الشهيد
كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...
العربية
المؤلف | عدنان مصطفى خطاطبة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التوحيد |
هذه خطبة موجزة فيها تقعيد علمي لفكرة واحدة نستلهمها من منهج القرآن والسنة في التعامل من هذا الكون ومتغيراته، وما يعنينا هنا هو الوقوف مع تغير فصول السنة، ومجيء فصل الشتاء، ونزول المطر من السماء، فالناظر في الآيات والأحاديث الخاصة بالشتاء، ونزول المطر من السماء، يجد بأنها ارتبطت ارتباطا وثيقا بتوحيد الله -تعالى-، وتصحيح المعتقد به سبحانه، وبمعرفة أسمائه وصفاته. ودعونا -أيها الإخوة المؤمنون- نتأمل شواهد ذلك من...
الخطبة الأولى:
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان.
وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد:
فهذه خطبة موجزة فيها تقعيد علمي لفكرة واحدة نستلهمها من منهج القرآن والسنة في التعامل من هذا الكون ومتغيراته، وما يعنينا هنا هو الوقوف مع تغير فصول السنة، ومجيء فصل الشتاء، ونزول المطر من السماء، فالناظر في الآيات والأحاديث الخاصة بالشتاء، ونزول المطر من السماء، يجد بأنها ارتبطت ارتباطا وثيقا بتوحيد الله -تعالى-، وتصحيح المعتقد به سبحانه، وبمعرفة أسمائه وصفاته.
ودعونا -أيها الإخوة المؤمنون- نتأمل شواهد ذلك من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: النبي -صلى الله عليه وسلم- يجعل من نزول المطر درساً في تصحيح توحيد الناس.
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم الناس التوحيد من كتاب الله المسطور كما يعلمهم التوحيد من كتاب الله المنظور، وهو الكون المادي المفتوح لكل ناظر ومتأمل، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستغلّ وقوع الحدث وتأثر الناس به، واهتمامهم بما جرى فيه، ليجعل من ذلك موقفا تعليميا قويا ونافعا.
فها هو صلى الله عليه وسلم يجعل من موقف نزول المطر من السماء درسا في التوحيد، وتصحيح عقيدة الناس في أفعال الله، وتدبيره في الكون، وتحذيرهم من الوقوع في حبال الشرك الكوني العجيب؛ ففي صحيح مسلم عن زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- صَلَاة الصُّبْح بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْر سَمَاءٍ مطر كَانَتْ مِنْ اللَّيْل فَلَمَّا اِنْصَرَفَ، قَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّه وَرَحْمَته فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ "بنجم" كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ".
فهنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يبين الطريق الصحيح إلى توحيد الله في نزول الغيث، وذلك بأن نعتقد جازمين بتفرّد الله -تعالى- وحده بعملية تنزيل الغيث على عباده، وخطورة نسبة ذلك إلى تغيرات حركة النجوم في السماء كما كانت تفعل ذلك العرب في جاهليتها من ربط نزول الغيث بتغير منازل النجم من سقوط أو طلوع، بل على المسلم أن يعتقد جازما بأن ذلك تم بقدرة الله -تعالى- وحده، وأن ذلك من مشيئته وحده سبحانه.
عباد الله: ويجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك من نزول المطر طريقا لتوحيد الله بإنعامه على خلقه.
ولذلك اشتمل هذا الموقف النبوي في الحديث السابق على درس آخر في توحيد الله -تعالى- ومعرفته، وهو: أن يقول المسلم بعد نزول المطر: "مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّه وَرَحْمَته".
نعم ليستشعر المؤمن سعة فضل الله على عباده، ويرى نعمته وأثرها في خلقه من الإنس والجن، والدواب والتراب والأشجار، وما في باطن الأرض وما على ظاهرها بفضل نعمة نزول المطر، وبذلك تزداد معرفتك أيها المسلم بربك -سبحانه- وبصفاته من خلال ما تراه من أفعاله، وهذا كله من توحيد الله -تعالى- ومعرفة جميل صفاته وحكيم أفعاله.
فانظر كيف جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- من نزول المطر درسا في توحيد الله -تعالى-.
