القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | صالح الدويلة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصلاة - الطهارة |
سوف نستعرض في هذه الخطبة جانبا من أحكام الشتاء التي يحتاجها المسلم في طهارته وصلاته، تعليما للجاهل، وتذكيرا للناس، وتحدثا بنعمة الله علينا، بهذه الشريعة السمحة، وإظهارا لمحاسن هذا الدين العظيم. أما فيما يتعلق بالطهارة، فإن مشقة الوضوء بالماء البارد توجب لصاحبها عظيم الأجر، كيف وقد قام لله -تعالى-، وأسبغ وضوئه على أطرافه، وهو يرتعد من شدة البرد طلبا لرضوانه، وقد...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الرحيم الرحمن، ذو الفضل والإحسان والجود والامتنان، وفق من شاء لطاعته، وذاد عنه العصيان، وخذل بعدله و حكمته حزب الشيطان، نحمده على ما مضى وكان، ونستعينه على ما بقي من الزمان.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، شهادة إيمان وإيقان وصدق وإذعان، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من بني الإنسان، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الأتقياء الأوفياء، وعلى الصحابة الأبرار العباد الأطهار، ومن سار على طريقهم، واقتفى أثرهم ما تعاقب الجديدان.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله، أمة الدين والعقيدة: فإن البرد يشتد، ومع اشتداده وزيادته عن الحد الذي لا يتحمله الكثير من المسلمين، قد يجد الكثير من المسلمين حرجا في عباداتهم التي يؤدونها يوميا؛ كالطهارة والصلاة، وقد جاءت الشريعة برفع الحرج: (ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة: 6].
بل إن من قواعدها العظيمة أن: "الأمر إذا ضاق اتسع"، وأن: "المشقة تجلب التيسير"، وأن: "الله –تعالى- لا يكلف نفسا إلا وسعها".
وسوف نستعرض في هذه الخطبة جانبا من أحكام الشتاء التي يحتاجها المسلم في طهارته وصلاته، تعليما للجاهل، وتذكيرا للناس، وتحدثا بنعمة الله علينا، بهذه الشريعة السمحة، وإظهارا لمحاسن هذا الدين العظيم.
أما فيما يتعلق بالطهارة، فإن مشقة الوضوء بالماء البارد توجب لصاحبها عظيم الأجر، كيف وقد قام لله -تعالى- وأسبغ وضوءه على أطرافه، وهو يرتعد من شدة البرد طلبا لرضوانه، وقد اطلع الله عليه وعرف أن ما حمله على ذلك هو الخوف منه وابتغاء رضوانه، فعامله سبحانه بكرمه ولطفه، ودليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا أدلُّكم على ما يمْحو الله به الخطايا، ويرْفع به الدَّرجات؟" قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثْرة الخُطا إلى المساجِد، وانتِظار الصَّلاة بعد الصَّلاة، فذلكم الرِّباط"[رواه مسلم].
وهنا ننبه على عدة مسائل:
الأولى: أنه يجوز تسخين الماء واستعمال الماء الساخن في الوضوء والجنابة، والدليل السابق في فضل اسباغ الوضوء بالماء البارد لمن قدر عليه ولم يضره.
الثانية: من عجز عن استعمال الماء لشدة برودته أو تجمده، أو خاف الضرر باستعماله، ولم يتمكن من تسخينه أو خشي خروج الوقت إذا انشغل بتسخينه، فإنه يتيمم ويصلي ولا شيء عليه؛ ففي حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنه قال: لما بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله -عز وجل-: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29].
فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل شيئا[صححه الألباني في إرواء الغليل1/181].
الثالثة: مع كثرة الملابس وترادفها يتساهل البعض في التشمير عن ساعديه، فلا يصل الماء إلى مرفقيه، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من التساهل في ذلك، فقال: "ويل للأعقاب من النار".
وحث على اسباغ الوضوء لأجل الاهتمام بإيصال الماء إلى جميع الأطراف الواجب غسلها.
الرابعة: الواجب هو إسالة الماء على العضو في الوضوء، فقد يتساهل البعض من شدة البرودة، فيمسح مسحا، وهناك فرق بين الغسل والمسح؛ كما هو ظاهر قول الله -تعالى-: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ)[المائدة: 6].
فينبغي أن نعتني بغسل الأعضاء كما أمر الله، ويكفي فيها -كما قلنا- إسالة الماء على العضو من غير تكلف.
الخامسة: يجوز تنشيف الأعضاء بعد الوضوء، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان له خرقة يتنشف بها بعد الوضوء[حسنه الألباني في صحيح الجامع برقم: 4830].
هذا فيما يتعلق بالوضوء أما المسح على الخفين، أو الجوربين، أو الشرابات، وهي كل ما يُلبس في الرِّجل، سواءٌ أكان رقيقاً، أو غليظاً، مخرقاً، أو سليماً؛ فيجوز المسح عليهما، وفقا للأحكام التالية:
لبسهما على طهارة غسل فيها قدميه؛ يقول المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-: "كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين. فمسح عليهما"[خ: 206، م: 274].
جواز مسحهما في الحَدَث الأصغر لا في الجنابة أو ما يوجب الغُسل؛ ودليل ذلك حديث صفوان بن عسَّال -رضي الله عنه- قال: "أَمَرَنا رسولُ الله إذا كنَّا سَفرا أنْ لا نَنْـزِع خِفافنا ثلاثة أيام ولياليَهُنَّ إلاَّ مِن جَنابة ولكنْ مِن غائطٍ وبولٍ ونومٍ"[رواه أحمد من حديث صفوان بن عسّال -رضي الله عنه- في مسنده].
فيُشترَطُ أنْ يكون المسح في الحَدَث الأصغر، ولا يجوز في الحَدَث الأكبر.
أما صفة المسح، فهي: أن يضع أصابع يديه مبلولتين بالماء على أصابع رجليه ثمَّ يُمرُّهما إلى ساقه، يمسح الرجل اليمنى باليد اليمنى، والرجل اليسرى باليد اليسرى، ويُفرِّج أصابعه إذا مسح، ولا يكرر المسح.
وقَّتَ النبي -صلى الله عليه وسلم- للمقيم يومٌ وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام للمسح على الخفين؛ ولكن من أين يبدأ التوقيت في المسح؟
الراجح أنه من أول مسح؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "يمسح المسافر على خفيه ثلاثة أيام"[صححه الألباني في تمام النصح، ص91].
وقول عمر بن الخطاب: أن عمر -رضي الله عنه- قال: "من أدخل قدميه وهما طاهرتان فليمسح عليهما إلى مثل ساعته من يومه وليلته"[رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار1/84 وقال: تواترت الآثار عنه بذلك، وصححه الألباني في تمام النصح، ص91].
لا عبرة بعدد الصلوات، بل العبرة بالزمن فللمقيم أربعٌ وعشرون ساعة، وللمسافر اثنتان وسبعون ساعة بعد المسح.
ونضرب مثلاً على ذلك: رجل تطهر لصلاة الفجر ثم لبس الخفين، وبقي على طهارته إلى صلاة العصر، وفي الساعة الخامسة تطهر لصلاة المغرب ثم مسح؛ فهذا الرجل له أن يمسح إلى الساعة الخامسة إلا ربعاً من اليوم الثاني، وبقي على طهارته حتى صلى المغرب وصلى العشاء، فيكون حينئذ صلى تسع صلوات صلها، وبهذا علمنا أنه لا عبرة بعدد الصلوات كما هو مفهومٌ عند كثير من الناس حيث يقولون: إن المسح خمسة فروض، وهذا الكلام لا أصل له.
ومع اشتداد البرد قد يلبس البعض خفا على خف، أو شرابا على شراب، فلا بأس بذلك، وأما أحكام المسح عليهما، فكما يلي:
إذا لبس جوربا، أو خفا، ثم أحدث، ثم لبس عليه آخر قبل أن يتوضأ، فالحكم للأول، أي إذا أراد أن يمسح بعد ذلك مسح على الأول، ولم يجز أن يمسح على الأعلى.
إذا لبس جوربا، أو خفا، ثم أحدث، ومسحه، ثم لبس عليه آخر، فله مسح الثاني على القول الصحيح، فقد لبسه على طهارة.
واعلموا أن نزع الخفين بعد المسح عليهما لا ينقض الوضوء، فقد ثبتت الطهارة بدليل شرعي، فلا تنقض إلا بدليل، ولا دليل على ذلك.
كما أن انتهاء مدة المسح وهو على طهارة لا ينتقض معها الوضوء، بل يبقى على طهارته حتى ينقضها بناقض شرعي.
وإذا انتهت مدة المسح، فلا يجوز له أن يمسح، بل لا بد من إعادة وضوئه وغسل رجليه، ثم لبس خفيه، وإذا نسي ومسح بعد انتهاء مدة المسح ثم صلى، فصلاته باطلة؛ لأن وضوءه باطل، وعليه أن يعيد الصلاة فورًا.
هذه بعض أهم مسائل الطهارة التي يحتاجها المسلم مع شدة البرد، -وقانا الله وإياكم شره، وتقبل منا ومنكم وزادنا وإياكم فقها وفهما-.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه ثم توبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الحامدين، والشكر لله شكر الشاكرين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وقدوة العالمين، وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المصلين: أما فيما يتعلق بأحكام الصلاة، فتتجلى عظمة الشريعة وسماحتها في مجموعة من الأحكام التي تعلق بالشتاء والبرد وشدته؛ ومن أهمها:
وروى البخاري ومسلم عن نافع قال: "أذّن ابن عمر، ثم قال: صلوا في رحالكم. فأخبرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر مؤذناً يؤذن ثم يقول على إِثره: ألا صلوا في الرّحال؛ في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر".
وفي الحديث فوائد منها:
الأولى: الرخصة في التخلف عن مسجد الجماعة لعذر.
والترخص في الصلاة وقت نزول البرد الشديد على الناس.
وضابط الشدة في البرد أن يخشى الإنسان منه حصول الهلاك في نفسه، أو التلف في عضوه، أو يجد فيه مشقة ظاهرة وكلفة في أداء العبادة توجب له المرض أو الأذى.
وهذا يكون غالبا في أيام معدودة في البلاد المعتدلة، وكثيرا في البلاد الباردة.
أما البرد المتوسط والخفيف الذي لا يخشى منه حصول ضرر أو مشقة، ويكون معتادا في كثير من البلاد، فلا يترخص فيه، وحكمه حكم سائر أجواء المناخ الذي لم يعلق الشارع فيه رخصة، أو حكما خاصا.
والمرجع في تعيين البرد الشديد من غيره إلى عرف أوساط الناس المعتدلين في تحمل البرودة، فما عدوه بردا شديدا كان كذلك، وما لا فلا.
ولا عبرة برأي غيرهم ممن كان شديد التأثر بالبرودة، أو قليل التأثر بها؛ كمن لا يشعر بها.
قال القرطبي: "وظاهرها جواز التخلف عن الجماعة للمشقة اللاحقة مِن المطر والريح والبرْد، وما في معنى ذلك مِن المشاق المحرجة في الحضر والسفر".
وقال ابن قدامة في المغني: "ويعذر في ترك الجماعة بالريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة".
الثانية: أن المؤذن -حين العذر- يبدل قولَه: "حي على الصلاة" بقوله: "صلوا في رحالكم" أو "بيوتكم" وجاءت روايات أخرى صحيحةٌ بجواز قولها بعد: "حي على الصلاة". "حي على الفلاح" وكذا بعد الانتهاء من الأذان كلّه، والأمر واسع.
كما يجوز الجمع بين الصلوات مع شدة البرد واشتداد الريح التي تضر الناس ولو لم يكن هناك مطر؛ فقد جمع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في المدينة من غير خوف ولا سفر ولا مطر رفعا للحرج عن أمته.
واعلموا أنه يجوز لبس الخفين في الصلاة، ولا محذور في ذلك.
ولا يجوز استقبال النار في الصلاة، لما فيه من مشابهة المجوس في عبادتهم للنار.
واعلموا -يا وفقكم الله- أن شدة البرد من فيح جهنم تذكركم بأن تجتهدوا في طاعة ربكم، وتلتفوا إلى حاجة إخوانكم من الفقراء المعدمين، وتحتسبوا في كسوتهم وعلاجهم وإعانتهم على ما نزل بهم بسبب البرد، واحفظوا صبيانكم وكبار السن منكم، فالبرد عدوهم اللدود، ولا تنسوا أن لكم إخوانا في بلاد الشام قد اجتمع عليهم شدة البرد وشدة الظلم والطغيان، ولا ملجأ ولا منجا لهم إلا الله، فادعوا الله -تعالى- أن يفرج عنهم، وأن يكبت عدوهم، وأن يفرغ عليهم الصبر ويثبتهم ويعينهم على دفع الظلم الذي طال ليله، وأوشك فجره على الشروق.
وابذلوا لهم من أموالكم ما تستطيعون عبر القنوات الموثوقة، فهو أقل واجبهم عليكم، فهم أهل الشام أرض الأنبياء وأرض المحشر والمنشر [صححه الألباني في فضائل الشام ص4].
وبلاد المهدي المنتظر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم: لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة"[رواه الترمذي: 2192 وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في الصحيحة: 403].
هذا وصلوا وسلموا...