البحث

عبارات مقترحة:

اللطيف

كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...

الوتر

كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...

القريب

كلمة (قريب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فاعل) من القرب، وهو خلاف...

دماء الفتنة

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أهل السنة والجماعة
عناصر الخطبة
  1. الصراع في الأرض قدر كوني .
  2. الفتن تنشأ عن التأويل .
  3. فتن الدماء أعظم الفتن .
  4. الفتن تشغل عن العبادة .
  5. ضرورة نشر فقه الفتن بين الناس .

اقتباس

وفتن الدماء هي أعظم الفتن بين المسلمين؛ لعظم أمر الدماء، ولسهولة استباحتها بالتأويل، ولعجز العقلاء عن كف المتقاتلين، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وَالْفِتْنَةُ إِذَا وَقَعَتْ عَجَزَ الْعُقَلَاءُ فِيهَا عَنْ دَفْعِ السُّفَهَاءِ... وَهَذَا شَأْنُ الْفِتَنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال:25]. وَإِذَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ التَّلَوُّثِ بِهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ الله تعالى» اهـ

الخطبة الأولى:

الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ، اللَّطِيفِ الخَبِيرِ؛ وَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لِكَفِّ أَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ عَنْ إِخْوَانِهِمْ، فَوَافَوْا يَوْمَ القِيَامَةِ بِكَامِلِ حَسَنَاتِهِمْ، وَلَمْ يَحْمِلُوا أَوْزَارَ غَيْرِهِمْ، وَالمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا إِلَيْهِ مِنْ دِينِهِ القَوِيمِ، وَإِيضَاحِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، وَبَيَانِ طُرُقِ الضَّلاَلِ وَالجَحِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ كَتَبَ الاخْتِلاَفَ وَالاحْتِرَابَ عَلَى البَشَرِيَّةِ، وَأَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِالاجْتِمَاعِ عَلَى كَلِمَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ أَخَذُوا بِهَا ائْتَلَفُوا، وَإِنْ صَدَفُوا عَنْهَا اخْتَلَفُوا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَقَامَ الحُجَّةَ، وَأَوْضَحَ المَحَجَّةَ، وَتَرَكَنَا عَلَى بَيْضَاءَ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا إِلاَّ هَالِكٌ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالَى  - وَأَطِيعُوهُ، وَعَظِّمُوهُ حَقَّ التَّعْظِيمِ، بِتَعْظِيمِ ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي مَلَكُوتِهِ وَخَلْقِهِ وَآيَاتِهِ، وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ وَحُرُمَاتِهِ، وَتَنْفِيذِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَالوَقْفِ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَكَسْرِ هَوَى النُّفُوسِ بِشَرِيعَتِهِ؛ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ) [الأعراف:54].

أَيُّهَا النَّاسُ: الصِّرَاعُ فِي الأَرْضِ قَدَرٌ كَوْنِيٌّ، وَسُنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ كَتَبَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى البَشَرِ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود:118-119]، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة:253]، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْض) [البقرة:251].

وَهُوَ صِرَاعٌ دَائِمٌ بَيْنَ أَهْلِ الحَقِّ وَأَهْلِ البَاطِلِ، وَصِرَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ البَاطِلِ وَأَهْلِ البَاطِلِ، وَصِرَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ حَقٍّ وَأَهْلِ حَقٍّ، وَلَكِنَّهُ صِرَاعٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ الفِتْنَةُ العَمْيَاءُ الصَمَّاءُ الَّتِي تَحْصِدُ الأَرْوَاحَ، وَتُطَيِّرُ الرُّؤُوسَ، فَلاَ يَدْرِي القَاتِلُ لِمَ قَتَلَ، وَلاَ يَدْرِي المَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ! وَمَنْ يُقْتَلُونَ فِي الفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِ الحَقِّ يُوَازُونَ أَوْ يَزِيدُونَ عَلَى مَنْ يُقْتَلُونَ فِي سَاحَاتِ الجِهَادِ، وَلَرُبَّمَا كَانَتْ دِمَاءُ الفِتَنِ أَكْثَرَ غَزَارَةً مِنْ دِمَاءِ الجِهَادِ؛ وَلِذَا كَانَ لِزَامًا عَلَى المَرْءِ أَنْ يَنْظُرَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ أَيْنَ يَكُونُ؟! وَلِسَانَهُ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ وَيَدْعُو، وَقَلْبَهُ لِمَنْ يَعْقِدُ المَحَبَّةَ وَالوَلاَءَ، وَعَلَى مَنْ يُرْسِلُ الكُرْهَ وَالعِدَاءَ؛ فَإِنَّ الفِتَنَ تَجُرُّ النَّاسَ إِلَيْهَا، وَتَعْقِدُ الأَلْسُنَ فَتَنْطِقُ لَهَا، وتَقْلِبُ القُلُوبَ فَتُحِبُّ وَتَكْرَهُ وَتُوَالِي وَتُعَادِي لِغَيْرِ الله تَعَالَى، وَيَا خَسَارَةَ مَنْ سَفَكَ دَمًا أَوْ سُفِكَ دَمُهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَجْوَاءِ المُسَمَّمَةِ بِالفِتَنِ. إِنَّهَا الفِتَنُ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا الفَارُوقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: "أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ؟!"، فَأَجَابَهُ عَنْهَا حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَهَذِهِ الفِتَنُ تَنْشَأُ عَنِ التَّأْوِيلِ، وَمَا قُتِلَ مَنْ قُتِلَ فِي قِتَالٍ بَيْنَ المُسْلِمِينَ إِلاَّ بِالتَّأْوِيلِ، وَمَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ إِلاَّ بِالتَّأْوِيلِ، حِينَ يَتْرُكُ المَفْتُونُ اليَقِينَ وَيَتَّجِهُ للشُّبْهَةِ فَتَصْرِفُهُ بِالتَّأْوِيلِ عَنِ الحَقِّ إِلَى أَنْ يَزِيغَ، وَفِي آثَارِ التَّأْوِيلِ يَقُولُ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي كَلاَمٍ طَوِيلٍ نَفِيسٍ: "وَإِنَّمَا أُرِيقَتْ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ وَالْحَرَّةِ وَفِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَهَلُمَّ جَرًّا بِالتَّأْوِيلِ... فَمَا اُمْتُحِنَ الْإِسْلَامُ بِمِحْنَةٍ قَطُّ إِلاَّ وَسَبَبُهَا التَّأْوِيلُ؛ فَإِنَّ مِحْنَتَهُ إمَّا مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَإِمَّا أَنْ يُسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ بِسَبَبِ مَا ارْتَكَبُوا مِنْ التَّأْوِيلِ، وَخَالَفُوا ظَاهِرَ التَّنْزِيلِ، وَتَعَلَّلُوا بِالْأَبَاطِيلِ، فَمَا الَّذِي أَرَاقَ دِمَاء بَنِي جَذِيمَةَ وَقَدْ أَسْلَمُوا غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟! حَتَّى رَفَعَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ وَتَبَرَّأَ إِلَى اللَّهِ مِنْ فِعْلِ الْمُتَأَوِّلِ بِقَتْلِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ... وَمَا الَّذِي سَفَكَ دَمَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَأَوْقَعَ الْأُمَّةَ فِيمَا أَوْقَعَهَا فِيهِ حَتَّى الْآنَ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟! وَمَا الَّذِي سَفَكَ دَمَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَابْنِهِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ- غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟! وَمَا الَّذِي أَرَاقَ دَمَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَصْحَابِهِ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟! وَمَا الَّذِي أَرَاقَ دَمَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَادَاتِ الْأُمَّةِ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟! وَمَا الَّذِي أُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاء الْعَرَبِ فِي فِتْنَةِ أَبِي مُسْلِمٍ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟!... وَمَا الَّذِي قَتَلَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ الْخُزَاعِيَّ وَخَلَّدَ خَلْقًا مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي السُّجُونِ حَتَّى مَاتُوا غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟! وَمَا الَّذِي سَلَّطَ سُيُوفَ التَّتَارِ عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى رَدُّوا أَهْلَهَا غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟!". انْتَهَى.

وَفِتَنُ الدِّمَاءِ هِيَ أَعْظَمُ الفِتَنِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ؛ لِعِظَمِ أَمْرِ الدِّمَاءِ، وَلِسُهُولَةِ اسْتِبَاحَتِهَا بِالتَّأْوِيلِ، وَلِعَجْزِ العُقَلاَءِ عَنْ كَفِّ المُتَقَاتِلِينَ، وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَالفِتْنَةُ إِذَا وَقَعَتْ عَجَزَ الْعُقَلَاءُ فِيهَا عَنْ دَفْعِ السُّفَهَاءِ... وَهَذَا شَأْنُ الْفِتَنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال:25]، وَإِذَا وَقَعَتِ الفِتْنَةُ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ التَّلَوُّثِ بِهَا إِلاَّ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ تَعَالَى". اهـ.

إِنَّ أَمْرَ الدِّمَاءِ عَظِيمٌ، وَاسْتِحْلاَلَ دَمِ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ هُوَ كَاسْتِحْلاَلِ دِمَاءِ المُسْلِمِينَ جَمِيعًا: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة:32].

