الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | خالد بن علي الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - أهل السنة والجماعة |
ليس هناك نعمةٌ إلهيةٌ بعد الإيمان أجلَّ ولا أعظمَ أثرًا من نعمة العقل، تلك الكرامةُ الربانيَّة التي هي من أكبر بدائِع صُنع الله الذي أتقنَ كلَّ شيء، وكل الدلائل والحقائق والبراهين تشهَدُ أن البشرية جمعاء شهِدَت الوفاقَ التامَّ بين منهَج الله ووحيِه، وبين العقل البشريِّ حينما جاء النبيُ محمدٌ - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذا الدين الكامل الهادي. وتكاثَرَت النصوصُ الشرعيَّةُ على ضرورة إعمال العقل واستِخدامه في التفكُّر والتذكُّر والنظر والتبصُّر والاعتبار، والاهتداء من أقرب الطرق وأصحِّها إلى معرفة الله وتوحيده..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آله وأزواجه وذرياته الطيبين الطاهرين، وسائر صحابتِه الكرام الأبرار الأطهار، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأُوصيكم ونفسي - عباد الله - بتقوى الله في السرِّ والعلانية؛ فإنها أعظمُ الكرامة، وهي التي وصَّى الله بها الأولين والآخرين، وضمِن للمتقين ألا يضِلُّوا ولا يشقَوا، ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
أيها المسلمون:
ليس هناك نعمةٌ إلهيةٌ بعد الإيمان أجلَّ ولا أعظمَ أثرًا من نعمة العقل، تلك الكرامةُ الربانيَّة التي هي من أكبر بدائِع صُنع الله الذي أتقنَ كلَّ شيء، وكل الدلائل والحقائق والبراهين تشهَدُ أن البشرية جمعاء شهِدَت الوفاقَ التامَّ بين منهَج الله ووحيِه، وبين العقل البشريِّ حينما جاء النبيُ محمدٌ - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذا الدين الكامل الهادي.
وتكاثَرَت النصوصُ الشرعيَّةُ على ضرورة إعمال العقل واستِخدامه في التفكُّر والتذكُّر والنظر والتبصُّر والاعتبار، والاهتداء من أقرب الطرق وأصحِّها إلى معرفة الله وتوحيده، والتعرُّف على أسرار التشريع والخلق والكون، وبدائِع أقدار الله وحِكَمه، والإفادة من ذلك كلِّه فيما يعودُ بالنفع والخير على العبد في دينِه ودُنياه وآخرتِه.
وأناطَت الشريعةُ قيامَ التكليف بتوافُر العقل، وضرورة حفظِه مما يُفسِدُه ويُغيِّرُه ويُعطِّلُ ملكَتَه ويطمِسُ نورَه، وجعلَت ذلك من الضرورات الخمس التي لا صلاحَ للعالَم إلا بالقيام بها والحِفاظ عليها. وأصبحَ التكامُل بين الوحي والعقل عنوان الشريعة، فلا تعارُض بين صحيح المنقول وصريح المعقول.
أمة الإسلام:
إن العقلَ الصحيحَ عُدَّةُ المرء في النوائِب، وجُنَّتُه في النوازِل، وقائدُه إلى الخيرات ودفع المضرَّات في العاجِل والآجِل، وإذا تمَّ العقلُ تم معه كلُّ شيء، وإذا فسدَ وذهبَ صارَ أمرُ العبد فُرُطًا، ولا تجمُلُ الحياةُ ولا يُستطابُ العيشُ إلا به، فهو يُعينُ العبدَ على معرفة طرق الصواب والرَّشَد فيسلُكُها، ويَستبينُ سُبُل الخطأ والغوايةِ فيجتنبُها.
والعقلُ والدينُ صِنوانِ لا ينفكَّان؛ فلا يتمُّ دينُ المرء حتى يتمَّ عقلُه، والعقلُ بلا دينٍ ضلالٌ وانفلاتٌ وغواية، والتديُّن بلا عقلٍ بريدُ الفهم المنكوس والسُّلوك المَشين، وضيق العطَن. وكم في ذلك من إساءةٍ إلى النفس والناس، وتشويهٍ لصفاء الإسلام ونقائِه.
