القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان |
إن الإسلام لم يقم على اضطهاد مخالفيه، أو مصادرة حقوقهم، أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم، أو المساس الجائر لأموالهم وأعراضهم ودمائهم، وتاريخُ الإسلام في هذا المجال أنصعُ تاريخ على وجه الأرض. ومن المقرر عند الفقهاء: أنه لو أُكره أحدٌ على الإسلام، فإنه لا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
سبق وأن خطبت خطبة عن "معاملة الإسلام لليهود إذا اعتدوا أو ظلموا"
واليوم سيكون الكلام عن "تعامل المسلمين والسلف الصالح مع النصارى والأقباط".
في هذه الأيام نركز على مثل هذه المواضيع لأمرين:
الأول: هذه الهجمة الشرسة على هذا الدين من أعدائه الذين لم يفهموه على حقيقته، أو المغرضين لأهداف خبيثة.
والأمر الثاني: ممن يدعي الإسلام واتباعَ السلف الصالح، وهو يخالف تعاليمَ الإسلام، وبينه وبين منهج السلف الصالح بَوْنٌ شاسع.
فبدؤوا باتهام الإسلام بالإرهاب، ثم اتهموا الأصوليين، وأخيرا وليس آخرا: شنوا الحملة في جميع وسائل الإعلام على السلفيين، فيلصقون بهم التهم جزافا؛ بتقتيل النصارى المواطنين، وهدم صوامعهم، وإحراق كنائسهم، وهذه أحداث لم نشهدْها عبر التاريخ الذي عاش فيه هؤلاء النصارى كمواطنين بين المسلمين قروناً طويلة، ووقف النصارى مع المسلمين في أكثر من موقف، واختيارهم لعدالة الإسلام ضد ظلم الصليبيين الروم.
فلو نظرنا إلى ذكر النصارى في كتاب الله -تعالى- لوجدنا أنه تكرر مرات عديدة، فهناك سور سميت بأسماء عظمائهم، مثل "آل عمران، مريم، وسورة المائدة".
وهناك آيات تذكر صفاتهم، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 62].
وقال سبحانه: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ* فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة: 82 – 85].
قال السعدي: "(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى).
وذكر تعالى لذلك عدة أسباب:
منها: أن (مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) أي: علماءَ متزهدين، وعُبَّادًا في الصوامع متعبدين.
والعلمُ مع الزهدِ، وكذلك العبادةِ مما يلطفُ القلبَ ويرقِّقه، ويزيلُ عنه ما فيه من الجفاء والغلظة، فلذلك لا يوجد فيهم غلظةُ اليهود، وشدةُ المشركين.
ومنها: (أنهم لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي: ليس فيهم تكبُّرٌ ولا عُتُوٌّ عن الانقياد للحق، وذلك موجبٌ لقربهم من المسلمين ومن محبتِهم، فإن المتواضعَ أقربُ إلى الخير من المستكبر.
ومنها: أنهم (إذا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ) محمد -صلى الله عليه وسلم-، أثَّرَ ذلك في قلوبهم وخشعوا له، وفاضت أعيُنهم بسبب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه، فلذلك آمنوا وأقرُّوا به فقالوا: (رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) وهم أمَّةُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، يشهدون لله بالتوحيد، ولرسُله بالرسالة وصحة ما جاءوا به، ويشهدون على الأمم السابقة بالتصديق والتكذيب.
وهم عدولٌ، شهادتُهم مقبولة، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143].
فكأنهم -أي النصارى- لِيموا على إيمانهم ومسارعتهم فيه، فقالوا: (وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) [المائدة: 84] أي: وما الذي يمنعنا من الإيمان بالله، والحالُ أنه قد جاءنا الحقُّ من ربِّنا، الذي لا يقبلُ الشكَّ والريب، ونحن إذا آمنا واتبعنا الحقَّ طمعنا أن يدخلَنا اللهُ الجنةَ مع القوم الصالحين، فأيُّ مانعٍ يمنعنا؟ أليس ذلك موجبا للمسارعة والانقياد للإيمان وعدمِ التخلف عنه؟!
قال الله -تعالى-: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا) أي: بما تفوَّهوا به من الإيمان، ونطقوا به من التصديق بالحق: (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) [المائدة: 85].
وهذه الآياتُ نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، كالنجاشيِّ وغيره ممن آمن منهم.
وكذلك لا يزال يوجد فيهم من يختار دينَ الإسلام، ويتبيَّن له بطلانُ ما كانوا عليه، وهم أقرب من اليهود والمشركين إلى دين الإسلام" [تيسير الكريم الرحمن، (ص: 241، 242)].
