الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | إبراهيم سلقيني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
الخطبة الأولى:
الحمد لله آناء الليل وأطراف النهار، ملء السماوات وملء الأرض حيثما توجه الإنسان وحيثما استقر.
الحمد لله العلي القادر، العزيز القاهر، القدير الذي لا ينسى، الحكيم الذي لا يضل.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأولاده، وخلفائه الراشدين الهادين المهدين من بعده سيدنا أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى باقي الصحابة والقرابة والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الإخوة الأحبة: كنت قرأت في "سلسلة عالم المعرفة" ترجمة الدكتور "فؤاد زكريا" وثيقة من الوثائق تدل على ما كنا عليه، هذه الوثيقة رسالة من الملك "جورج الثاني" أتلوها حرفيا كما وردت.
"إلى صاحب العظمة -خليفة المسلمين- "هشام الثالث" جليل المقام:
من جورج الثاني "ملك انكلترا والسويد والنرويج" إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس، إلى صاحب العظمة "هشام الثالث".
بعد التعظيم والتوقير، نفيدكم أننا عرفنا الرقيّ العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل، لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم، لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة.
وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة "دوبانت" على رأس بعثة من بنات أشراف "الإنكليز"، لتتشرف بلثم أهداب العرش، والتماس العطف، لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وقد زودت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التكرم بقبولها، مع فائق التعظيم والحب الخالص".
[من خادمكم المطيع/جورج الثاني].
أيها الإخوة الأحبة: هكذا كنا وإلى أي موقع وصلنا، إلى أي موقع وصلت فيه الأمة العربية والأمة الإسلامية؟
الجواب:
رسولنا العظيم، ومعلمنا الكبير، الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجيب عن هذا التساؤل في الحديث الذي يرويه ثوبان -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن" فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت".
نعم أيها الإخوة: صورة صادقة مشخصة متحركة، يضعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمامنا، تبين لنا الواقع الذي وصلنا إليه.
الأمم من أقطارها ومن وراء بحارها تتداعى، يدعو بعضهم بعضا، تتداعى على المسلمين كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.
كما لو كان هناك مأدبة، ودعا البعض البعض الآخر لتناولها، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.
صورة صادقة فيها بلاغة النبوة، وفيها معجزة، فيها صدق المرسلين، صورة صادقة للتحالف العالمي على أمورنا، وعلى قضايانا، في مجامع الشعوب وفي مجالس الأمم.
"يوشك أن تتداعى الأكلة إلى قصعتها".
قال قائلهم: كيف يكون ذلك يا رسول الله؟ هل يمكن أن يحدث ذلك؟! هل لقلة في عدد المسلمين؟ هل لقلة في ثروات المسلمين والعرب؟ ومن قلة نحن يومئذ؟
قال: "بل أنتم يومئذ كثير" .
كثير في العدد، فالعرب يعدون مئات الملايين، والمسلمون يصلون إلى مليار ونصف مسلم، يموجون بين المحيطات، لا يغلبون عن قلة في العدد.
"أنتم يومئذ كثير" في العدد، وكثير في الثروات، فالثروات النفطية وغير النفطية التي تملكها الأمة العربية والأمة الإسلامية؛ لا تتملكها أي أمة في الشرق أو الغرب.
"بل أنتم يومئذ كثير" "ولكن" وما أصعب "لكن" "ولكنكم غثاء كغثاء السيل".
الزبد الذي يلقيه الماء، وتلقيه الأمواج على وجهها، تتلاطم، تندفع يمينا ويسارا، ويمين اليمين، ويسار اليسار؛ لأنها أضعف من أن تقاوم، وأضعف من أن تصمد.
"غثاء كغثاء السيل" ليس له قوة التماسك، أو الصمود.
"ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن" فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟
قائل من المؤمنين الذين لا يعرفون الوهن في حياتهم، ولا في سلوكهم، ولا في مواقفهم
قال: وما الوهن يا رسول الله؟
قال : "حب الدنيا" التكالب والتطاحن والتسابق على عرضها الزائل.