وقد كان الحسنُ البصريُّ - رحمه الله - إذا أُخبِر عن صلاح رجُلٍ قال: "كيف عقلُه؟ فما تمَّ دينُ عبدٍ قطُّ حتى يتمَّ عقلُه".
ومِصداقُ ذلك من كلام الله - تبارك وتعالى -: (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [يونس: 100].
العقلُ من أجلِّ مواهِب الله لعبده، وكلما عظُم حظُّ العبد من العقل انتفعَ بمواعِظ القرآن وهداية الوحي أيَّما انتِفاع، وأمسكَ بمفاتيح الحضارة والرُّقيِّ، وتسخير أسباب الأرض وخيراتها للعيش فيها عيشةً كريمةً هانِئة، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46]، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق: 37] يعني: عقل (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
وبيَّن - سبحانه وتعالى - آياته الحسيَّة والمعنويَّة والآفاقية: لعلكم تعقِلون، وتتفكَّرون، وتتذكَّرون.
وأفضلُ قَسم الله للمرء عقلُه | فليس من الخيراتِ شيءٌ يُقارِبُه |
إذا أكملَ الرحمنُ للمرء عقلَه | فقد كمُلَت أخلاقُه ومآرِبُه |
سُئِل ابن المُبارك - رحمه الله -: ما أفضلُ ما أُعطِيَ الرجل؟ فقال: "غريزةُ عقل"، قيل: فإن لم يكن؟ قال: "أدبٌ حسن"، قيل: فإن لم يكُن؟ قال: "أخٌ صالحٌ يستشيرُه"، قيل: فإن لم يكُن؟ قال: "صمتٌ طويلٌ"، قيل: فإن لم يكُن؟ قال: "فموتٌ عاجل".
وقال لُقمانُ لابنِه وهو يعِظُه: "يا بُنيَّ! اعلَم أن غايةَ السُّؤدَد والشرف في الدنيا والآخرة حُسن العقل، وإن العبدَ إذا حسُن عقلُه غطَّى ذلك عيوبَه وأصلحَ مساوئَه".
وسُئِل قتادةُ - رحمه الله -: أيُّ الناس أغبَط؟ قال: "أعقلُهم". وسُئِل: أيُّ الناس أعلَم؟ قال: "أعقلُهم".
ولذلك قالوا: "عدوٌ عاقلٌ خيرٌ من صديقٍ جاهل".
أيها المسلمون:
إن العقلَ الذي مدحَته الشريعة ورفعَت من شأن صاحبِه، وحثَّ القرآنُ في خطاباته على استِدعائِه لإعماله والإفادة منه، كقوله - عز وجل -: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة: 269]، وقوله: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [البقرة: 44]، (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [القصص: 72]، (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [الحشر: 2]، (أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) [الأنعام: 50]، وغير ذلك كثير.
ليس هو العقلُ الغريزيُّ فحسب؛ بل هو قدرٌ زائدٌ على مجرد الآلة والملَكة، إنه الفهمُ عن الله وعن رسولِه - صلى الله عليه وآله وسلم -، الفاتِحُ لأبواب البركات والعطايا، الجاعلُ ما على الأرض من زينةٍ للخيرات والفلاح مطايا، المُعينُ على الطاعات واجتِناب السيئات والرزايا. إنه العقلُ الذي يعقِلُ صاحبَه عن المساوئ والدنايا، ويُطلِقُه في اكتِساب الفضائل وكريم السجايا.
العقلُ الذي يحجُزُ صاحبَه عن خوارِم المروءة وقوادِح الشرف، وسِفساف الأمور، ويحمِلُه على معالي الأخلاق وكرائِم الصفات. العقلُ الذي يرفعُ الأفرادَ والأُمم لتصلُح للاستِخلاف في الأرض فتعمُرَها حضارةً وتقدُّمًا ورُقيًّا.