لقد رآهم بعضُ الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- في منامه فدعوه إلى تجريد التوحيد، فعندما قال لهم طُفَيْل بْن سَخْبَرَةَ، أَخو عَائِشَةَ لأُمِّهَا؛ في رؤياه لهم التي رآها في منامه: "إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْقَوْمُ؛ لَوْلا أَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللهِ". "إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْقَوْمُ؛ لَوْلا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ" قَالُوا: "وَأَنْتُمُ الْقَوْمُ؛ لَوْلا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ مَا شَاءَ اللهُ، وَمَا شَاءَ مُحَمَّدٌ!" فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: "هَلْ أَخْبَرْتَ بِهَا أَحَدًا؟" قَالَ: "نَعَمْ!" فَلَمَّا صَلَّوْا، خَطَبَهُمْ فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ طُفَيْلاً رَأَى رُؤْيَا فَأَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ، وَإِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنُعُنِي الْحَيَاءُ مِنْكُمْ، أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا" قَالَ: "لا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ، وَمَا شَاءَ مُحَمَّدٌ!" [مسند أحمد، ط الرسالة (34/ 296) (20694) السلسلة الصحيحة (138)].
وهذه بعض الأحاديث النبوية التي توصي بالأقباط خاصة، وغيرهم عامة، عن أبي ذَرٍّ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فَاخْرُجْ مِنْهَا" قَالَ: فَمَرَّ بِرَبِيعَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، ابْنَيْ شُرَحْبِيلَ ابْنِ حَسَنَةَ، يَتَنَازَعَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فَخَرَجَ مِنْهَا [صحيح مسلم (2543)].
"إِذَا افْتَتَحْتُمْ مِصْرًا فَاسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا".
قَالَ الزُّهْرِيُّ: "فَالرَّحِمُ أَنَّ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ مِنْهُمْ" [أخرجه الحاكم (2/ 553) الصحيحة (1374)].
"اللهَ اللهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ! فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُونَ لَكُمْ عِدَّةً، وَأَعْوَانًا فِي سَبِيلِ اللهِ" [أخرجه الطبراني في "الكبير" (23/265/561) الصحيحة (3113)].
وأم إبراهيم؛ أمُّ ولدِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، مارية القبطية.
وأم العرب أم إسماعيل، هاجرُ مصرية.
في بلدِ الإسلامِ، وما فتح من البلاد الأخرى؛ إن وُجدت معابدُ وكنائسُ فتبقى على ما هي عليه، ويقرُّ أهلُها على ما هم عليه؛ هذا حقُّهم الذي منحهم إياه دينُنا الحنيف، والعهدة العمرية خير شاهد على ذلك، فالقتال للمقاتلين؛ كما قال الله -تعالى-: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة: 190].
قال القاسمي: (وَلا تَعْتَدُوا): "أي: بابتداء القتال، أو بقتال من نُهيتم عن قتاله؛ من النساءِ والشيوخ، والصبيانِ وأصحابِ الصوامع، والذين بينكم وبينهم عهد، أو بالمُثلة -أي بتقطيع الأعضاء والتشويه-، أو بالمفاجأة من غير دعوة -إلى الإسلام-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي: المتجاوزين حكمَه في هذا وغيره" [تفسير القاسمي، محاسن التأويل (2/ 57)].
فالعُبَّادُ والرهبانُ والمنقطعون في الصوامع؛ لا يَتَعَرَّضُ لهم أحدٌ في حربٍ ولا سِلم، والسلف يوصون بذلك، عن ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ الْكِلابِيُّ، قَالَ: قَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَلا لا يُقْتَلُ الرَّاهِبُ فِي الصَّوْمَعَةِ" [مصنف ابن أبي شيبة (6/ 483) (33127)].
وهكذا وصاياه لأمراء جنوده، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي مُطِيعٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، بَعَثَ جَيْشًا فَقَالَ: "اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ وَفَاتَهُمْ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ تَأْتُونَ قَوْمًا فِي صَوَامِعَ لَهُمْ، فَدَعَوْهُمْ وَمَا أَعْمَلُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ" [مصنف ابن أبي شيبة (6/ 484) (33134)].
هذا؛ لأنهم مواطنون مسالمون غيرُ مقاتلين، فلولا الله -سبحانه-؛ لحصل في الأرض فساد وتخريب ودمار، قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) [الحج: 40].
وعن بريدة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ: "اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقلدوا الوليد ولا أصحاب الصوامع" [تفسير ابن أبي حاتم (11/ 107)، والدارمي (2/ 215) وابن كثير (1/ 328) والمنثور (1/ 245، 3/ 206)، وابن أبى شيبة (12/ 328)].
