الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | فهد بن سعد أبا حسين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التوحيد |
إذا علم المؤمن بأن الله -سبحانه- هو العليم الحكيم، الذي كمل علمه، وكملت حكمته، فلا بد أن يعلم أن علم الإنسان قليل، وأن مبنى العبودية الإيمان بالله والتسليم، وعدم التنطع في السؤال عن الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، فالله -جل وعلا- يقضي بما يشاء من تحليل وتحريم، وله الحكمة البالغة، فليس لأحد أن يراجع الله في حكمه، كما يراجع الناس بعضهم البعض في أحكامهم: (وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [الرعد: 41]. فالمؤمن لا يسأل: لم أمر ربنا؟! وإنما يسأل: بم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
أما بعد:
من أسماء الله -جل وعلا-: "الحكيم".
والحكمة، هي: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها[تيسير الكريم الرحمن، للشيخ عبد الرحمن السعدي (5/621)].
والله -جل وعلا- هو الحكيم الذي له الحكمة العليا في خلقه وأمره.
الحكيم في أقواله، الحكيم في أفعاله، الحكيم في تدبيره.
فلا يفعل شيئا عبثا، ولا لغير مصلحة وحكمة، ولا يشرع شيئا سدى، ولا يدخل في تدبيره خلل ولا زلل: "حكمة بالغة".
والله -جل وعلا- له الحكم في الأولى والآخرة.
وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك؛ فيحكم بين عباده في شرعه، وفي قدره، وفي جزائه[انظر للفائدة: تيسير الكريم الرحمن للشيخ عبد الرحمن السعدي (5/621)].
وإذا تأملت في حكمة الله -جل وعلا- انبهر عقلك من حكمته؛ فكل حكيم في الدنيا جلست معه، وانبهرت من رأيه وحكمته، فالله -سبحانه- هو الذي علمه، فالله هو الحكيم، وهو الذي علم الحكماء الحكمة: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء)[البقرة: 269].
أحكم جميع ما خلقه وأتقنه بأحسن خلق، وأتم نظام، لا يمكن أحد من الخلق أن يقترح أحسن منه؛ فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، وخلق الحيوانات باختلافها والطيور بأنواعها وأشكالها وألوانها: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ)[لقمان: 11].
أعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات، وكل عضو من أعضاء الحيوانات خلقه، وهيئته اللائقة به، لا ترى فيه خللا ولا نقصا: (مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ) [الملك: 3].
بل لو اجتمعت عقول الخلق ليقترحوا مثلا لهذه الموجودات لم يقدروا ولن يقدروا: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل: 88][انظر للفائدة: التوضيح المبين لتوحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية (ص73)].
والله -جل وعلا- كما لا يشبهه أحد في صفاته في العظمة والحسن والجمال، فكذلك لا يشبهه أحد في أفعاله.
والله -جل وعلا- هو الحكيم الذي لا يفعل شيئا عبثا، ولا لغير مصلحة وحكمة؛ فخلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية جليلة، وهي عبادته -سبحانه-، فلم يخلقهم عبثا: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص: 27].
والله -جل وعلا- هو الحكيم الموصوف بكمال حكمته في أمره وشرعه، فلا يأمر سبحانه ولا ينهى، إلا بما فيه المصلحة والحكمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
ومن أعظم الحكم: معرفته سبحانه وعبادته؛ فشرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل؛ ليعرفه العباد ويعبدوه، فأي حكمة أجل من هذا؟ وأي فضل وكرم أعظم من هذا؟ فإن معرفته سبحانه، وعبادته وحده لا شريك له، وشكره، والثناء عليه؛ أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق؛ كما أنها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية، والنعيم الدائم.
فإذا علم العبد بأن الله -سبحانه- هو الحكيم، وشاهد شيئا من آثار حكمته -سبحانه- في خلقه وإتقانه لصنعه؛ أثمر ذلك في قلبه محبة عظيمة لله -عز وجل-؛ لما شاهده من هذا الخلق البديع، والصنع المتقن.
ومن شاهد آثار حكمته سبحانه؛ أثمر ذلك في قلبه تعظيم الله -تعالى-، والخوف والحياء منه سبحانه، والتأدب معه.
وإذا شاهد المؤمن آثار حكمته سبحانه في أوامره ونواهيه الشرعية التي فيها مصالح العباد والبلاد؛ شعر بالغبطة والسرور بالهداية لهذه الشريعة العظيمة التي هي من لدن حكيم خبير، وأذعن لأحكامه سبحانه الدينية، وأوامره الشرعية.
وإذا علم المؤمن بأن الله -سبحانه- هو العليم الحكيم، الذي كمل علمه، وكملت حكمته، فلا بد أن يعلم أن علم الإنسان قليل، وأن مبنى العبودية الإيمان بالله والتسليم، وعدم التنطع في السؤال عن الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، فالله -جل وعلا- يقضي بما يشاء من تحليل وتحريم، وله الحكمة البالغة، فليس لأحد أن يراجع الله في حكمه، كما يراجع الناس بعضهم البعض في أحكامهم: (وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [الرعد: 41].
فالمؤمن لا يسأل: لم أمر ربنا؟! وإنما يسأل: بم أمر ربنا، وقدمُ الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم، وذلك يوجب تعظيم الرب -تعالى-، وأمره ونهيه.
وإذا علم المؤمن بأن الله -سبحانه- هو الحكيم، فليعلم أن كلام الله أيضا حكيم: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) [يونس: 1].
فالقرآن كتاب حكيم ومحكم، حكيم في أسلوبه، حكيم في هدايته ورحمته، حكيم في إيضاحه وبيانه، حكيم في أمره ونهيه، في ترغيبه وترهيبه، ووعده ووعيده، حكيم في قصصه وأخباره، في أقسامه وأمثاله، حكيم في كل ما اشتمل عليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها الأحبة: الله -جل وعلا- هو الحكيم الذي له الحكم كله في الدنيا والآخرة، سواء الأحكام الكونية القدرية، يعني ما قضاه الله وقدره، أو الأحكام الدينية الشرعية التي أمر بها أو نهى عنها.
فحكم الله -جل وعلا- نوعان:
الأول: حكم كوني قدري، فما قضاه الله على العبد، فالواجب على العبد التسليم، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
الثاني: الحكم الشرعي الديني، فإذا أمر الله بأمر شرعي، وحكم به، فالواجب التسليم والانقياد، وترك المنازعة.
وهذا تسليم العبودية المحضة لله، فإذا تلقى ذلك، وانقاد وسلم وأذعن، بقي انقياد وتسليم آخر، وهو العمل والتنفيذ، فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهة تعارض إيمانه وإقراره.
وهذا هو القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق، وشهوة تعارض الأمر؛ فهذا حق الحكم الديني.