هذا هو العقلُ الممدوحُ في الشريعة الذي أراد الله من خلقِه أن يتَّصّفُوا به، ويتحلَّوا بزينتِه، ويستثمِروه في كل نافعٍ ومُفيد. هذا هو العقلُ الذي رتَّب الله عليه بلوغَ الكمالات، وحصولَ الهُدى والفلاح، والنجاة من الآفات الحضارية، والأمراض القلبية والأخلاقية، فيرضَى الله عن صاحبِه، ويُبارِك له في حياته، وينتفعُ بهذه الموهِبة نفعًا عظيمًا، ويُصبِحُ شامةً مُتميِّزًا بين الناس.
ومن أجل عدم فهم الكفار لحقيقة العقل الممدُوح في الشريعة، قالوا: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10].
ولما سُئل عالِم مكة وفقيهُها عطاءُ بن أبي رباح - رحمه الله -، لما سُئل عن أفضل عطايا الله لعبده، قال: "العقلُ عن الله".
فالعقلُ عن الله والفهمُ لخطاباته ومُراداته هو البابُ الأكبر للحصُول على خيرَي الدنيا والآخرة، وهو في الحقيقة تمكينٌ للعقل من تحقيق المقصُود من إيجاده وخِلقَته.
أيها المسلمون:
إن معرفة حقيقة العقل الممدُوح في الشريعة، وضرورة حِفظِه فيما يُرضِي الله - سبحانه وتعالى - يُصحِّحُ عند الناس مفهوماتٍ خاطئةً في كيفية استِعماله؛ حيث وظَّف بعضُهم ملكَة ذكائِهم وعقولَهم في نشر الأفكار والآراء الضالَّة، وتوليد الشُّبَه والأهواء المُضِلَّة، والحِجاج لها لإضلال الناس.
وتفنَّن فِئامٌ في أساليب المكر والدهاء والحِيلة والخِداع، وإلحاق الضرَر والأذَى بالناس في دمائِهم وأموالِهم وأعراضِهم ومكانتِهم، وعند أمةٍ من الناس غلبَت المعرفةُ بزينة الحياة الدنيا وشهواتها، والمُنافسةُ فيها على المعرفة بأمور دينهم وآخرتهم، وظنَّ أولئك كلُّهم أن ذلك هو العقلُ كلَّ العقل.
إن هذا العقلَ المعيشيَ المصلَحيَّ الذي يُفكِّرُ به البعضُ لهو سببُ كثيرٍ من المُشكِلات الحضاريَّة والأمراض النفسية والسلوكية والتربوية والاجتماعية، وعلَّةُ عِلل الكثيرين الراضِين بالتخلُّف مع الخوالِف الذين كرِه الله انبِعاثَهم فثبَّطهم وخذلَهم فقعدوا مع القاعِدين.
ولو أنهم أرادوا الخلاصَ من مُشكِلاتهم وأمراضهم، والانعِتاق من التخلُّف الحضاريِّ لأعدُّوا لذلك عُدَّته، وأعملوا هذه الملكَة العظيمةَ والهِبةَ الربَّانيَة فيما يعودُ عليهم وعلى مُجتمعهم وبلادِهم بكل خيرٍ وصلاحٍ وفلاحٍ، ولتخلَّصوا من الآفات والمُفسِدات الحسيَّة والمعنويَّة التي تغتالُ العقلَ، وتُقيِّدُه عن الإبداع والإنتاج المُفيد.
ومن أشدِّها أثرًا: الخوضُ فيما استأثرَ الله بعلمِه، وحجبَ العقولَ عن إدراكه، والأفكار الضالَّة والأهواء المُردية، والخُرافات، والتقليد المذموم، والتعصُّب والتبعِيَّة المقيتة، والمعاصي القلبية، وذنوب الجوارِح، والخمرُ والمُخدِّرات والمُسكِرات، وغيرُ ذلك من العِلَل التي تُكبِّلُ العقل، وتتسلَّلُ إليه فتُعطِّله وتحرِفُه عن المقصُود من إيجاده وخِلقَته، وتُؤثِّرُ فيه، وتسلُبه نورَه وبركتَه. كما قال الله - تبارك وتعالى -: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا) [الأعراف: 179].
وثبتَ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - عند الإمام أحمد والشيخين: «أنه يُقال للرجل: ما أظرفه، ما أعقله، وليس في قلبِه مِثقالُ حبَّةٍ من خردَلٍ من إيمان».