"حب الدنيا، وكراهية الموت" هما الفاصلان بين ماضينا المليء بالعزة والكرامة، والسيادة والقيادة والريادة، والعلم والمعرفة، حتى كنا نصدرها للآخرين.
هما الفاصلان: "حب الدنيا، وكراهية الموت" هما الفاصلان بين ماضينا وبين حاضرنا الذي لا يحتاج إلى وصف، نعرفه جميعا، ونعيشه جميعا.
العرب كلهم، والمسلمون كلهم، هذه الصورة المظلمة القاتمة التي يصفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لواقعنا المؤلم المرير، يشخص لنا الداء، ويشخص لنا الدواء.
أيها الإخوة: هذه الصورة لا تدعونا أبداً إلى اليأس، ولا إلى القنوط: (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف:87].
لكنها ترسم لنا الطريق، وتبين لنا أن عوامل القوة بين أيدينا : أن نسلك الطريق الذي سلكه أوائلنا، حتى حققوا تلك المنزلة، وحتى قادوا العالم إلى السلام والخير، والتحرير والعلم.
نعم، ليس بيننا وبين النصر، وبين القوة وبين الوحدة وبين التلاحم إلا أن نقدم الآخرة على الدنيا، وإن نطلب الموت، فتوهب لنا الحياة.
حينئذ -أيها الإخوة- تتكرر المعجزة من جديد، المعجزة التي مكنت نصف مليون عربي مسلم أن يخرجوا من جزيرتهم الضيقة، لينيروا بكتابهم آفاق الحياة، وليحدوا بسيوفهم حدود الأرض، حتى وقف الخليفة آنذاك يقول للغمام: "امض حيث شئت!".
وقال شاعرنا:
كنا جبالا في الجبال وربما | سرنا على موج البحار بحارا |
بمعابد الإفرنج كان أذاننا | قبل الكتائب يفتح الأمصارا |
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها | سجداتنا والأرض تقذف نارا |
وكأن ظل السيف ظل حديقة | خضراء تنبت حولها الأزهارا |
لم نخش طاغوتا يحاربنا ولو | نصب المنايا حولنا أسوارا |
يقول الصحابي المجاهد عمير: "بخ بخ، ليس بيني وبين الجنة إلا هذه التمرات!".
بيده تمرات فيلقيها.
ويقول بلال عند احتضاره:
غدا نلقى الأحبة | محمداً وحزبه |
نعم ما أحوجنا -أيها الإخوة- إلى أن نسلك طريق المجد الذي أوصل آباءنا، لننقذ أنفسنا، وننقذ أهلينا، وننقذ أمتنا، من ذل ساحق ماحق من الصهيونية ومن ورائها، يريدون التسلط على مقدراتنا وخيراتنا، والتشويه والتغيير في معتقداتنا، وفي مبادئنا وفي قيمنا.
الأمر -أيها الإخوة- جد خطير، وإذا لم نعِ واقعنا، وإذا لم نعرف طريق نجاتنا، فسنبقى من ذل إلى ذل، ومن نكسة إلى نكسة، وأكلت يوم أكل الثور الأبيض.
أعود وأكرر قول رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن" فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد وكفر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، سيد الخلائق والبشر، الشفيع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى أصحابه ما اتصلت عين بنظر، وسمعت أذن بخبر.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فاتقوا الله العلي حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، وتزودوا من دنياكم لأخرتكم عملا يرضاه.
واعلم أنه لا يضر وينفع، ويصل ويقطع، ويفرق ويجمع، ويعطي ويمنع، يخفض ويرفع، إلا الله.
واعلموا: أن الله –سبحانه- وله الأمر، أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته المسبحة بقدسه، فقال عز من قائل مخبرا وأمرا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما تعاقبت الأوقات.
اللهم أيد الإسلام والمسلمين، وانصر يا مولانا كلمة الحق والدين، وبدد اللهم شمل الكفرة والفسقة والملحدين.
اللهم عليك بكل ظالم وباغ ومعتد وخائن يخون الإسلام والمسلمين، يا رب العالمين.