الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
التفكر عام في كل شيء إلا في ذات الله، حيث لا يستطيع العبد أن يتفكر إلا في خلق الله فقط وهذا هو المباح له، وهو الذي يعود عليه بالنفع. سيكون تفكرنا في خلقنا، وما أودع الله فينا من نعم خفية، لا يزال العلم يكتشفها شيئا بعد شيء، ليتبين للعالم عظيم قدرة الله، وضعف ابن آدم وجهله.
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا أيها الناس: كثيرة هي النعم التي وهبنا إياها ربنا بلا حول منا ولا قوة، ولا يمكن للعبد إحصاؤها؛ كما قال جل في علاه: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا)[النحل: 18].
ولكن هناك نعم عظيمة جدا، لا يعرفها العبد ولم تمر له بخيال، ففي جسده أعضاء لا يعرف قدر نعمة الله عليه فيها، والعبد مأمور بالتفكر في نفسه لينقلب بالإيمان الصافي والشكر الخالص لله وحده؛ كما قال سبحانه: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 21].
وقال: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ)[الروم: 8].
ومن هذا المنطلق سنمر على بعض النعم الخفية التي لم يفطن لها العبد، ولن يفطن لها الكثير حتى يفقدها -عافانا الله وإياكم-.
معاشر المؤمنين: نسمع كثيرا المقولة السائرة: "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يبصرها إلا المرضى".
ونتحققها بلا شك عندما نصاب بالأمراض.
أيها المؤمنون: إن التفكر عبادة منسية عند كثير من الخلق، وقد عدها الله -جل وعلا- من صفات أولي الألباب: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) [آل عمران: 190].
والتفكر عام في كل شيء إلا في ذات الله، حيث لا يستطيع العبد أن يتفكر إلا في خلق الله فقط وهذا هو المباح له، وهو الذي يعود عليه بالنفع.
سيكون تفكرنا في خلقنا، وما أودع الله فينا من نعم خفية، لا يزال العلم يكتشفها شيئا بعد شيء، ليتبين للعالم عظيم قدرة الله، وضعف ابن آدم وجهله.
معاشر المسلمين: إن المسلم إذا اطلع على فوائد تلك الأعضاء والأجهزة التي توجد في جسمه، زاد حبه لربه المنعم بتلك النعم، وإذا اطلع على فوائد عضو واحد رأى أنه أهم عضو في الجسم؛ فمثلا: إن في أجسامنا: غدةً هي أكبر غدة في الجسم قد تزِن كيلو ونصف تقريبا، وهي مستودع السكر والدهون والفيتامينات، وهي تحتجز السموم وتحولها إلى مواد غير ضارة.
لذا فالإنسان لا يحيا بدونه أكثر من ثلاث ساعات فقط، وخلاياه هي أسرع خلايا الجسم نموًا، وهو يتجدد تجددًا كاملًا كل أربع أشهُر ولو أن طبيبًا استأصل أربع أخماسه بِ المشرط ثم فتح بعد 16 أسبوع لوجده أعاد بناء نفسه كاملًا كما كان. هل عرفتم ذلك العضو: إنه الكبد.
ومن عجائب الكبد: أن خلاياه لا تتخصص ولا تُوزِع الوظائف بل كل خلية في الكبد تقوم بـ500 عملية حيوية لازمة لحياة الإنسان فتبارك الله أحسن الخالقين.
ولتعرف قيمة ذلك العضو انظر إلى من أصيب بتليف في الكبد -عافانا الله وإياكم-، كيف يتغير لونه ويضطرب نظام جسمه، حتى يتبين لكل من لقيه أنه مريض، ثم إن تقرر زراعة الكبد له، كم سيكلفه ذلك من أموال طائلة، ومخاطر عظيمة، وقد وهبك الله إياها بالمجان فهلا شكرنا ربنا؟!
ومن الأعضاء المهمة في الجسم ولا يستغني عنه العبد: الرئة.
تأمل كيف حاطها الله بغلاف رقيق، فإذا تمددت مع كل شهيق لا تحتك بالقفص الصدري، ولو حدث هذا لأُصِيبت بالقروح والالتهابات التي تجعل النَّفَس أصعب ما يكون، وتَنَفُس الإنسان يستمر وإن كان نائمًا أو مُغمي عليه أو مُخدرًا، وهي تحتوي على حوالي 300 مليون فقاعة تساعد على التنفس.
فاحمد الله يا من وهبك الله رئتين سليمتين، فأدنى تغير فيهما يسبب لك المتاعب، فاسأل من أصيب بالربو والالتهابات الرئوية، كيف حالهم مع العلاجات والمهدئات، وكيف حالهم مع تغير الطقس ووجود الأتربة؟!