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقولُ قولِي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهِه وعظيم سُلطانه، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبِه.
وبعد، أيها المسلمون:
إن العقلَ هو آلةُ الفهم والوعي والإدراك، وهو يعملُ بكل كفاءةٍ واقتِدارٍ إذا استنارَ بنور الوحي وآداب النبُوَّة، واستفادَ من تجارب الناس، واعتبرَ بأحداث الحياة والتاريخ وتقلُّب الأيام وتبدُّل الأحوال، ومصارِع الغابرين. فإذن كل ذلك يزيدُ من عقله الغريزيِّ ويُوسِّعُه ويُنمِّيه، ويُكسِبُه عقلاً واعيًا سديدًا مُجرِّبًا.
ويظهرُ عقلُ العاقل المُهتدِي بنور الله، المُجرِّب الواعي في مواطِن كثيرة؛ فهو لا يُقدِّم على أمر الله وأمر رسولِه - صلى الله عليه وآله وسلم - شهوةً ولا شُبهةً ولا قولاً ولا رأيًا، وإذا اجتنبَ عليه أمران اجتنبَ أقربَهما إلى الهوى، وهو دائِمُ التفكُّر والتذكُّر والاعتِبار بالمآلات والأحوال، والمُحاسَبة للنفس، مما يُعينُه على حسم الداء قبل أن يقعَ فيه، وتقديم العافية على البلاء، فإذا ابتُلِي رضِيَ وصبَر.
وهو يعلمُ أن البلاءَ مُوكَّلٌ بالمنطِق، فلذلك تراه يحرِصُ على الصدق ويتخيَّرُ الكلام النافع المُفيد، ويحذرُ من آفات اللسان المُردِية التي تقدَحُ في عقله ومروءته؛ من الكذب وهو أشنعُها، والغِيبة والنميمة، والشماتة.
وهو لا يأمرُ الناسَ بالبرِّ وينسَى نفسَه، ولا يسألُ عن أشياء لا تنفعُه ولا تَعنِيه، ولا يتكلَّمُ فيما لا يُحسِنُه؛ فمن حُسن عقل المرء وإسلامه تركُه ما لا يَعنيه، ومعرفته مِقدارَ نفسِه.
والعاقلُ يعلمُ حقيقةَ الدنيا، وأنها متاعٌ زائلٌ، ولهوٌ ولعبٌ وتفاخرٌ وتكاثُرٌ في الأموال والأولاد، وزينةٌ تخلُبُ الألباب، وتغُرُّ أهلَها، وتميلُ بصاحبِها، فيأخذُ عرَضَ هذا الأدنَى ويقول على الله غيرَ الحقِّ،(وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأعراف: 169]، (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [القصص: 60].
أيها المسلمون:
ليس هناك أحرصَ من العاقل على جمع الكلمة والوحدة، والأُلفة، والتغافُل عن الهفَوات والزلاَّت، ونبذ التفرُّق والنزاعات والخُصومات، والتحريش الشيطاني.
وزينةُ العاقل التواضُع للناس كافَّة، وإنزالُهم منازِلهم، ومُعاملتهم بظواهِرهم، وتركُ سرائِرهم إلى ربِّهم. وهو لجَودة عقله لا يحسُد أحدًا، ولا يحتقِرُ، ولا يحمِلُ الحقدَ من تعلُو به الرُّتَبُ، ولا يستخِفُّ بأحد، فإن من احتقرَ العلماء والأتقياء أهلكَ دينَه، ومن استخفَّ بالسلطان واستهزأَ به أفنَى دُنياه وأهانَ نفسَه، ومن تتبَّع عوراتِ إخوانه خرمَ مروءَته وأزرَى بنفسِه.
وحُسن السَّمت، وطُولُ الصمت، والرَّزانةُ من دلائل عقل العاقل الذي لا تستفِزُّه الأحداث، ولا يستخِفُّه الذين لا يُوقِنون، ولا تستجِرُّه الأهواءُ، ولا تطيشُ به النَّزَوات.