وقد جاء في القرآن العظيم ما يوضح هذه الحقيقة الإيمانية، فقال تعالى: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ)[البقرة: 22].
وقال كذلك: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)[الواقعة:68-70].
وقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا)[الفرقان:48-49].
فهذا هو فصل الشتاء يجعلك ترى آية الله ونعمته الكبرى عليك وعلى الكائنات من حولك في نزول المطر من السماء إلى الأرض.
عباد الله: القرآن العظيم يجعل من نزول الغيث درسا في توحيد الله بقدرته على صنع المطر، والتحكم به.
فتأمل قوله تعالى عن عملية تصنيع الغيث، تلك العملية التي لا تتم في مصانع مادية تقوم بها آلات ضخمة، ويديرها آلاف العمال والمهندسين، بل إنها عملية تصنيع رباني تتم هناك في السماء، وفي الفضاء وبلا أجهزة تصنيع مادية، وإنما تحت أمر العليم الحكيم القادر المدبر الذي يقول للشيء كن فيكون، ووفقا لسننه الإلهية الكونية العظيمة.
نعم، تأمّل معي فقط آية واحدة من عشرات الآيات في ذلك، تلك التي قال فيها القرآن العظيم: (ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)[النور: 43].
قال السعدي في تفسير هذه الآية: "أي: ألم تشاهد ببصرك، عظيم قدرة الله، وكيف: (يُزْجِي) أي: يسوق: (سَحَابًا) قطعا متفرقة: (ثُمَّ يُؤَلِّفُ) بين تلك القطع، فيجعله سحابا متراكما، مثل الجبال: (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي: الوابل والمطر، يخرج من خلال السحاب، نقطا متفرقة، ليحصل بها الانتفاع من دون ضرر، فتمتلئ بذلك الغدران، وتتدفق الخلجان، وتسيل الأودية، وتنبت الأرض من كل زوج كريم، وتارة ينزل الله من ذلك السحاب بردا يتلف ما يصيبه: (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) بحسب ما اقتضاه حكمه القدري، وحكمته التي يحمد عليها: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ) أي: يكاد ضوء برق ذلك السحاب، من شدته: (يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ) أليس الذي أنشأها وساقها لعباده المفتقرين، وأنزلها على وجه يحصل به النفع وينتفي به الضرر، كامل القدرة، نافذ المشيئة، واسع الرحمة؟".
ويقول ابن القيم مبينا صفات الله -تعالى- وكمال تدبيره سبحانه، وهو يتحدث عن نزول المطر من السحاب على الأرض: "فيرشُ السحاب على الأرض رشاً، ويرسله قطرات منفصلة، لا تختلط قطرة منها بأخرى، ولا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة، قد عينت كل قطرة منها لجزء من الأرض لا تتعداه إلى غيره، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا قطرة واحدة أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه".
ثم قال رحمه الله: "فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقاً للعباد والدواب والطير والذر والنمل، يسوقه رزقاً للحيوان الفلاني، في الأرض الفلانية، بجانب الجبل الفلاني، فيصل إليه على شدة الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا".
وتفكّر معي في قدرة الله -تعالى- على التحكم في المطر كيف يجعله تارة ماء وتارة برَدَة وتارة ثلجاً، وتأمل تلك الكميات الكبيرة من الثلج التي تغطي مدناً كاملة وجبالا ودولا وقارات، فأين يتم تثليج ذلك الماء كله؟ وأي مصانع تلك في العالم التي تستطيع تثليج تلك الكميات؟ إنها فقط قدرة الله -تعالى-، وإنه فقط الله وحده لا شريك معه مَنْ يفعل كل ذلك، ومن يقدر على كل ذلك، ومن يحسن تدبير كل ذلك، وهذا هو توحيد الله، وهذه هي السبيل إلى معرفته وتعظيمه وإجلاله وحسن عبادته من خلال التفكر في أفعاله وصنعه المتقن في نزول المطر من السماء.
وبذلك يجعل القرآن من نزول المطر طريقا لتوحيد الله ومعرفته -سبحانه–.
عباد الله: يجعل القرآن من نزول المطر من السماء تقريراً لعقيدة توحيد الله بالبعث.
فالمتأمل لآيات القرآن العظيم يجد الربط واضحا بين نزول المطر وما يعقبه من تغييرات طبيعية على سطح الأرض وعقيدة البعث، وذلك كما في قوله - تعالى -: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت: 39].
قال السعدي: "(وَمِنْ آيَاتِهِ) الدالة على كمال قدرته، وانفراده بالملك والتدبير والوحدانية: (أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً) أي: لا نبات فيها: (فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ) أي: المطر: (اهْتَزَّتْ) أي: تحركت بالنبات، (وَرَبَتْ) ثم: أنبتت من كل زوج بهيج، فيحيي به العباد والبلاد: (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا) بعد موتها وهمودها: (لَمُحْيِي الْمَوْتَى) من قبورهم إلى يوم بعثهم، ونشورهم: (إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكما لم تعجز قدرته عن إحياء الأرض بعد موتها، لا تعجز عن إحياء الموتى".
وقال تعالى في آية أخرى: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)[الزخرف: 11].
قال السعدي: "(وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ) لا يزيد ولا ينقص، ويكون أيضا بمقدار الحاجة، لا ينقص بحيث لا يكون فيه نفع، ولا يزيد بحيث يضر العباد والبلاد، بل أغاث به العباد، وأنقذ به البلاد من الشدة، ولهذا قال: (أَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) أي: أحييناها بعد موتها: (كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) أي: فكما أحيا الأرض الميتة الهامدة بالماء، كذلك يحييكم بعد ما تستكملون في البرزخ، ليجازيكم بأعمالكم".
فكما ترى قدرة الله العظيمة على إحياء الأرض الموات والبوار وإخراج منها تلك الزروع والأشجار والنباتات الحية النامية، كذلك عليك أن تؤمن بقدرته على إخراج الإنسان الميت من تلك الأرض ذاتها، إنه توحيد الله -تعالى- وإفراده بقدرته على إنزال المطر وقدرته على البعث.
عباد الله: النبي -صلى الله عليه وسلم- يجعل من نزول المطر طريقا إلى توحيد الله بالدعاء.
إن النبي -صلى عليه وسلم- كان يربّي أمّته على التوحيد نظرياً وعملياً، ومن عجيب دروس التوحيد العملية أنه علّمنا كيف نُوحّد الله -تعالى- ونُفْرِده بالدعاء خلال عملية نزول المطر؛ ففي صحيح البخاري: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى المطر قال: اللهم صَيّباً نافعاً".
صيبا: أي: منهمرا متدفقا كثيرا.
ففي هذا الدعاء توحيد الله -تعالى- وإفراده بالقدرة الكاملة على النفع والضر، فهو سبحانه قادر على أن يكّّثر المطر أو يقلّله، وقادر على أن يجعله نافعا مباركا أو ضارا مدمرا.
وكذلك يعلمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نوحد الله بالدعاء وإفراده بإجابة الدعاء، وحسن الظن به، عندما يكون المطر يتنزل، فنلجأ عندها إلى الله بالدعاء معتقدين أنه سيستجيب لنا دعاءنا هذا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اطلبوا إجابة الدعاء عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول المطر"[صحّحه الألباني].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
عباد الله: النبي -صلى الله عليه وسلم- يجعل من الشتاء البارد طريقاً لمعرفة صفة كرم الله وإحسانه.
فعند نزول المطر وفي الشتاء البارد يضاعف لك أجرك على تلك العبادات الشاقة في البرد الشديد؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط".
وإسباغ الوضوء على المكاره أن تسبغ وضوءك وتحسنه وتتقنه في حالة البرد الشديد.
وهذا من فضل الله الكريم ومن عظيم بركاته على عباده الطائعين أنه يحسن إليهم، ويضاعف لهم أجرهم، ويعفو عنهم بسبب أدائهم تلك العبادات في أحوال الطقس الباردة، وبذلك يربي فينا النبي -صلى الله عليه وسلم- معاني توحيد الله السامية في نفوسنا وقلوبنا، ويجعلنا نعرف الله بصفاته وجلاله وكماله من خلال أحداث الكون، وهنا تحديدا من خلال عملية نزول المطر.
فلله وحده الحمد الفضل والمنة.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا يا رب العالمين.