والعجب كل العجب ممن يجحد هذه النعمة، فيتلفها بيده وماله، إنهم متعاطو التدخين والشيشة وأشباهها مما يفتك بالرئتين، فلنتق الله -عباد الله-، فالنعمة إذا كفرت سلبت.
ومن النعم العظيمة التي لا يمكن للعبد شكرها: الكُليتان: لتعرف فائدة الكلى وأهميتها، سل من ابتلي بالفشل الكلوي وكيف هي معاناته، كيف يأكل ويشرب؟ وهل يقضي حاجته أم لا؟
إن حجم الكُلية التي خلقها الله لك في حجم البيضة تقريبًا بها "مليون وحدة تصفية"، وتَغْسِل دمك 12 مرة يوميًا بالمجان، وبلا ألم، ولا جهد منك، وقارن بينها وبين جهاز غسل الكلى الذي في حجم المنضدة، ويُكَلِف مئات الريالات مقابل ثلاث غسلات فقط أسبوعيًا.
والكلية تشبه حبة الفاصوليا طولها من 13: 10 سم، وزنها حوالي 150 جراما فقط.
ومن نعم الله على الإنسان: أنه إذا استُئْصِلت إحدى كُليته، فإن الأخرى تتضخم ويزداد حجمها وتُؤدي عمل الكُليتين بل يُمكن للإنسان أن يَحيا بثمن كُلية وهي حقًا آية من آيات الله.
ومن النعم العظيمة: المثانة: تقطر الكليتان قطرة بول كل 20 ثانية، وتتجمع تلك القطرات في المثانة حتى إذا امتلأت قام الإنسان لقضاء حاجته.
يا لها من نعمة! فلو حبس بولك لعرفت قيمة هذه النعمة، فلولا هذه المثانة لما استطاع إنسان أن يَبْقَى في مكان واحد لعدة ساعات مُتتالية ولاضطر للتَرَدد على الخلاء كل "20 ثانية".
ها هو أحد المرضى أُصيب بسرطان المثانة فاستُئْصِلت، وجعلوا مكانها كيسًا من الأمعاء، قال له الطبيب: "لما كانت لك مثانة طبيعية مِنْ خَلقِ الله كُنتَ تَشعر بامتلائها فتقوم للخلاء، أما الآن فلن تشعر هذه المثانة الصناعية بالامتلاء، فيلزمُك أن تقوم للخلاء كل ساعة من ليل أو نهار، وإلا انفجرت فيك، وحدثت الوفاة".
وحادثة أخرى: أدخل شيخ بلغ السبعين المشفى لعدم استطاعته التبول، وبعد الفحص، جاءه الطبيب وبيده فاتورة تكلفة العملية بمبلغ كبيرة، فلما رآها المسن بكى، فقال له الطبيب: "بإمكانك أخذ خصم على المبلغ، فقال: لست أبكي على المبلغ، ولكن أبكي أن ربي متعني بهذه النعمة سبعين سنة بالمجان".
فهل شعرت –أخي- بنعمة الله عليك؟
ألم تر أن الله جعل لمثانتك عضلات تنقبض فيسهل تفريغها من البول في ثوان، ولولا هذه العضلات لاحتجت إلى "ربع ساعة" لتفريغها في كل مرة؟!
ولهذا يعرف العبد السر في كون ذكر الخروج من الخلاء قولك: "غفرانك" فالمعنى مهما شكرتك وعبدتك، فلن أشكر هذه النعمة فاغفر لي.
اللهم ارزقنا شكر نعمك، واجعلنا قابليها مثنين بها عليك.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا عباد الله: ومن النعم العظيمة، بل هي الحياة نفسها: نعمة الدم: خَلَقَ الله الإنسان من عَلَق، ولو تَفَرغ الإنسان من دمه لمات، والدم بحرٌ زاخر، ففيه الإمداد والمؤن "بالكرات الحمراء".
وهناك المدافعات والحاميات للجسم "الكرات البيضاء" وهناك معوضات للتالف من الجسم "الصفائح الدموية" يُقَدر عددها بـ"700 ألف صفيحة" في كل مليمتر مكعب من الدم، فإن جُرِحَ الإنسان تسارعت تلك الصفائح إلى مكان الجرح فتلاحمت بطريقة عجيبة لتمنع النزيف، وكرات الدم الحمراء إذا ماتت يُذهب بها إلى مقبرة جماعية وتُسمى "الطحال".
وهناك تُحَلَل إلى عناصر مفيدة، والطحال مخزن للدماء يعوض الإنسان في حالات النزيف إلى أن يُنقذ بالتبرع، والدم لو زادت سيولته لتسرب من أبسط الجروح، وهلك الإنسان، ولو قلت سيولته لتعرض الإنسان للجلطات القاتلة -فنسأل الله العافية والسلامة-.
ومن لطف الله بنا: أنه جعل الشرايين غائرة بعيدة في أجسامنا بخلاف الأوردة السطحية، يُقْسِم أحد الأطباء الجراحين بالله أنه انقطع معه شريان بمريض فَوَصَلَ الدم إلى سقف غرفة العمليات! -فلك الحمد ربنا-.
ومن النعم العظيمة: جلد الإنسان، ونعمة الإحساس: الجلد مركز الإحساس، حقيقة علمية سَبَقَ القرآن إليها؛ كما قال سبحانه: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ)[النساء: 56].
ولكل إنسان رمز نسيجي خاص، مَيَّزَهُ الله به عن سائر الناس، ولما نَزَعَ بعض المجرمين جلود بصماتهم، ورَقَّعُوا أصابعهم بِجُلود من أَرجلهم ظهرت بصمات الأصابع بعد فترة على الجلد الجديد!.
ولكل إنسان رائحة تُميز جلده، ولولا هذا الانفراد لما كانت ثم فائدة للكلاب البوليسية، وبهذه الرائحة تعرف الأم ولدها في الحيوانات، وقد وهَبك الله -سبحانه- تحت سطح جلدك من 5: 15 مليون جهاز تكييف لحرارة البدن؛ إنها الغُدَد العَرَقِية.
وأنت بنعمة اللمس تُميز بين الناعم والخَشن والحَار والبارد، وتميز الثقيل من الخفيف، أما لو خُدِّر الإنسان فلا يحس، زَوَّدَ الله كل بُوصة مُربعة من جلد الإنسان بـ"650 مليون خلية عصبية" لنقل الإحساس.
والإنسان لو وضع يَده على حديد ساخن فلربما كانت حركة ذرة الحديد تصل إلى مليون ذبذبة/ثانية، فتنقل تلك الحركة الشديدة إلى الأصابع في صورة ألم نُسمِيه الحُروق، وينتقل الإحساس بين الخلايا بسرعة خَارِقة تصل إلى "150 ميل/ثانية".
فتأمل عجيب خلق الله، بل إن مجرد تقليبك لورقات هذا الكتاب بمجرد اللمس والضغط الرقيق نعمة عُظمى، وعملية في غاية التعقيد، وقد يُصاب الإنسان بمرض فقد الإحساس، فلو لمس أشد الأشياء سخونة ما وجد لها حرًا ولو دُق مسمار في يده ما شَعَر.
ومعلوم أن جسم الإنسان يُفرز كمية من المخدرات جعلها الله سببًا في أن لا نشعر بحركة أمعائنا واضطراب المعدة وما إلى ذلك أما لو تعاطي الإنسان مُخدرًا من خارج الجسد، فإن إفراز بدنه يختل ويحتاج إلى المخدر الخارجي، وإلا شَعَرَ المدمن بخَفَقات قلبه، وجريان دمه في عروقه، ووجد آلامًا رهيبة -فنسأل الله السلامة-.
ها هو ابن أبي دؤاد الإيادي المعتزلي قاضى المعتصم الذي جَرَّ البلاد إلى محنة خَلقِ القرآن، فكم من عالم أُهين وأُوذي وسُجن وقُتل بسببه، ابتلاه الله بمرض، فجعل نصف جسده لو سقطت عليه ذبابة فكأنما نهشته السباع، والنصف الآخر لو نهشته السباع أو قُرِّضَ بالمقاريض ما أحسَّ، وقد دخل عليه عبد العزيز الكناني، فقال: "والله ما جِئْتُكَ عائدًا، وإنما جِئْتُكَ لأُعزِيكَ في نفسك، وأَحْمَدُ الله الذي سَجَنَكَ في جسدك الذي هو أشد عليك من كل سجن".
عباد الله: كلما تأملنا وتفكرنا في أجسامنا كلما تبين لنا المعنى الحقيقي لقوله تعالى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34].
ونحن في هذا العرض السريع، لم نتكلم عن نعمة السمع ولا البصر ولا الكلام، وغيرها من النعم فلنحمد الله على تلك النعم الخفية، ولنستخدمها في طاعة الله -تعالى-؛ ليبارك الله لنا فيها.
اللهم متعنا بأسماعنا...