فالمعاهد مواطن له حقوقه؛ العقائدية والمالية وغيرها، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا؛ لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا".
قال ابن القيم: "وَهَكَذَا يَدْفَعُ عَنْ مَوَاضِعِ مُتَعَبَّدَاتِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهَا، وَهُوَ سُبْحَانُهُ يَدْفَعُ عَنْ مُتَعَبَّدَاتِهِمُ الَّتِي أُقِرُّوا عَلَيْهَا شَرْعًا وَقَدَرًا، فَهُوَ يُحِبُّ الدَّفْعَ عَنْهَا وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهَا، كَمَا يُحِبُّ الدَّفْعَ عَنْ أَرْبَابِهَا وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهُمْ...
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي "تَفْسِيرِهِ": عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: (لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ) [الحج: 40]. قَالَ: "الصَّوَامِعُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الرُّهْبَانُ، وَالْبِيَعُ مَسَاجِدُ الْيَهُودِ، وَالصَّلَوَاتُ كَنَائِسُ النَّصَارَى، وَالْمَسَاجِدُ مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ".
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: (لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ) [الحج: 40] قَالَ: "صَوَامِعُ وَإِنْ كَانَ يُشْرَكُ بِهِ".
وَفِي لَفْظٍ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ وَلَوْ مِنْ كَافِرٍ...
وَأَمَّا الْكَنَائِسُ، فَجَمْعُ كَنِيسَةٍ، وَهِيَ لأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَلِلْيَهُودِ خَاصَّةً الْفُهُرُ -بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْهَاءِ- وَاحِدُهَا فُهْرٌ، وَهُوَ بَيْتُ الْمِدْرَاسِ الَّذِي يَتَدَارَسُونَ فِيهِ الْعِلْمَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَى الْيَهُودِ بَيْتَ مِدْرَاسِهِمْ".
وَفِيهِ أَيْضًا قَوْلُ أَنَسٍ: "كَأَنَّهُمُ الْيَهُودُ حِينَ خَرَجُوا مِنْ فُهْرِهِمْ".
وَحُكْمُ هَذِهِ الأَمْكِنَةِ كُلِّهَا حُكْمُ الْكَنِيسَةِ، وَيَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا" [أحكام أهل الذمة (3/ 1169، 1172)].
وإليكم أمثلة من أفعال السلف الصالح تبين "سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين": "إن السماحة في المعاملة يجب أن تكون في ضوء ضوابط الشرع ومقاصده، ومثل ذلك يتطلب أن يكون المسلم على بصيرة بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسلف الأمة من الصحابة والتابعين في هذا الشأن، فمن صور السماحة في المعاملة؛ ما روي عن عمر -رضي الله عنه-، أنه لما قدم الجابية من أرض الشام؛ استعار ثوبا من نصراني، فلبسه حتى خاطوا قميصه وغسلوه، وتوضأ من جرة نصرانية. وصنع له أهل الكتاب طعاما فدعوه، فقال: "أين هو؟!" قالوا: "في الكنيسة" فكره دخولها، وقال لعلي -رضي الله عنه-: "اذهب بالناس" فذهب عليٌّ -رضي الله عنه- بالمسلمين، فدخلوا فأكلوا، وجعل علي -رضي الله عنه- ينظر إلى الصور، وقال: "ما على أمير المؤمنين لو دخل فأكل" [انظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ابن القيم، دار المعرفة، بيروت، د ت،1/ 153، 157].
ومن السماحة: أن يراعيَ في معاملتهم كلَّ مصلحةٍ وقصد صحيح، فعن عبد الله بن قيس قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ تَلَقَّى عُمَرَ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ مَقْدِمَهُ الشَّامَ، فَبَيْنَا عُمَرُ يَسِيرُ، إِذْ لَقِيَهُ "الْمُقَلِّسُونَ" مِنْ أَهْلِ أَذْرِعَاتٍ بِالسُّيُوفِ وَالرَّيْحَانِ.
والتَقْليسُ، الضربُ بالدفّ والغناء.
قال الشاعر:
ضَرْبَ المُقَلَّسِ جَنْبَ الدَفِّ للعَجَمِ
وقال الأموي: المُقَلِّسُ، الذي يلعب بين يدَي الأمير إذا قدِم المِصْرَ.
وقال أبو الجرَّاح: التَقْليسُ: استقبال الولاة عند قدومهم بأصناف اللهو" [الصحاح، تاج اللغة ط، دار العلم للملايين (3/ 966)].
أي ما يسمى اليوم بالسلام الوطني، أو السلام الملكي.
فَقَالَ عُمَرُ: "مَهْ! رُدُّوهُمْ وَامْنَعُوهُمْ".
فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! هَذِهِ سُنَّةُ الْعَجَمِ" أَوْ كَلِمَةٌ نَحْوُهَا "وَإِنَّكَ إِنْ تَمْنَعْهُمْ مِنْهَا؛ يَرَوْا أَنَّ فِي نَفْسِكَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ" فَقَالَ عُمَرُ: "دَعُوهُمْ، عُمَرُ وَآلُ عُمَرَ فِي طَاعَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ" [كتاب الأموال، أبو عبيد القاسم بن سلام، دار إحياء التراث الإسلامي، قطر، 1987م ص 180-. والأموال، لابن زنجويه (1/ 386) (633)، وتاريخ داريا، لعبد الجبار الخولاني (ص: 97)].
وصلَّى سلمان وأبو الدرداء -رضي الله عنهما- في بيت نصرانية، فقال لها أبو الدرداء -رضى الله عنه-: "هل في بيتك مكان طاهر فنصلي فيه؟" فقالت: "طهرا قلوبكما، ثم صليا أين أحببتما" فقال له سلمان -رضي الله عنه-: "خذها من غير فقيه" [انظر: إغاثة اللهفان، ابن القيم، ج1 ص 153].
قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: وَاسْتَشَارَنِي عُمَرُ فِي هَدْمِ كَنَائِسِهِمْ، فَقُلْتُ: "لا تُهْدَمُ، هَذَا مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ" فَتَرَكَهَا عُمَرُ.
وعَنْ قَابُوسِ بْنِ الْمُخَارِقِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إِلَى عَلِيٍّ يَسْأَلُهُ: عَنْ مُسْلِمٍ زَنَى بِنَصْرَانِيَّةٍ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: "أَنْ أَقِمْ لِلَّهِ الْحَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَادْفَعِ النَّصْرَانِيَّةَ إِلَى أَهْلِ دِينِهَا".
وعَنِ الزُّهْرِيِّ: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة: 42].
قَالَ: "مَضَتَ السُّنَّةُ أَنْ يَرُدُّوا فِي حُقُوقِهِمْ وَمَوَارِيثِهِمْ إِلَى أَهْلِ دِينِهِمْ؛ إِلا أَنْ يَأْتُوا رَاغِبِينَ فِي حَدٍّ نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ، فَنَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) [المائدة: 42]. [مصنف عبد الرزاق الصنعاني (6/ 61- 65)].
هكذا هو الإسلام، وهؤلاء هم أهله في معاملة المدنيين والمواطنين، والمعتقدين غير دين الإسلام.
إنها سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين "وعبر تاريخ دولة الإسلام كان يعيش في داخلها غير المسلمين في مراحل قوتها وضعفها، فلم يجبروا على ترك معتقداتهم أو يكرهوا على الدخول في الإسلام، والقاعدة العظمى في الإسلام أن لا إكراه في الدين، ولذا فقد عاش الذميون وغيرهم -كمواطنين- في كنف دولة الإسلام دون أن يتعرض أحد لعقائدهم ودياناتهم -وأموالهم-.
إن الإسلام لم يقم على اضطهاد مخالفيه، أو مصادرة حقوقهم، أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم، أو المساس الجائر لأموالهم وأعراضهم ودمائهم، وتاريخُ الإسلام في هذا المجال أنصعُ تاريخ على وجه الأرض.
ومن المقرر عند الفقهاء: أنه لو أُكره أحدٌ على الإسلام، فإنه لا يصح إسلامه، قال في المغني: "وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه؛ كالذميِّ -أي المواطن منهم- والمستأمنِ -كالتاجر والمسافر والزائر والسفير من غير المسلمين- فأسلم لم يثبت له حكم الإسلام، حتى يوجدَ منه ما يدلُّ على إسلامه طوعا".
ولذلك، فإنه إذا عاد إلى دينه بعد زوال الإكراه لم يحكم بردَّته، ولا يجوز قتلُه، ولا إكراهه على الإسلام، ونقل ابن قدامة إجماع أهل العلم على أن الذمي إذا أقام على ما عوهد عليه والمستأمن؛ لا يجوز نقض عهده ولا إكراهه على ما لم يلتزمه" [سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين؟، أ. د. حكمت بن بشير بن ياسين].
وفي ذلك يقول بوسارد، صاحب كتاب [إنسانية الإسلام]: "إن المساواة تبدأ من السجود لله الواحد، ثم تصعدُ مع الإنسان في كل أعماله وعلاقاته".
ويقول أيضا: "إن إِفراد اللهِ بالعبودية المطلقة؛ لا يُبقِي مجالا لكي يعلوَ واحدٌ على الآخر، أو يستعبدَ إنسان إنسانا" [حقوق الإنسان والقضايا الكبرى، للأستاذ: كامل إسماعيل الشريف].
لقد أوضح الإمام ابن تيمية الطريقة القويمة، والمنهاجَ الواضحَ في كيفية التعامل مع كافة القضايا؛ حيث يقول: "والمؤمن ينبغي له أن يَعْرف الشرور الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسنة، كما يَعْرف الخيرات الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسنة، فيُفَرِّق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة، والتي يُراد إيقاعُها في الكتاب والسنة، ليقدِّم ما هو أكثر خيراً، وأقلُّ شراًّ على ما هو دونه، ويَدْفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويَجْتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإنّ من لم يَعْرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين: لم يَعْرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يَعْرف ذلك؛ كان قولُه وعملُه بجهل، ومَن عبدَ الله بغير علم؛ كان ما يُفْسِد أكثرَ مما يُصْلِح".
ومن هنا وجب على مَن يتصدَّى للحديث في شؤون الأمة بشكل عامّ، وحقوقِ الإنسان بشكل خاص؛ أن يعلم مضمونَ الشريعة، وكيفيةَ تعاملها في الحقوق والواجبات؛ كي يستطيعَ أن يكونَ مُنصفا، وليس مُتجنياًّ، كما هو حال الكثيرين الذين يتشدقون بحقوق الإنسان، ويدعون أن الشريعة الإسلامية هي السبب، والراجح أن الذي يدفعهم إلى اتخاذ تلك المواقف؛ هو سبب واحد من اثنين لا ثالث لهما: إمَّا الحقدُ على الإسلامِ والمسلمين، وإما الجهلُ المطلقُ بمضمونِ الشريعةِ الإسلامية الصالحة لكل زمان ومكان" [مقاصد الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان، د. محمود السيد الدغيم].
وكل ما خالف هذه الأوامر الربانية، والتوجيهات النبوية، والأعمال التي نادى بها السلف الصالح، فليس من الإسلام في شيء، ومنهج الدعوة السلفية منه براء، وإلصاق التهم بها وبالداعين إليها تجنٍّ وافتراء، وكذب وادعاء
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، قَالَ: بَيْنَمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ فِي يَدِ الْخَوَارِجِ؛ إِذْ أَتَوْا عَلَى نَخْلٍ, فَتَنَاوَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ تَمْرَةً، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا لَهُ: "أَخَذْتُ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ أَهْلِ الْعَهْدِ؟!" وَأَتَوْا عَلَى خِنْزِيرٍ فَنَفَخَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا لَهُ: "قَتَلْتَ خِنْزِيرًا مِنْ خَنَازِيرِ أَهْلِ الْعَهْدِ؟!" -فجعلوا ذلك كبيرة من الكبائر!- قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "أَلا أُخْبِرُكُمْ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ عَلَيْكُمْ حَقًّا مِنْ هَذَا؟!" قَالُوا: "مَنْ؟!" قَالَ: "أَنَا! مَا تَرَكْتُ صَلاةً وَلا تَرَكْتُ كَذَا، وَلا تَرَكْتُ كَذَا" قَالَ: فَقَتَلُوهُ, قَالَ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ عَلِيٌّ، قَالَ: "أَقِيدُونَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ" قَالُوا: "كَيْفَ نُقِيدُكَ بِهِ وَكُلُّنَا قَدْ شَرَكَ فِي دَمِهِ؟!" فَاسْتَحَلَّ قِتَالَهُمْ" [مصنف ابن أبي شيبة (7/ 560) (37923)].
فالعجب من خوارج ذلك الزمان الذي يخافون فيه من الاعتداء على النصارى وغيرِهم من المعاهدين، وخوارج اليوم الذين لا يرعوون عن الاعتداء على الأبرياء المواطنين؛ من نصارى ومسلمين -ونسأل الله السلامة-.
"اللهم اجعلنا ممن اختاروا هداهم على هواهم، ورضوا بشريعتك، واطمأنوا بها، وانشرحت لها صدورهم، فلم يبغوا عنها حولا، ولم يرضوا بها بديلا.
اللهم أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم لا تجعلنا ممن زين له سوء عمله، فرآه حسنا، فأصبح من الخاسرين أعمالا، الضالين طريقا، واهدنا صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إنك جواد كريم" [الضياء اللامع من الخطب الجوامع (2/ 390)].