وَدَلَّتِ الأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ قَتْلَ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنَ الكَبَائِرِ، بَلْ مِنْ أَكْبَرِهَا، وَمِنَ السَّبْعِ المُوبِقَاتِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ "قَتْلَ المُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا"، وَ"لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللهُ فِي النَّارِ"، وَ"يَجِيءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ: هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟! فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ، فَيَقُولُ: فَإِنَّهَا لِي، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟! فَيَقُولُ: لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِفُلَانٍ، فَيَقُولُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِفُلَانٍ فَيَبُوءُ بِإِثْمِهِ"، وَإِنَّ المُؤْمِنَ "لَنْ يَزَالَ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ أَوْ ذَنْبِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا".

وَالفِتَنُ تُشْغِلُ العَبْدَ عَنِ العِبَادَةِ، فَإِذَا سَالَتِ الدِّمَاءُ جَرَّاءَ الفِتَنِ فَقَدْ تَصْرِفُ عَنِ العِبَادَةِ كُلِّيًّا، فَتَقْسُو القُلُوبُ، وَتَتَوَحَّشُ النُّفُوسُ، وَتَزُولُ الرَّحْمَةُ، وَيَتَسَلَّطُ الشَّيْطَانُ، وَيَكُونُ البَشَرُ وُحُوشًا فِي صُوَرِ أَنَاسِيٍّ، لاَ يُحَرِّمُونَ دَمًا وَلاَ عِرْضًا وَلاَ مَالاً، وَلاَ يَرْحَمُونَ امْرَأَةً وَلاَ مُسِنًّا وَلاَ طِفْلاً؛ قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "فِي الفِتْنَةِ لاَ تَرَوْنَ الْقَتْلَ شَيْئًا"؛ وَلِذَا كَانَ التَّوْجِيهُ النَّبَوِيُّ هُوَ البُعْدَ عَنِ الفِتَنِ، وَالتَّحَصُّنَ مِنْهَا بِكَثْرَةِ العِبَادَةِ، حَتَّى كَانَتْ كَثْرَةُ العِبَادَةِ فِي الهَرْجِ كَالهِجْرَةِ إِلَى النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-، وَاللهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالفَرَارِ إِلَيْهِ، وَالفَرَارُ إِلَيْهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِعِبَادَتِهِ: (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات:50]

ودِمَاءُ الفِتَنِ عِصْيَانٌ ظَاهِرٌ، وَخُسْرَانٌ مَاحِقٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَفِتَنُ الدِّمَاءِ ظُلْمٌ، وَالظُّلْمُ سَبَبٌ لِلْهَزِيمَةِ وَالفَشَلِ، وَظُهُورِ الأَعْدَاءِ عَلَى المُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ المُسْلِمِينَ إِذَا ضَرَبَ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ كَانَ فِيهِمْ ظَالِمٌ وَمَظْلُومٌ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يَرْضَى الظُّلْمَ، وَيُؤَيِّدُ بِالعَدْلِ دَوْلَةَ الكُفْرِ، وَيُدِيلُ لَهَا عَلَى المُسْلِمِينَ إِذَا اسْتَحَلُّوا دِمَاءَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَلَأَنْ يُخْطِئَ العَبْدُ بِمُجَانَبَةِ سَبِيلٍ فِيهِ خَيْرٌ عَظِيمٌ اتِّقَاءً لِفِتْنَةٍ مَظْنُونَةٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَرْتَكِسَ فِي فِتْنَةٍ تَتَلَطَّخُ فِيهَا يَدَاهُ بدِمَاءِ إِخْوَانِهِ المُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الخَطَأَ فِي العَفْوِ أَهْوَنُ مِنَ الخَطَأِ فِي العُقُوبَةِ، وَتَرْكُ مَنْ يَسْتَحِقُّ القَتْلَ أَخَفُّ إِثْمًا مِنْ قَتْلِ مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ القَتْلَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنِ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنُ، وَلَمَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهًا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

نَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى  - أَنْ يُجَنِّبَنَا الفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَنْ يَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِنَا بِالإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَأَنْ يَجْعَلَ وَلاَءَنَا لَهُ وَلِدِينِهِ وَلِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فيه كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالَى  - وَأَطِيعُوهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [الأنفال:24-25].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: يَجِبُ أَنْ يُشَاعَ فِي النَّاسِ فِقْهُ الفِتَنِ، وَكَيْفِيَّةُ تَجَنُّبِهَا، وَالاخْتِيَارُ فِيهَا، وَالخُرُوجُ مِنْ مَضَائِقِهَا بِأَقَلِّ الخَسَارَةِ، وَيَجِبُ أَنْ يُرَبَّى شَبَابُ المُسْلِمِينَ عَلَى تَعْظِيمِ دِمَاء المُسْلِمِينَ، وَشِدَّةِ التَّوَقِّي فِيهَا؛ لِأَنَّ ضَعْفَ الفِقْهِ فِي ذَلِكَ، وَقِلَّةَ الوَرَعِ وَالتَّوَقِّي تُؤَدِّي إِلَى كَوَارِثَ لاَ تُحْمَدُ عُقْبَاهَا، وَالأَعْدَاءُ المُتَرَبِّصُونَ بِالأُمَّةِ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالبَاطِنِيِّينَ إِنَّما نَالُوا مِنَ الأُمَّةِ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَ أَبْنَائِهَا، وَاخْتِرَاقِ صُفُوفِهَا، وَتَزْيِينِ الفِتْنَةِ لِأَفْرَادِهَا، فَصَارَ بَعْضُهُمْ يَضْرِبُ رِقَابَ بَعْضٍ، وَالأَعْدَاءُ مَسْرُورُونَ مُغْتَبِطُونَ.