والعاقلُ هو الذي قد غلبَ حلمُه غضبَه، وعدلُه ظُلمَه، وتواضُعُه تكبُّرَه، وإنصافُه بغيَه وإجحافَه، وتثبُّتُه تسرُّعَه، وأناتُه وتروِّيه عجلَتَه وطيشَه، وصبرُه جزعَه، ووقارُه حُمقَه، ومُشاورتُه للعُقلاء استِبدادَه برأيه، وحُسن تدبيره واقتِصادُه في معاشِه تفريطَه وتضييعَه، ومروءتُه وترفُّعُه حِرصَه على الشرف والجاه. فكم أذلَّ الحرصُ والطمع أعناق الرجال؟!
وهو يُجِلُّ الكبير ويرحمُ الصغير، ويبرُّ والدَيه، ويعطِفُ على أهله وعِياله، ويُكرِم جارَه وضيفَه، ويصِلُ أرحامَه، ويهتمُّ بأمر المُسلمين، ويُعينُ على نوائِب الدهر.
وبكل حالٍ فهو إلى كل خيرٍ أسرَع، وعن كل زلَّةٍ وخطأٍ يُنيبُ ويرجِع. فلله ما أهنأَ عيشَه! وأطيبَ حياته! وأسعدَ نفسَه! وأشرحَ قلبَه وصدرَه! وتلك جنَّةٌ مُعجَّلةٌ في الدنيا، لا يدخلُها إلا المُوفَّقون المُسدَّدون الذين عقَلوا عن الله وعن رسولِه - صلى الله عليه وآله وسلم -.
أيها المسلمون:
النساءُ شقائِقُ الرجال، ولهن في كل ما ذُكِر نصيبٌ وافِر، وكم من نساء المُسلمين من كان لها في الماضِي والحاضِر مواقِفُ العُقلاء، ومروءةُ النُّبلاء. ونُقصانُ عقل المرأة إنما هو في أن شهادةَ رجلٍ تعدِلُ شهادةَ امرأتَين ليس إلا، كما بيَّن ذلك النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -. فكفُّوا - أيها الناس - عن تعيير المرأة بذلك، بعد بيان رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.
ثم صلُّوا على سيِّدنا وحبيبِنا رسولِ الله، فإن الله - عز وجل - قد أمرَنا بالصلاة والسلام عليه؛ حيث قال في مُحكَم تنزيله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وثبتَ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - عند الإمام أحمد أنه قال: «أتاني آتٍ من ربِّي - عز وجل - فقال: إن الله كتبَ على من صلَّى عليكَ صلاةً واحدةً كتبَ له بها عشر حسنات، ورفعَ له بها عشرَ درجات، ومحا عنه عشرَ سيئات، وردَّ عليه مثلَها».
فاللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا وحبيبِنا وسيِّدنا وقُدوتنا محمدٍ، وعلى آله وأزواجه وذريَّاته، وسائر صحابتِه الكرام الأبرار الأطهار، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَك، وكتابَك، وسُنَّة نبيِّك، وعبادَك الصالِحين.
اللهم انصُر إخواننا المُسلمين المُستضعَفين في كل مكان، الله اللهم انصُر إخواننا المُسلمين المظلُومين في بلاد الشام، وفي فلسطين، وفي العراق، وفي اليمَن، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضاه، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضاه، وأعِنه وسدِّده وأيِّده بروحٍ منك يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه صلاحُ العباد والبلاد، واجعَلهم مفاتيحَ للخير مغاليقَ للشرِّ برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفِر لنا وارحمنا، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ولجميع المُسلمين.
اللهم أكرِمنا ولا تُهنَّا، وأعطِنا ولا تحرِمنا، وارفَعنا ولا تضَعنا، وزِدنا ولا تنقُصنا، وآثِرنا ولا تُؤثِر علينا، وانصُرنا ولا تنصُر علينا، وكُن معنا ولا تكُن علينا، اللهم انصُرنا على من ظلمَنا، اللهم انصُرنا على من عادانا، اللهم انصُرنا على من بغَى علينا، اللهم لا تُشمِت بنا الأعداء ولا الحاسِدين برحمتِك يا أرحم الراحمين.
وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعين.