترة ثم يصعب عليه الانفكاك منها.
ومروِّجوا المخدرات يَحرِصون على الاختلاطِ بالشباب وعرضِهَا عليهم، ورُبَّما قدَّمُوها لهم هديَّةً في بادئ الأمر، فإذا أوقعوهم فيها وطلبوها فيما بعد بدأت مساومتُهم.
والعاقلُ لا يحتاجُ إلى كبيرِ معرفةٍ ليستدل بها على سوءِ عاقبة المخدرات، فالنظرُ إلى حال المروِّجِ كافٍ للاستدلال به على سوءِ عاقبة متعاطيها.
أيها المسلمون: لقد أصبحت المخدراتُ آفةً من آفاتِ هذا العصر، وازداد انتشارها في العالم، مما جعل المجتمعاتِ العالمية تخشى آثارها على شبابها واقتصادها ومستقبلها.
وأصبحت ترتبط بمشاكل أخرى عديدة، كانتشار الجريمة كما أسلفنا، وما يصحب ذلك من تفكُّكِ المجتمعِ، وتحطُّمِ كَيانِ الأسرة؛ مما جعلها مشكلةً دوليةً تؤرِّقُ العالم بأكمله، فصُنِّفت على أنها من أخطر الجرائم في كثير من بلاد العالم، فدولُ العالم كلها، حتى التي لا تُعيرُ للدين اهتمامًا، تسعى جاهدةً في مواجهتها والتقليلِ من خطرها؛ لِمَا تراه من أضرارِهَا على الأفراد والمجتمعات.
ويسعى ولاةُ الأمر في هذه البلاد بكل ما أُوتوا من جُهدٍ ومالٍ لمكافحةِ هذا الوباءِ الخطير، ومُلاحقةِ المهربين والمروجين، وتطبيقِ أقصى العقوباتِ عليهم.
ومن تلك الجهود: إقامة المصحات النفسية لعلاج المدمنين، وتوجيههم وتأهيلهم، وتبصيرهم بأخطار الإدمان وعواقبه؛ ليكونوا أفرادا صالحين في المجتمع.
ومن واجبات أفراد هذا المجتمع: أن يكونوا فاعلين ومتعاونين مع الأجهزة والدوائر الحكومية المختصة في مواجهة هذا الخطر الذي يهدد مجتمعنا، وذلك بالبلاغِ عمَّن يروِّجُ هذه المخدرات، فهذا من إنكار المنكر الواجب؛ ليكفَّ شرَّه عن المسلمين، قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى": "لا ريبَ أن مكافحةَ المسكراتِ والمخدرات من أعظم الجهاد في سبيل الله، ومن أهمِّ الواجبات التعاون بين أفراد المجتمع في مكافحة ذلك؛ لأن مكافحَتَهَا في مصلحةِ الجميع؛ ولأن فُشُوَّها ورَواجَها مَضَرَّةٌ على الجميع، ومن قُتِلَ في سبيل مكافحة هذا الشرِّ وهو حَسَنُ النية، فهو من الشهداء، ومن أعان على فضحِ هذه الأوكار وبيانها للمسؤولين، فهو مأجور، وبذلك يعتبر مجاهدًا في سبيل الحقِّ، وفي مصلحة المسلمين وحماية مجتمعهم مما يضرُّ بهم" ا. هـ.
نسألك اللهم أن تحفظ بلادنا من كيد الكائدين، وأن تكفِهَا خطر المتربصين.
اللهم احفظ شباب المسلمين من الشرور كلِّها، واجعلهم هداة مهتدين ولدينهم ووطنهم حُماةً مجاهدين.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].