وَلَمَّا ثَارَتِ الفِتْنَةُ أَيَّامَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- اجْتَنَبَهَا أَكْثَرُهُمْ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ رُؤُوسِ النَّاسِ، وَسَادَةِ المُهَاجِرِينَ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ ابْنُهُ أَنْ يُشَارِكَ النَّاسَ مَا هُمْ فِيهِ، فَقَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَيْ بُنَيَّ: أَفِي الفِتْنَةِ تَأْمُرُنِي أَنْ أَكُونَ رَأْسًا؟! لاَ وَاللهِ حَتَّى أُعْطَى سَيْفًا، إِنْ ضَرَبْتُ بِهِ مُؤْمِنًا نَبَا عَنْهُ، وَإِنْ ضَرَبْتُ بِهِ كَافِرًا قَتَلَهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وَكَتَبَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِالعِلْمِ كُلِّهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ: "إِنَّ العِلْمَ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْقَى اللهَ خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ دِمَاءِ النَّاسِ، خَمِيصَ البَطْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، كَافًّا لِسَانَكَ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، لازِمًا لِأَمْرِ جَمَاعَتِهِمْ فَافْعَلْ، وَالسَّلاَمُ".

إِنَّ مَا يَمُرُّ بِهِ المُسْلِمُونَ مِنْ ضَعْفٍ وَهَوَانٍ، وَمِنْ تَسَلُّطِ الأَعْدَاءِ عَلَيْهِمْ بِالفِتَنِ وَالحُرُوبِ قَدْ أَرْخَصَ دِمَاءَ المُسْلِمِينَ، وَاعْتَادَ النَّاسُ عَلَى مَنَاظِرِ القَتْلِ يَوْمِيًّا بِأَبْشَعِ الصُّوَرِ وَأَعْظَمِ التَّشَفِّي، وَهَذَا يُهَوِّنُ وَقْعَ القَتْلِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، حَتَّى يَأْلَفُوهُ، وَيُصْبِحَ البَشَرُ مُجَرَّدَ أَرْقَامٍ يُذْبَحُونَ كَمَا تُذْبَحُ الأَنْعَامُ، وَإِذَا سَيْطَرَ هَذَا الفِكْرُ عَلَى أَذْهَانِ النَّاسِ، مَعَ اجْتِهَادِ الأَعْدَاءِ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ صَارَ اسْتِحْلَالُ الدِّمَاءِ المَعْصُومَةِ أَهْوَنَ مَا يَكُونُ، وَبِأَبْرَدِ التَّأْوِيلاَتِ وَالتَّعْلِيلاَتِ السَّامِجَةِ، وَصَارَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ تَحْتَكِرُ الحَقَّ لَهَا، وَتَزْعُمُ أَنَّ غَيْرَهَا عَلَى ضَلاَلٍ، فَتَسْتَبِيحُ دِمَاءَ غَيْرِهَا، وَهَذَا هُوَ الهَرْجُ الَّذِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- عَنْ وُقُوعِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَتَضْرِبُ الحَيْرَةُ عُقُولَ العُقَلاَءِ، فَلاَ يَدْرُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ، وَإِلَى مَنْ يَصِيرُونَ، "حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ". وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الفِتْنَةِ وَالبَلاَءِ!

وَالدُّنْيَا بِأَفْرَاحِهَا وَأَحْزَانِهَا تَزُولُ، وَالعَبْدُ بِجَاهِهِ وَأَمْوَالِهِ وَمَكَاسِبِهِ عَنْهَا يَزُولُ، وَلاَ يَبْقَى لِلْعَبْدِ إِلاَّ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ، فَحَذَارِ حَذَارِ أَنْ يُتْلِفَ عَمَلَهُ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فِي فِتْنَةٍ عَمْيَاءَ، تَحْرِقُ حَسَنَاتِهِ، وَتُحَمِّلُهُ أَوْزَارًا لاَ قِبَلَ لَهُ بِهَا، وَلْنَأْخُذْ بِوَصِيَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا". وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا...